الفرق بين الرسول و النبي هو أن الرسول قد أُوحي إليه بشرع يعمل به و يبلغه إلي غيره، أما النبي فهو من أُوحي إليه بشرع يعمل به و لا يجب عليه تبليغه إلي غيره00
و قد سأل أبا ذر الغفاري الرسول e عن عدد الأنبياء، فقال له الرسول e أنهم مائة ألف و أربعة و عشرون ألف، ثم سأله عن عدد الرسل فقال ثلاثمائة و ثلاثة عشر[1]
و قد أيد الله تعالي كل رسول أرسله بمعجزة، و جرت سنته تعالي علي أن تكون معجزة كل رسول من جنس ما برع فيه قومه، لأنه حين يعجزهم بأمر هم نابغين فيه، وهم يعلمون أن النبوغ بين البشر محصور بينهم، فإن ذلك دليل علي أن ما جاء به هذا الرسول ليس من عنده، و إنما وراءه قوة أخري00
و هكذا كانت معجزة إبراهيم e أن نجاه الله من النار، لأن قومه كانوا عبدة كواكب و هي قريبة من النار، و كانت معجزة موسى e أمور تبطل السحر، لأن المصريين في ذلك الوقت كان قد شاع فيهم السحر، و كانت معجزة عيسى e هي إبراء الأكمه[2]والأبرص[3]، لأن قومه كانوا نابغين في الطب، وكانوا كذلك شديدي الارتباط بالأسباب00[4]
ثم جاء الرسول e إلى العرب، و قد اشتهروا بالفصاحة و البيان، فكان معجزته e هي القرآن00
و نظر العرب فوجدوا أن هذا القرآن ليس من قبيل النثر الذي تفننوا فيه، و لا هو من قبيل الشعر الذي أقاموا له الأسواق، وإنما هو جنس أدبي قائم بذاته، و خارج عن كل المألوف من نظمهم و كلامهم00
و افتتح القرآن بعض سوره بحروف عشوائية ليدل علي أن مادته الخام لم تخرج عن تلك التي يأخذون بها في لغتهم، كما أنه ليس في مفرداته ما هو جديد عليهم، و مع ذلك فإنهم عاجزون كل العجز عن الإتيان بمثله، أو بعشر سور منه، أو حتى بسورة واحدة من سوره[5]00
و قد حفظت لنا كتب السيرة كيف استقبل شيوخ المعارضة و قادة الإيذاء القرآن فما وسعهم إلا الإقرار بأن هذا الكلام لم يأت به "محمد بن عبد الله" من عند نفسه، و أنه ليس بحال من كلام البشر00
من ذلك أن "الوليد بن المغيرة" اجتمع مع نفر من قريش، وقد حضر موسم الحج، فقال لهم:
يا معشر قريش إنه قد حضر الموسم، و إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأيا واحدا و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، و يرد قولكم بعضه بعضا00
قالوا:
نقول كاهن00
قال:
لا و الله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة[6] الكاهن و لا سجعه00
قالوا:
فنقول مجنون00
قال:
ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون و عرفناه، فما هو بخنقه و لا تخالجه00[7]
قالوا:
فنقول شاعر00
قال:
ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه و هزجه و قريضه ومقبوضه ومبسوطه00
قالوا:
فما نقول يا أبا عبد شمس ؟
قال:
و الله إن لقوله لحلاوة، و إن أصله لعذق[8]، و إن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرِفَ أنه باطل، و إن أقرب القول فيه لأن تقولوا جاء بقول هو السحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته00
من ذلك أيضا قصة "عتبة بن ربيعه" و كان ذلك حين أسلم حمزة و أخذ أصحاب الرسول e يزيدون، فقال عتبة -وكان سيدا في قومه- و هو جالس في نادي قريش، والرسول e جالس وحده في المسجد:
يا معشر قريش ألا أقوم إلي محمد فأكلمه و أعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء و يكف عنا00
قالوا:
نعم يا أبا الوليد قم إليه فكلمه00
فقام عتبة حتى جلس إلي الرسول e و قال:
يا ابن أخي إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، و عبت آلهتهم، و كفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها00
قال الرسول e:
قل يا أبا الوليد أسمع00
قال عتبة:
يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، و إن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، و إن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا00
قال الرسول e:
أقد فرغت يا أبا الوليد ؟
قال:
نعم00
فقرأ الرسول e:
) بسم الله الرحمن الرحيم 0 حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فُصلت آياته قرآن عربيا لقوم يعلمون ([9]
و مضى الرسول e في قراءته و عتبة منصتا إليه و قد ألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها، فلما انتهى الرسول e إلي قوله تعالى: )فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ([10] انتفض عتبة من مكانه و وضع يده علي فم الرسول e و هو يقول له:
قومك يا محمد لا تدع عليهم00
ثم قام عتبة غلي أصحابه، فلما رأوه مقبلا قال بعضهم لبعض:
و الله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به00
فلما جلس إليهم قالوا:
ما ورائك يا أبا الوليد ؟
فال:
ورائي أني قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط00 و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، و ليكونن له نبأ عظيم00 يا معشر قريش أطيعوني و اجعلوها بي[11]00 خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه[12]00 فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر عليهم فملكه ملككم، و عزه عزكم، و كنتم أسعد الناس به00
قالوا:
سحرك و الله يا أبا الوليد بلسانه00
قال:
هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم00
من ذلك أيضا أن "أبا سفيان بن حرب" و "أبا جهل بن هشام" و "الأخنس بن شريق" و كان ثلاثتهم من أشد الكفار معاندة و قسوة و عنفا00 فكان إذا جن الليل تسللوا إلي بيت الرسول e، و اتخذ كل منهم مجلسا يستمع فيه إلي تلاوة الرسول e حتى إذا طلع الفجر، و آوى الرسول e إلي مضجعه، خرج كل منهم من مكمنه متلصصا و مضى غلي بيته، فجمعهم الطريق، و أخذوا بتلاومون في أمرهم، و قال بعضهم لبعض لو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا00
فما كانت الليلة الثانية، عاد كل منهم ألي مجلسه فباتوا يتسمعون كما تسمعوا في الليلة الأولي، حتى إذا طلع الفجر جمعهم الطريق و تلاوموا كما تلاوموا في ليلتهم الأولى00
فلما كانت الليلة الثالثة عادوا إلي مجلسهم، و جمعهم الطريق في الفجر، ثم تعاهدوا ألا يعودوا إلى ذلك ابدا00
و هكذا فإن العربي القديم كان إذا استمع إلي بضع آيات من القرآن، فإنه بتمكنه الشديد من لغته العربية، و بموهبته الأدبية الفطرية، يتأكد لديه أن هذا الحديث الذي يتحدث به "محمد" ليس من عنده، و لا يمكن أن يكون كلام بشر، و إنما هو كلام الله تعالي00
و لذلك كان أئمة الكفر يحثون أتباعهم علي التشويش علي محمد إذا أخذ في قراءة القرآن، فيصفقون و يصفرون و يصيحون، و ذلك حتى لا يستمع إليه أحد من العرب، فلا يلبث أن يدرك صدقه و يؤمن به00
يقول تعالي: ) و قال الذين كفروا لا تستمعوا لهذا القرآن و الغوا[13] فيه لعلكم تغلبون ([14]
* * *
و لكن هل ظل القرآن محتفظا بأهم عوامل إعجازه، و هو أنه جاء من جنس ما نبغ فيه من أرسل إليهم ؟
و السؤال من الجهة الأخرى هو هل ظل هؤلاء الذين قد أُرسل إليهم من الوعي باللغة العربية و أسرارها بحيث يدركون أن هذا الكلام الذي جاء به "محمد بن عبد الله" لا يمكن أن يكون قد جاء به من عنده ؟
و الإجابة علي السؤالين واحدة و هي أنه لم يعد هناك الآن من يستمع إلي القرآن فينفعل به ذلك الانفعال الأدبي الذي كان يأخذ العرب حين يستمعون إليه00
و لم يعد هناك أحد هؤلاء المنكرين له، و الذي يستمع إليه مأخوذا، ثم يعود إلي قومه متغير الوجه، و يقول لهم و هو في ذهوله "و الله ما سمعت مثله قط"
