لطمته الكلمات القصيرة..مات رضيعه بعد أن تنسم عبق الحياة يوما أو بعض يوم..تركه الطبيب إلى موظف مسئول لاستكمال بعض الاستمارات..أوراق كثيرة بصم عليها لا يدري ما بها..تنفس الموظف براحة و لملم الأوراق ثم أعطاه أقصوصة صغيرة..إنها إيصال استلام جثمان رضيعه..دلوه على المكان..دلف إلى الحجرة المبطنة بالقيشانى..رائحة الموت تثقل الصدور..رعشة غريبة اجتاحته..أستلم أخر منه القصاصة ثم ذهب إلى أحد الأركان و عاد و سلمه إياه..وقف جامدا..حائرا..لا يدري ماذا يفعل..عاجله الرجل "هات حاجه و لفه بيها"..أومأ بغير وعى..ناوله أحدهم غطاء أطفال بالكاد احتوي الجسد الضئيل.
مضى إلى الخارج..لفحه ضوء الشمس..مرة أخرى ألجمته الحيرة..ماذا يفعل..؟ تعالى صوت أذان الظهر..تساءل أمن الواجب أن يصلى عليه صلاة جنازة..؟..دخل المسجد..حار كيف يخلع حذاءه و الجثمان بين يديه..نظر حوله لعل أحدهم يحمله عنه لحظات..لم يجد بدا من وضعه على الأرض..خلع الحذاء بسرعة و حمله مرة أخرى..تعمد أن يصلى الظهر عند طرف المسجد ليضعه بجواره..استفسر و أجابوه بشرعية صلاة الجنازة حتى على الرضيع..تناول الأمام عنه اللفافة و وضعها أمامه .. أقام الصلاة مرشدا المصلين أن المتوفى طفل فادعوا لأبويه..لأول مرة انهمرت دموعه و كأنه شعر بحقيقة مصابه حتى أن الناس جميعا مطالبون بالدعاء له و لزوجته.
انتهت الصلاة..لم يسلم عليه أحد تشاغل الجميع عنه و عن لفافته..لم يبقى سوى الإمام..أقترب منه.."هو أول نصيبك يا بنى"..أومأ برأسه بالإيجاب..أقترب الإمام أكثر.."و الست والدته مش بخير و الحمد لله"..واصل الإيماء برأسه بالموافقة..تهلل وجه الإمام.." يا ولدى لا يعلم الغيب إلا الرحمن ..إنك صغير السن..و غدا يرزقك العاطى الوهاب بالذرية الصالحة حتى تمل الأطفال"..لم يعرف بما يرد على مجاملة الإمام..بالابتسام أم بالبكاء..و فى النهاية أسعفته إيماءة جديدة برأسه.
ضوء الشمس هذه المرة كان أقوى و الزحام أشد..جموع من البشر تزحف فى الشوارع و خاصة فى هذا الحى الشعبي أمام المستشفى المجانى..تمسك بقوة بجثمانه خشية أن يفلت منه من صدمة سائر هنا أو هناك..خفف القبضة فقد شعر بأصابعه تغوص فى الجسد الذابل..خشى عليه..مرة أخرى شعر بدموعه تختلط بحبات عرقه..لقد مارس شعورا جديدا عليه..بالحنو و بالخشية على ولده حتى و لو كان جثة هامدة..برغم أن موضوع الإنجاب هذا لم يكن يشغله و لا حتى يفكر فيه..بل لقد فوجئ يوم أن أخبرته زوجته بحملها..أستثقل الخبر ..لقد تزوج بالكاد.. و لكنه جاملها بابتسامة باهته و نسى الأمر أو تناساه تحت وطأة قسوة عمله بدنيا و نفسيا..يقضى يومه جالسا القرفصاء على أحد أرصفة شوارع القاهرة مجاورا العشرات و أمامه تنتصب ( العده)..لا تهدأ عينه بحثا عن زبون يريد تكسير بلاط أو هدم حائط..يجرى عليه مزاحما العشرات..يحدوهم جميعا ذات الأمل الذي سريعا ما يصرعه اختيار الزبون لواحد أو أكثر..يعود إلى جلسته حتى يداهمه الغروب معلنا نهاية المحاولة اليومية إلى غد قد يتصادف فيه اختيار الزبون له.
