صرخ الصوت موبخا:
((ما هكذا أُمِرْنا يا هذا! أين إحسانك يا فتى؟ أعد شحذ النصل جيدا حتى يغدو قطّاعا بتّارا فيكون تذكرتك للجنة.. إن استطاع أبو عبد الرحمن أن يجتث به من الضربة الأولى ودون كثير من العناء)).
سكت الصوت، فتعالت أصوات رجال تهلل للجنة.
اقترب الصوت منها. وقع حذائه فوق الحجارة والحصى يعلو. صاحب الصوت ساحر عراف استطاع أن يعرف كل شيء عنها بمجرد رؤيته لها، ودون أن يقرأ كفها أو عينيها، فقد وصلت إليه معصوبة العينين ويداها مقيدتان خلف ظهرها، وبالرغم من ذلك ناداها باسمها، وعلم اسم والديها وعنوان منزلها، واسم مدرستها الثانوية التي ترتادها في هذا العام. قرأ أحلامها فعرف بأن أمنيتها الكبرى هي رؤية ضيعة والدتها – مرمريتا – فأخبرها أنهم بالقرب منها ووعدها بأن يرسلها إليها في هذا اليوم وخلال وقت قصير جدا، وأن دخولها إليها سيكون يوما لن تنساه الضيعة أبدا. ثم قدم لها ما أسماه هدية وصولها إليهم.. ركلة عنيفة من حذائه الضخم إلى معدتها، تلك الركلة التي فجرت في داخلها بركانا يطلق حمما دافئة بطعم معدني مقرف.
أصبح الصوت بقربها، فقال:
((طريق الجنة شائك صعب، يحتاج إلى تضحيات وإلى قلب لا يرحم أعداء الله)).
((وأنا لها يا أمير)).
كان الصوت يتحدث مع من يدعونه أبي عبد الرحمن، والذي حفظت سيدرا صوته وأطلقت سمعها لتتبع تحركاته لأنه يذكرها بأبيها كثيرا. فكلاهما يكنى بأبي عبد الرحمن، وكلاهما يملك ذات الصوت مع عدم قدرتهما على نطق حرف الراء بشكل جيد. كلاهما يحلم بالجنة. والدها غادر منزلهم منذ أشهر قليلة طمعا في الجنة.
كلامهم عن الجنة أعاد ذكرياتها إليها، فقد عاشت فيها أسبوعا كاملا، بعد أن أعطت الحُجة سميرة أمرا لزوجة والدها سحر بأن تسجنها في حمام منزلهم حتى يعود الرشد إليها.
لو علمت الحُجة سميرة بأن سجنها الانفرادي أصبح جنتها ونعيمها لحرمتها منه منذ اليوم الأول. والآن تندم سيدرا أنها أمضت ساعاتها الأولى فيه بالبكاء والنواح. لكن كل شيء تغير ما إن تذكرت كلام آنستها. قالت المرأة التي تعلمها الدين والفقه إنه يتوجب عليها أن تخشى الحمامات، لأنها بيوت للشياطين وأن الملائكة لا تدخلها مطلقا.
أصبح سجنها جنتها بعد أن أدركت أنها تستطيع أن تفعل ما تريد دون أن يشي بها أحد الملائكة مجددا، فكم تعذبت وعوقبت بسبب وشاياتهم!
في المرة الأخيرة، قبل سجنها بيوم واحد، وأثناء انتظارها لبدء أحد الدروس الدينية التي طالما أجبرها والدها وسحر على حضورها، أخبرت صديقتها برغبتها في الهروب الى حياة جديدة لا دروس للدين فيها، فسمعها أحد الملائكة وفضح أمرها وأعلن سرها.
كان الملاك صادقا لم ينقل كلمة لم تقلها، لكنها استاءت منه ، فهو يستمر بالوشاية بها وبكل صديقاتها، حتى بتن لا يستطعن أن يخفين شيئا عن آنسة الدين الخاصة بهن، فيقومون بإخبارها بكل ما يقومون به أو يسمعونه أو يفكرون فيه!