ثم هناك بعدا آخر للأمر و هو أن الإسلام دين عالمي، فإذا كان ذلك الإعجاز اللغوي قد أعجز العرب و قد نزل بلسانهم و هم أهل الفصاحة و البلاغة، فكيف شأن الأمم الأخرى غير العربية و قد أُرسل إليهم القرآن أيضا و لكنه بغير لغتهم، و لا يكادون يفقهون منه كلمة واحدة فضلا عن انفعالهم بجماله اللغوي00
حقا إن الإسلام دين تتقبله الفطرة السليمة، و لكن لا تزال هناك الحاجة دائما لوجود المعجزة التي تقطع الشك باليقين00
و هنا كان الترتيب الإلهي المحكم، فمع الابتعاد التدريجي للعرب عن لغتهم، وعجزهم المتزايد عن استخراج كنوز الإعجاز اللغوي من بين آيات القرآن الكريم، ثم مع زيادة انتشار الإسلام -أيضا- في مشارق الأرض و مغاربها و اعتناق عشرات الألسنة الأخرى للإسلام، كان هناك الظهور التدريجي أيضا لمعجزات أخرى للقرآن لا شأن لها بإعجازه الأدبي، و هي إعجازا ته العلمية00
و هكذا كان ذلك الإعجاز العلمي هو التعويض الذي قدمه لنا القرآن لعجزنا عن إدراك الإعجاز الذي نزل به أول الأمر و هو إعجازه اللغوي، و هو تعويض أيضا لهؤلاء الذين نزل القرآن بغير ألسنتهم حيث يتحدث إليهم بلغة يفهمونها جيدا و هي لغة العلم0
* * *
و يطيب لي الآن آخذ الآن في ذكر بعض نماذج من ذلك الإعجاز العلمي - وليس ذلك بقصد حصرها فهذا بعيد عن مقصد هذا الحديث- و إنما لينظر كل منا إلي نفسه و هو يقرأ هذه السطور و يرى كيف ينفعل بها00
ثم لننظر أيضا كيف بمريء غير مسلم حين يرى رجلا أميا جاء منذ أربعة عشر قرنا و أقحم نفسه في قضايا علمية أثبتت المعامل و المختبرات و المراصد صحتها بعد تلك القرون الأربعة عشر00
قال تعالي: ) و لو فتحنا عليه بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون[15] ([16]
قوله ) فتحنا عليهم بابا( يوحي بأن السماء ليست فراغا كما كان يعتقد الناس، وإنما كما أثبت العلم الحديث بناء محكم تملؤه المادة و الطاقة00
و قوله ) يعرجون ( فيه وصف للحركة بالعروج، و العروج في اللغة هو سير الجسم في خط منحن، و قد ثبت علميا أن أي جسم مادي في الكون سواء صغر أو كبر لا يمكن أن يتحرك في خط مستقيم بل لابد له من الانحناء، نظرا لانتشار المادة و الطاقة، و حيث تؤثر جاذبية المادة و المجالات المغنطيسية للطاقة علي حركة الأجرام00
قوله تعالي: ) و السماء بنيناها بأييد[17] و إنا لموسعون ([18]
و قد تبين لعلماء الفلك أخيرا أن الكون في توسع و تمدد مستمرين00
قوله تعالي: ) و آية لهم الليل نسلخ[19] منه النهار فإذا هم مظلمون ([20]
يمثل هذا التشبيه القرآني حقيقة كونية لم يعرفها الإنسان إلا بعد ارتياده الفضاء في ستينيات القرن العشرين حيث فوجئ بأن الكون يغشاه الظلام الدامس، و أن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه مائتي كيلومتر ، و إذا ارتفع بعد ذلك فهو يغرق في ظلام دامس، و لا يقطع كحولته إلا بعض البقع الباهتة في مواقع النجوم00
و هذا يعني أن الظلام هو الأصل في الكون، و أن النهار ليس إلا طبقة رقيقة جدا تنسلخ من ليل السماء0
قال تعالي: ) و الأرض بعد ذلك دحاها ([21]
كان الناس وقت نزول القرآن تعتقد أن الأرض مسطحة، حتى قام "كر يستوف كولومبس" برحلاته الاستكشافية في القرن الخامس عشر الميلادي، حتى أن البحارة وقتها كانوا يخافون من السقوط عند حافة الأرض00 ثم انتهي العلماء أخيرا إلي أن الأرض ليست كروية تماما و إنما هي بيضوية الشكل، و هكذا تطابق ما وصل إليه العلم مع التعبير القرآني الدقيق ( دحاها ) أي جعل شكلها مثل "الدحية" و هي البيضة00
قال تعالي: )أخرج منها مائها و مرعاها[22] ([23]
بين العلم أن الفورانات البركانية الهائلة لباطن الأرض هي التي أخرجت بخار الماء، و الذي تكثف بدوره في الغلاف الجوي للأرض، ثم هبط على الأرض في صورة أمطار غزيرة، وحيث تكونت البحار و المحيطات00