أخيرا استجابت له سيارة أجرة بمجرد التوقف..اتخذ المقعد الأمامى و لفافته على ذراعه..سأله السائق مستنكرا دخوله السيارة قبل إتمام الاتفاق حول (على فين و بكام).."على فين إن شاء الله"..أجاب باقتضاب متجنبا النظر إليه.."المدافن"..واصل السائق لهجته الاستنكارية.."أى مدافن..؟المدافن كتير"..أسقط فى يده فجأة اكتشف أن القاهرة الكبيرة بها أكثر من منطقة مدافن..فى بلدته بل و فى كل القرى المجاورة له..كلمة مدافن تعنى مكانا واحدا فقط..و بغض النظر عن مكان المدافن..الأدهى انه لا يعرف أين يدفن جثمانه..؟زادت حيرته من ارتباكه..و للحظة فهم السائق..نظر له بتردد.."هو ده ابنك يا بلدينا..؟"..مرة أخرى هاجت مشاعره بوخزة كلمة ابنك..تمنى لو أطلق العنان لدموعه بل لصرخاته ..تمنى لو ارتمى بين أحضان السائق منتحبا..فى هذه اللحظة بالذات تمنى أمه ..تمنى أحضانها أو حتى لمسة من كفها الخشنة..لعن فى سره يوم أن ترك بلدته إلى القاهرة الواسعة وحيدا مع زوجته لهثا وراء سراب لقمة الخبز..وبالفعل فى معظم الأحيان كان نصيبه من تلك القاهرة..فقط لقمة خبز..أفاق على تمتمة السائق بلا حول و لا قوة إلا بالله.
مضت السيارة تجوب شوارع و أحياء لا يعرفها حتى اجتازت منطقة مدافن..توقفت..هم بالخروج منها..استمهله السائق.."استنى يا بلدينا ..أنت رايح فين..استنى دلوقتى ربنا يفرجها"..عاد إلى وضعه منتظرا..لا يعرف حتى ماذا ينتظر..إنه فقط ينتظر فرج ربنا..ياه..فرج ربنا..منذ سنوات طوال و هو ينتظره برغم أنه ذاته اسمه " فرج ربنا"..لطالما قصت عليه أمه..أن أبوه صمم على تسميته كذلك..فقد تزوج ثلاث مرات بحثا عن امرأة تهبه الولد بعد رحلة طويلة مع الإناث..و عندما أتت له الثالثة بالولد أصر على تسميته (فرج ربنا)..لم يرد تسميته (فرج الله) لأنه اسم شائع..لقد أراد لولده التميز و لو فى الاسم..و لكن القدر لم يمهله حتى يراه مميزا أو حتى معدما فقد مات فى ريعان شبابه تاركا لفرج ربنا ..(الع ده).
شعر بتنميل فى ذراعه..نقل الجثمان للذراع الأخر..من يدري قد يكون هذا الجثمان أسعد منه حظا ..قد يكون الرحمن قد كفاه ويلات و شقاء هذه الحياة و لم لا و كل الشواهد تدل على أن فرج ربنا لم يكن سيورثه و بالكاد سوى (العده).
لكزه السائق.."الحمد لله..مش قلت لك ربنا حيفرجها"..لمح من بعيد جنازة تتجه إلى مدفن قريب منهم..نزل السائق و فتح له الباب.."تعال..تعال بسرعة"..مضى خلف السائق متعثرا..حاول أن يسأل و لكن خطى السائق السريعة خلف الجنازة لم تسعفه..تركه جانبا و ذهب إلى أحد حملة النعش مؤكدا لنفسه أنه أقرب أقرباء الميت..أسر فى أذنه بكلمات..و ما أن وضع الرجل النعش حتى هرع إليه..لم يفهم..أقبل عليه متهللا.."ربنا يعوض عليك يا بلدينا..هاته..هات.."..تردد..لكزه السائق مرة أخرى "أديه له..أديه له"..قاوم إحساس داهم بالحسرة و الحزن بل و بشيء من التأنيب الذاتى على تفريطه فى الجثمان..أخذه الرجل من بين يديه و عاد به إلى المقبرة..اختفى فى جبها ثم خرج متربا..أغلقوا القبر..فوجئ بالرجل يعود و يدس فى يده ورقة بخم سين جنيه و هو يهلل مستبشرا.."إن شاء الله ابنك ده حيكون نور و رحمة على التربه كلها".
بسرعة تم كل شئ..حتى أهل الميت ابتلعهم الطريق..لم يبقى سواه و السائق و الرجل صاحب المال..أستأذنهم فى غلق المدفن..ربت السائق على كتفه و سحبه للخارج.."مش قلت لك فرجه قريب.. و ربك بيقطع من هنا و يوصل من هنا"..سار مطأطئ الرأس..متحسسا الورقة المالية دون أن يدري أنه قد نسى تحديد مثوى ولده وسط المدافن المتشابهة.
القاهرة :15/8/2003
الجثمان
By: Ayman Yassin - on: Saturday 21 October 2017 - Genre: Stories
Upcoming Events
Online discussion of The Vegetarian by Han Kang Nobel Prize winner 2024
November 08, 2024
This discussion of Han Kang’s The Vegetarian...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
October 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
Book discussion:Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow Sun
September 28, 2024
Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow S...
Edward Said – Culture and Imperialism
July 27, 2024
Discussion of Edward Said's Culture and Imperi...