في جنتها التي ظنوها سجنا، استطاعت أن تطلق العنان لشعرها دون أن تقيده تحت طبقات من الأغطية. استطاعت أن تتخلص من الفستان المنسدل ذي الأكمام الطويلة والعنق المقفول، الزي الذي توجب عليها ارتداؤه في الليل وفي النهار، في الصيف وفي الشتاء، ذاك الزي الذي تمقته بشدة، وذلك كي تنعم الملائكة بتجول مريح في منزلها دون أن تتأذى من رؤية أي جزء من جسدها.
كانت تفعل ما يريدون، فقد أخبرتها آنستها بأن الملائكة تنفر من الشياطين، وأن جسدها مفتاح للشيطان وأداته، لذا يتوجب عليها أن تبقيه خاضعا لسلطان الرقيب المحاسب حتى تنعم البشرية بعالم ملائكي هانئ.
لكن هنا، في مرتع الشياطين الذي سجنوها به، يحق لها أن تفعل ما تريد، لذا أطلقت العنان لحنجرتها تشدو ليل نهار بكلمات الأغنية الوحيدة التي حفظتها منذ كانت في السادسة من عمرها، حيث كانت تجلس بجوار والدتها على فراش مرضها الأخير، تقبلها وتداعب شعرها، وتغني:
((خذني على تلات هالحلوين ، خذني على الأرض الي ربتنا ، انساني على حفاف العنب والتين ، اشلحني على ترابات ضيعتنا)) . ماتت والدتها ، وهاجر والدها من حياتها باحثا عن الله ليواسيه ، أما هي فما بقي لديها سوى هذه الأغنية يتردد صداها بصمت بين جدران قلبها ، ودون أن تجرؤ على غنائها بصوتها ، فصوتها مزمار للشيطان تلعنه الملائكة .
أسبوع كامل أمضته في جنتها، تعرفت به على جسدها وعلى صوتها، دون أن يختل توازن الكون وتتدمر البشرية بخطيئتها.
لكن سعادتها انتهت بعد أن أعلنت الحُجة سميرة رغبتها في تحديد مصيرها، بعد أن تقوم بالكشف عن خبايا قلبها. أخرجتها سحر من جنتها استعدادا لاستقبال الحُجة. كم تمنت سيدرا أنها لم تشهد ذاك اليوم. أصابها صداع شديد بسبب هلع سحر التي كانت تقفز من أمامها كالأرنب، ثم تلطم خدودها وتقضم أظافرها، ثم تسجد طالبة من الله أن يجعل قلب الحُجة راضيا عليها، ثم تعيد تنظيف المنزل وأرضه.
كانت سيدرا تسمع بلاط المنزل ورئتيها وهما يستغيثان طلبا للنجدة من رائحة الكلور الذي نظفت به سحر أرض المنزل عشرات المرات خلال عدة ساعات فقط، كل ذلك كي تصبح أرض المنزل طاهرة تليق بطهر أقدام الحُجة.
الحُجة التي كانت سيدرا تتوق شوقا لرؤية هالة النور التي تحيط بها، تلك الهالة التي طالما تكلمت عنها الآنسات اللواتي يتلقين الدين والفقه على يدها. سمعت مرارا أن الحُجة تمتلك قدسية ونورا هي هدية من الله ومكرمة لها، لأنه اصطفاها عن بقية النساء، فاختارها راعية عاصمة لهن، ناطقة باسم الله موكلة بأعماله على الأرض.
رن جرس المنزل قبل وصول الحُجة بساعة، فدخلت سبع سيدات، عرفت سيدرا منهن آنستها وآنسة سحر.
أمسكت السيدات السبع بسيدرا وأجبرنها على الركوع في منتصف الصالة، فيما جلسن على سبع كراسي خلفها على شكل نصف دائرة. أحضرت سحر علبة بها سبع مسابح ألفية، فأمسكت كل سيدة بواحدة وبدأن باللطيفية.
بعد مضي ساعة، وصلت الحُجة سميرة. أرادت سيدرا رؤية وجهها لكن كلما همت برفع وجهها إليها وجدت يد تخفضه عنوة، فكل ما استطاعت رؤيته حذاؤها الذي لطخ أرض المنزل بطبعات طينية لنعليها.