قال تعالي: ) و الأرض ذات الصدع ([24]
و قد اكتشف العلماء أن هناك شبكة هائلة من الصدوع معظمها في قيعان البحار والمحيطات، و أن هذه الصدوع تعمل بمثابة صمامات الأمان، تنطلق منها كميات هائلة من الحرارة تنتج عن تفاعلات نووية تحت قشرة الكرة الأرضية، و أنه لولا تلك الصدوع لانفجرت الأرض كقنبلة نووية هائلة00
مثل ذلك قوله تعالي: ) و البحر المسجور ([25]
و معني المسجور أي المتقد نارا، فعندما نزل العلماء إلي قاع البحار و المحيطات وجدوا أن الحمم البركانية تندفع من صدوع الأرض بملايين الأطنان، و في درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية[26]00
قوله تعالي: ) و الجبال أوتادا ([27]
كان الناس حتى أواخر القرن العشرين يعتقدون أن الجبال نتوءات فوق سطح الأرض، ثم اكتشف العلماء أخيرا أن الجبال كالأوتاد لها جذور ممتدة في باطن الأرض ويتراوح عمق هذه الجذور من 10-15 ضعف الجزء الظاهر منها00
و مثل ذلك قوله تعالي: ) و ألقي في الأرض رواسي[28] أن تميد[29] بكم ([30]
حيث تبين للعلماء أن وظيفة الجبال هي تثبيت ألواح الأرض المتحركة0
قال تعالي: ) و هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه علي الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ([31]
أثبت علماء الجيولوجيا أن الكرة الأرضية كانت في أطوارها الأولي مغطاة بالكامل بالمياه، و من هنا كان التعبير القرآني الدقيق من أن عرش الله - و الذي هو كناية عن الملك والسلطان- حين خلق الأرض كان علي الماء أي أنه كان مهيمنا علي كامل الكرة الأرضية00
قال تعالي: ) فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ([32]
تصف الآية أحد مشاهد يوم القيامة بأن تتصدع السماء و تتشقق و تكون مثل الوردة الحمراء00 و قد التقطت وكالة "ناسا" الأمريكية صورة لانفجار أحد النجوم، ونشرت تلك الصورة في موقعها علي شبكة الإنترنت، و كانت الصورة تشبه تمام الشبه الوردة الحمراء00 حتى أن وكالة ناسا أطلقت علي الصورة اسم "الوردة الحمراء" !!
قال تعالي: ) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون([33]
تأكيد القرآن علي صفة "الأخضر" للشجر له دلالته العلمية الدقيقة، حيث كشف العلم أن الشجر "الأخضر" يقوم بعملية كيميائية غاية في التعقيد، يطلق عليها "التمثيل الضوئي" و الذي ينتج عنها الأكسجين، و هو الغاز الضروري لإشعال النيران00
قال تعالي: ) و الله خلقكم من تراب ([34]
أكد العلم أن جسم الإنسان يحتوي علي نفس العناصر التي تتكون منها الأرض، مثل الأكسجين، و الأيدروجين، و الكربون، و الفسفور، و الكبريت000 الخ
قال تعالي: ) و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة[35] فخلقنا العلقة مضغة[36] فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين ([37]
و هذه الأطوار من الخلق داخل الرحم، لم يستطع الإنسان تحديدها إلا بعد اكتشاف الإنسان لعلوم الأجنة و التوليد0
يقول تعالي: ) الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ([38]
تتحدث الآية الكريمة عن السقط التلقائي المبكر في الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل، و الذي يحدث إما بلفظ الجنين خارج الرحم، و إما أن يغور و "يغيض" داخل الرحم، و بذلك يختفي و لا يكون له أي أثر، و لم يتوصل العلماء إلى هذه الحقائق العلمية إلا بعد اختراع أجهزة الموجات فوق الصوتية و استخدامها في تسجيل وجود الأجنة ثم إخفائها0
حينما يمن الله تعالي علي عباده في القرآن بنعمتي السمع و البصر، يذكر تعالي دائما السمع قبل البصر، من ذلك قوله تعالي: ) و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون ([39] وقد اكتشف العلماء أن عضو السمع يسبق عضو البصر في التكوين الجنيني00
