لدَيَّ بعضُ ملامِح، وبِضْعُ صُورٍ مِنْ حياتهِ القصيرةِ المتراقِصَةِ كأفكارٍ مُضيئَةٍ... أنا الَّذي لن أُفرِّطَ في الطِّفلِ البرِيء الَّذي كُنتُه وَيَسْكُنُنِي، ثم هأنذَا جَمْرَةٌ ساخنةٌ تشرعُ في الانطفاءِ مِنْ قَسوَةِ بردِ وقُبْحِ هذا العالمِ، أشعرُ بشفَقَةٍ يشوبها المزاحُ وأنا أداعِبُ ابني الصَّغيرَ أضمُّهُ وأعانِقُهُ، أشمهُ، أُقَبِّلُهُ وهو يلاكِمُني، فأتظاهرُ بالسُّقوطِ يمنةً ويسرةً، وكالببَّغاءِ كان يردِّدُ كل ما يسمعهُ من كلماتٍ، يتلعثَمُ ويُتَعْتِعُ حتى تنسابَ الكلماتُ، وتتمَطَّط دلالات جديدة دافئة، ومن فرطِ الحبِّ حين كنتُ أُطَوِّقهُ بذراعي كوحشٍ ضخمٍ ضار يريد الانقضاضَ على فريستهِ، إذا بهِ يقِفُ، ثم ينظرُ ثم يعدُو صائحاً النَّجْ...دااااااة.. النَّجْدَة... وكأنَّهُ يحاكِي ما يراهُ من رُسومٍ مُتَحرِّكةٍ على الشَّاشَة، كانت تستبِدُّ بهِ نَشوَةٌ عارمةٌ فتحلُّ السَّكينَة على كلِّ الأرجاءِ محلَّ الجلبَةِ والحرَكةِ عندما يرى تلكَ الرُّسوم، حركاتُ القِطِّ المتوَثِّبِ القاهرِ، ومَقالِبُ الفأرِ العنيدِ.
وحينما كنتُ أريدُ إغلاقَ شاشةِ التلفازِ أو الانتقالِ إلى معرفةِ الأخبارِ وما يجري في قريتنا الصغيرة، يأخذُ جهازَ التَّحكُّمِ وينتقلُ بينَ الصور فتغدُو مُسرِعَةً كالبرقِ الخاطفِ ثم يرمي الجهازَ ويعدُو وسطَ الدَّارِ إلى المطبخِ، ثم يَتْرُكُني وَحْدِي مع بردِ وقُبْحِ العالمِ، حيثُ الحربُ والدَّمارُ، والظُّلْمُ والصُّراخُ، والأنينُ والغازاتُ والجرْحَى، والصورُ المفْجِعَةُ والحوادثُ ووحشيةُ المجازِرِ، وازدحامُ الجثتِ وموتُ الأبرياءِ والزلازل والفيضانات والاحتيال والانتهازيين والسماسرة والانتخابات وغياب المعنى... فلا أجدُ أيَّ شيءٍ جديدٍ، أو ما يبعثُ على الاطمئنانِ... فالأخبارُ هي الأخبارُ، والقنواتُ بلا عددٍ، فبعدما كانت تنقل الأخبار، فها هي الآن تشاركُ فيها بل تصنعها وتضحكُ على من يعتقد فيها، والوجوهُ هي الوجوه، وجوهٌ أَدْمَنتُها حتى خبرتها، وصارت تَعْرِفُني، ولا أدري لم صرتُ كلَّما نظرتُ إليها أشعرُ بالتَّقزُّزِ والحنَقِ والدُّوارِ والغثيانِ والضَّجَرِ... أغمضتُ عيني وتركتُ قلبي يمسحُ المسافةَ الفاصلةَ بيني وبينَ ما يجري في ساحات قريتنا الحياتية... وليسَ سوى هُنيهةٍ حتى سمعتُ جلبةَ طِفلِي وهو يعدُو سريعاً يمتشِقُ حصانَهُ الخشَبي ويمرحُ وسطَ الدَّارِ، وفي يديهِ قطعةُ خُبزٍ وبعضُ البطاطِسِ المقليةِ، فيما كنتُ أمتشِقُ أحلامي المتَشابِكَة، أناديهِ فلا يجيبُ، وفجأةً يقفُ ببابِ الغُرْفَةِ قُربَ الجهازِ، محرِّكاً رِجْلَيْهِ كما لو أنَّه يرقصُ، يَقْضُم خُبزَهُ، يرى ويسمعُ ثم يردِّدُ الكلماتِ كالببَّغاءِ...