جلست الحُجة على كنبة وضعوها أمام سيدرا، فاكتمل عدد السيدات الى ثمان.
استمرت الأيادي تضغط وجه سيدرا للأسفل حتى لا ترى وجه الحُجة، لكنها لمحت يدها اليمنى التي وضعتها فوق قلب سيدرا وهي تتمتم بكلمات لم تستطع سماعها.
كانت رائحة الياسمين تفوح من يد الحُجة، فأمعنت سيدرا النظر فيها فوجدت آثارا لياسمينة مسحوقة بين أصابعها.
ضغطت الحُجة بقوة على قلبها، فخشيت سيدرا ان ترى الحُجة في قلبها نقاء وخيرا، فتوكل أمرها لإحدى الآنسات كي تعمل على صلاحها وهدايتها، فأغمضت عيناها وبدأت تترجى بصمت:
((أرجوك أيها الشيطان امتلك قلبي بالكامل، لعل الحُجة تطردني من هنا فتحررني منها ومن آنساتها ومن الجحيم الذي صنعوه لي)).
فاستجاب الشيطان لها، وأعلنت الحُجة أن لا مكان لها في بيت من بيوتهن، ووعدتها بأنها ستحقق رغبتها في الوصول الى مرمريتا.
في الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، أرسلت الحُجة سيارة تقلها من بيتها في وسط مدينة دمشق الى بيت مهجور في أطراف المدينة، مكثت هناك وقت قصير، لتستبدل السيارة بأخرى ثم ثالثة، أخذتها السيارات في طرق فرعية ثم طرق جبلية وعرة قبل أن تتوقف السيارة الثالثة في مكان غريب عنها، حيث وجدت دراجات نارية ورجال كثر بانتظارها.
منذ البدء كانت تعلم بأنها ستدفع ثمن قرارها بالتخلي عن ديانتهم التي اختاروها لها، وبأن الطريق الى مرمريتا ربما تكون هي الطريق نحو حتفها، لكنها لم تأبه مادامت هذه الطريق ستعطيها ساعات أخيرة تنعم بها وتتلذذ بطعم الحرية دون رقيب أو حسيب.
أوصلتها الدراجات النارية معصوبة العينين الى الأرض التي وجدت بها الصوت وأبي عبد الرحمن.
منذ وصلت إليهم وهي تتنفس بعمق هواء هذه المنطقة البارد النقي، لكن الهواء اختفى فجأة وكأن جبلا أحاط بها من كل الجهات، ترامت الى أذناها أصوات رجال يحيطون بها، يضربون الأرض بأقدامهم فيثيرون غبارا يجعلها عاجزة عن التنفس، تسعل فلا تستطيع أن تسمع صوت سعالها. أصوات الرجال أصبحت عالية وهم يكبرون وكأنه يوم عيد. يهللون لأرض الرباط ويهنئون أبو عبد الرحمن على فوزه بالحور والجنان.
سمعت صوت أبو عبد الرحمن خلفها، ينشد بصوت مرتجف أناشيد عن الجنة وجمالها. شعرت بأنفاسه على عنقها من الخلف، ثم أمسك برقبتها ودفعها بقوة الى الأمام حتى لامس وجهها وبطنها الأرض. وضع ركبته ثم ساقه على ظهرها، وأرخى بثقل جسده على جسدها بالكامل مثبتا إياها بقوة.
علت التكبيرات حتى كادت تمزق غشاء الطبلة في أذناها، ليمسك بشعرها ويعيد رأسها بقوة إلى الخلف حتى لامس ظهرها، فكشفت رقبتها بالكامل.
نُزعت العصابة السوداء عن عينيها وعادت لها الرؤية بشكل كامل، فرأت والدتها تبتسم لها وتفرد ذراعيها كي تعانقها.
صدقت الحُجة وصدق الصوت فيما قالاه. أوفيا بعهدهما وأرسلاها إلى مرمريتا لترقد بجوار أمها بسلام.