و كما أن للقرآن إعجازاته العلمية، فإن هناك أيضا وجوه للإعجاز العلمي في السنة النبوية، و هناك الكثير من البحوث في هذا الميدان، و أغلب تلك البحوث تدور حول وصايا الرسول e الطبية، مثل وصاياه بعسل النحل، و حبة البركة، و السواك00
من ذلك أيضا ما رواه أبو هريرة t أن الرسول eقال: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال و يفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه، و حتى تعود أرض العرب مروجا و أنهارا"[40]
قوله e "حتى تعود" يعني أنها كانت كذلك في وقت سابق، وقد قال علماء الجيولوجيا أنه ساد الأرض فيما أُطلق عليه "العصر الجليدي" Glacial مناخ بارد ووصل الجليد إلي جنوب الولايات المتحدة، و كل شمال أوروبا حتى أجزاء من فرنسا وألمانيا و إنجلترا، و قد انتهى هذا العصر منذ 10 آلاف عام، بعدما دام نحو 2 مليون سنة 00و في ذلك العصر كانت الجزيرة العربية و الصحراء الكبرى تدخل في نطاق الرياح الغربية الممطرة -والتي تهب الآن على غرب أوروبا- وكان ذلك يؤدي إلى ازدهار تلك الصحراوات و امتلائها بالأنهار و الغابات الخصيبة00
أما النبوءة العلمية في أن تعود إلي أرض الجزيرة المروج و الأنهار، فقد قال علماء الجيولوجيا أيضا أن الأرض تقترب من بداية عصر جليدي جديد، و أننا الآن في فترة "بين جليدية" و التي بدأت منذ ما يقرب من عشرة آلاف عام00
* * *
و بعد فهذا قليل من مئات البحوث التي تتناول قضية الإعجاز العلمي في القرآن والسنة00
و عندما عُقدت ندوة عن الإعجاز العلمي في القرآن بالقاهرة[41] و رأيت مئات الحضور، و قد احتشدت بهم قاعة الندوة و ظل كثير منهم يستمعون لساعات طويلة وقوفا على أرجلهم ليستمعون إلي آيات الإعجاز العلمي، تذكرت اجتماع المسلمين الأوائل في دار "الأرقم بن أبي الأرقم" لينصتوا إلى آيات القرآن و يشنفوا به آذانهم و يمتعوا وجدانهم00
و لا شك أن غير المسلمين حين يطلعون علي تلك البحوث فإنه يأخذهم ذلك الذهول الذي أخذ "عتبة بن ربيعه" حين استمع إلى سورة "فصلت"00
و كثير من العلماء و الأطباء و المثقفين أسلموا الفعل عندما وجدوا أن آخر ما وصل إليه العلم قد ذكره رجل أمي نشأ في بيئة أمية منذ أربعة عشر قرنا، لأن المنطق يقول أن ما ذكره هذا الرجل منذ تلك القرون الأربعة عشر لا يمكن بأي حال أن يكون من عنده00
و قد وضع مفكر غير مسلم و هو الدكتور "موريس بوكاى" كتابا بعنوان "دراسة الكتب المقدسة عي ضوء المعارف الحديثة" و قد انتهى في كتابه إلي أنه لم يجد أي تناقض قط بين ما جاء في القرآن و بين الحقائق العلمية الثابتة، بالرغم من أن القرآن قد ذكر الكثير من هذه الحقائق العلمية00
وقد عارض بعض علماء المسلمين تفسير القرآن تفسيرا علميا، و هم يقولون أنهم يخشون أن تفسر آية تفسيرا علميا بنظرية علمية، ثم يثبت بعد ذلك خطأ تلك النظرية، و بذلك نكون قد حملنا آيات القرآن أخطائنا و أسأنا إليها00
أما المؤيدون فقد كانوا من النضج و الحصافة بحيث نبههم بعض ما تحدث به المعارضون إلى ضرورة وضع ضوابط علمية و شرعية يجب الأخذ بها عند الكتابة في موضوعات الإعجاز العلمي مثل استبعاد النظريات و الفروض العلمية و الاعتماد فقط علي الحقائق الثابتة00
و لا شك أن هناك الكثير من الجهود التي تبذل في ميدان الإعجاز العلمي في القرآن و السنة، و قد أخذت تلك الجهود تأخذ شكلا موثقا منذ بضع سنين عندما أُنشأت في السعودية "هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" ثم أُنشأت في مصر "لجنة الإعجاز العلمي" و تبع ذلك إنشاء مؤسسات أخرى في بعض الأقطار، و هناك إعداد لعقد مؤتمرات تنسيقية لتنظيم جهود تلك الهيئات00