كان طفلي يكتفي بالنَّظرِ ويهَمْهِمُ بكلماتٍ، وكأنَّه يرددُ وراءهُ كلَّ ما كان يسقُطُ من كلماتٍ ركيكةٍ مُكَرَّرَةٍ ممطوطةٍ ومبتذَلَة على مسمعه وهو ينظر إلى الشاشة، كما الكلماتُ بهذا الجهازِ فأرٌ مخادعٌ مثلَ الزِّئبَقِ، ماءٌ ينفلتُ منْ بينِ الأصابعِ، فأشرب عطشي الَّذي لم يُرو، وكي أنسى ما ينتظرُ طفلي وكل الأطفالِ من المجهولِ ومن وجَعٍ، أتناسى وأرسمُ ابتسامةً عريضةً من الآمالِ من جديدٍ فلربما تولد الألوانُ والكلماتُ الحلوةُ وأنا أعرفُ أنَّ مآلها العمق السَّخيفُ، وسيصيبني الدُّوارُ مِنْ جَديدٍ... وقبل أن أغلقَ الشَّاشة، كان ذلك آخر صوتٍ نقَلَتْهُ القَناةُ قَبْلَ أن ينقطِعَ التيار الكهربائي، ثم أُحاوِلُ أنْ أُسْعِدَ طفلي فأفاجئهُ بِقَوْلِي: غداً سنذهبُ إلى البحرِ، ثم يَرُدُّ ابني:
- متى سنذهب؟
- غداً يا بني سنذهبُ.
- سنذهبُ إلى ساحةِ الألعابِ!
- لا، إلى البحرِ للسِّباحةِ.
- (يردد) متى سنذهبُ؟
- غداً إن شاء الله.
- بل الآن يا أبي... ثم يلاكِمُني ويجري مستنجداً، وأتَظاهَرُ بالسُّقوطِ وكأنَّهُ أصابني بالضَّربَةِ القاضية.
- غداً بمجردِ ما سيضعُ رجلهُ على رمالِ الشَّاطِئ سَيَعْدُو من غيرِ هَوادَةٍ نحْوَ البحْرِ، وسيقول: ضُمَّني أيُّها البحرُ، سينفُذ إليهِ دونَ تفكيرٍ، فَطِفلِي يعشقُ الماءَ كثيراً وسأعدُو خلفَهُ، وسيصرخُ بأعلى صوتهِ طالباً النجدة خوفاً من الغرقِ، وسأُلاحقُه وأمسكهُ أضُمُّه وأعانقه، أشمُّهُ، أقبِّلهُ وهو يُلاكِمُني، فأتظاهَر بالسُّقوطِ يمنةً ويُسْرَةً، وكالببَّغاءِ سيردِّدُ كل ما يسمعهُ من كلماتٍ... وسيلاكمني وأنا أتظاهَرُ بالسُّقوطِ على الرِّمالِ أو قُربَ الماءِ، فأشربُ عطشي هذه المرة مالحاً؛ كي أنسى ما ينتظرهُ طفلي وكلُّ أطفالِ العالمِ من مجهولٍ، ولن أستطيع أن أرويَ لهُ أيَّةَ حكايةٍ فيما بعد، ستَجفُّ كلُّ القِصَصِ والحكاياتِ.
بعد اليوم كلُّ ما أدركهُ هو أنهُ لولا العناية وَالأَلْطَافُ الربانِيَةُ لغاص في أعماق البحرِ، ولن يكتشفَ أنه لا يعرفُ السِّباحَة إلاَّ بعدَ فَواتِ الأوانِ.
ثم هأنذَا جمرةٌ ساخنةٌ تشرع في الانطفاءِ منْ قَسوَةِ بردِ العالمِ وقُبْحِهِ، أشعرُ بشفقَةٍ يَشُوبها الِمزاحُ وأنا أقَبِّلُ ابني الصغيرَ وأسترجعُ القليلَ من الأحداثِ، مع ذلك سأتحدَّى لأجعلَ الكَهْلَ الَّذِي معي الآنَ، يضحكُ من قُبْحِ العالمِ وقسوةِ برده، ويُطَوِّقُني بذراعَيْهِ ولن أسْقُطَ يمنةً أو يسرةً، وسأعرفُ السباحَةَ قبلَ فواتِ الأوانِ.