و هناك الكثير من الأفكار الطموحة لدى هذه الهيئات، مثل نشر أبحاث الإعجاز العلمي في كتيبات باللغة الإنجليزية، و على شبكة الإنترنت، و تدريس مادة الإعجاز العلمي في الجامعات و المعاهد الشرعية، و كذلك ضمن مناهج تدريس المواد الدينية في المدارس، و إقامة ندوات علمية للدعاة المسلمين حول الإعجاز العلمي، و إقامة مسابقات علمية خاصة ببحوث الإعجاز00
و جميع تلك الأفكار جيدة، و أحب أن أضيف إليها بعض الأمور و هي:
أن تتضمن التفاسير الحديثة للقرآن وجوه الإعجاز العلمي، و كذلك التحقيقات للتفاسير القديمة00
كما أن المكتبة الإسلامية تزخر بآلاف التفاسير اللغوية للقرآن الكريم، فلابد من البدء في وضع تفاسير علمية خالصة00
مراعاة التبسيط في بحوث التفاسير العلمية و تقديمها في صورة سائغة، لأن أغلب تلك البحوث يضعها علماء متخصصون، و تتضمن _غالبا- الكثير من المعادلات والمصطلحات العلمية00
و لكن و برغم الأفكار الطموحة الكثيرة التي تتحدث بها تلك المؤتمرات فلا يزال التمويل المادي هو العقبة الأساسية أمام تحقيقها00 و أغنياء المسلمين و علمائهم وعوامهم غير واعين -حتى الآن- للأسف بأهمية استخدام الوسائل الحديثة في الدعوة00
لقد كان القرآن هو وسيلة الدعوة الأساسية للرسول e، فإذا كان الرسول e بكل فصاحته و فطنته و شخصيته الآسرة يعتمد كل الاعتماد في دعوته علي القرآن، فكيف بنا نحن ؟
[1] عن أبي ذر الغفاري أنه قال: قالت لرسول الله +++ كم عدد الأنبياء ؟ فقال "مائة وأربعة و عشرون ألف (124000) فقلت: وكم عدد الرسل ؟ فقال "ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا" رواه ابن حبان في صحيحه
[2] الأكمه: هو الذي يولد كفيفا0
[3] البرص: مرض معروف و هو بياض يعتري الجلد
[4] كان فلاسفة الرومان في ذلك الوقت يقولون بأن الأشياء نشأت عن الخالق بقانون السببية و ليس عن إختياره00
[5] قال تعالي: )قل لو اجتمعت الإنس و الجن علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا( الإسراء: 88
ثم قال تعالي: ) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ( هود: 13
ثم قال تعالي: ) و إن كنتم في ريب مما نزلنا علي عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين ( البقرة: 23
و كان هذا التدرج في التحدي اظهر للعرب في إثبات عجزهم00
[6] الزمزمة: صوت مبهم يُدار في الحلق و الفم مطبق0
[7] التخلج في المشي: التفكك و التمايل0
[8] العذق: النخلة0
[9] فصلت: 1-3
[10] فصلت: 13
[11] اجعلوها بي: أتحمل مسئولية ما أقول0
[12] اتركوه و لا تعترضوا سبيله0
[13] الغوا فيه: أي بالتصفيق و التصفير و الصياح و التخليط في الكلام
[14] فصلت: 26
[15] يعرجون: يصعدون
[16] الحجر: 14
[17] بأييد: بقوة
[18] الذاريات: 47
[19] نسلخ: ننزع
[20] يس: 37
[21] النازعات: 30
[22] مرعاها: أقوات الناس و الدواب0
[23] النازعات: 31
[24] الطارق: 12
[25] الطور: 6
[26] و وجد العلماء أن النيران تلتقي مع المياه في توازن عجيب، فلا الماء يطفئ هذه النيران، و لا النيران تبخر الماء0
[27] النبأ: 7
[28] رواسي: جبالا ثوابت
[29] تميد: تميل و تضطرب
[30] النحل: 15
[31] هود: 7
[32] الرحمن: 37
[33] يس: 80
[34] فاطر: 11
[35] العلقة: دع غليظ جامد
[36] المضغة: قطعة من اللحم علي قدر ما يمضغه الإنسان
[37] المؤمنون: 12-14
[38] الرعد: 8
[39] النحل: 78
[40] رواه مسلم و أحمد، و اللفظ لمسلم0
[41] عُقِدت تلك الندوة في 5/2/2000 ضمن فعاليات معرض الكتاب الدولي الثاني و الثلاثون بمصر، و قد قام بتنظيم تلك الندوة مكتب الإعجاز العلمي في القرآن و السنة بالقاهرة بالتعاون مع الهيئة المصرية العامة للكتاب0