الإرهاب المقدس ) لـتيري إيجلتون)

الكتاب: الإرهاب المقدس
المؤلف: تيري إيجلتون
المترجم: أسامة اسبر
الناشر: دار بدايات/ سوريا/2007



..إذا كانت ظاهرة المفجرين الانتحاريين ظاهرة غير اعتيادية في عالمنا المعاصر، تلقي بألغازها – ورعبها- على سياسة زمننا؛ فإن كتاب (الإرهاب المقدس) لـتيري إيجلتون هو كتاب غير اعتيادي يتناول الظاهرة نفسها ويقترب في كل صفحة من فك الألغاز كلها، إن لم يكن قد أنجز ذلك بالفعل؛ لكن هذا متروك لما يستخلصه كل قارئ على حدة.

وعلى الرغم من أن العمليات الانتحارية هي موضوعه المركزي وان الجهاديين الإسلاميين وأحداث الحادي عشر من أيلول هي منطلق الكتاب ودافع المؤلف لتأليف كتابه، إلا أن ( إيجلتون)، مع ذلك، لم يجعل من هذه الموضوعات أفكارا مسيطرة على بحثه، فهو لا يشير إليها- إشارات إسمية مباشرة – إلا مرات قليلة لينطلق بعدها للخوض في أبعادها العميقة، من غير أن يغوص في مسائل مجانية ذائعة الصيت من مثل: (الهمجية الإسلامية)(…) الشهيرة أو(التخلف العربي)(…)! أو حتى ( التوحش الشرقي)(…) بشكل عام! للكشف عن جذور إرهاب ( القاعدة) وقاطعي رؤوس الرهائن في الشرق الأوسط! بل يذهب ( إيجلتون ) _ ويا للمفاجأة _ بالاتجاه المعاكس تماما، نحو الغرب.. للبحث في الفكر الأوروبي وصيرورة ( الغرب ) الحديث مستخلصا أفكارا ذات صلة بموضوعه عبر مصفاة الآداب الغربية من المسرح الإغريقي إلى الرواية الأوروبية الحديثة مرورا بعصر النهضة ومسرح ( شكسبير ) عائدا - هكذا - إلى العمليات الانتحارية باستدارة مدوخة! حاملا معه الأفكار الغربية المطلقة: الله.. الحرية المطلقة.. الربح اللامحدود، كخلفية للعنف الأصولي، جاعلا منه ( أحد أفراد العائلة..) وليس شيئا غريبا وخارجيا كما كان يمكن لـ( برنارد لويس )- مثلا- أن يقول!

لاعلاقة أذن لهذا الكتاب بالإثارة التي ترافق كتابات مؤلفين يخوضون في قضايا الساعة من أمثال: ( توماس فريدمان) و( صموئيل هنتنجتون) وغيرهم... الذين يقومون بإغراء القارىء حتى الصفحة الأخيرة لكي يحصل على نتائج قليلة القيمة مع الكثير من المتعة بسبب تطابق التوقعات بين القارىء والمؤلف..ويتبين بعد انقلاب الحقبة السياسية أن المتعة مستهلكة والنتائج عديمة القيمة من حيث قدرتها التفسيرية.. إلى حد أن كاتبا صحفيا من طراز (روبرت فيسك) يقول في مقابلة تلفزيونية: "..توماس فريدمان ينال /500/ دولار لقاء كل محاضرة يلقيها لكنني على استعداد لدفع /500/ دولار لكي لا أسمع محاضرته"! ولكن، من ناحية أخرى لايشبه ( إيجلتون ) الكتّاب الآخر ين من مثل ( فيسك) نفسه أو ( نعوم تشومسكي) الذين يبحثون عن الحقيقة لكن.. دون بلوغ المهاوي المخيفة التي يبلغها كتاب ( الإرهاب المقدس ) ويقف ( إيجلتون) في هذا الكتاب وقفة ( نيتشوية) على رغم المسافة التي من الممكن أنها تفصل بين الإثنين لكننا نفعل ذلك لكي نعطي فكرة عن التقليب الجريء الذي يقوم به ( إيجلتون) لكل الأفكار الغربية المحضة دون هوادة ولا مراعاة بالإضافة إلى أن ( إيجلتون) ربما يقف بعيدا وراء (نيتشه) لكن المسافة التي قد تكون شاسعة بينهما لا يحتلها عدد كبير من الكتاب! ولنقتبس من ( الإرهاب المقدس) جملة في الصفحة السادسة فقط أي قبل الخوض في الكتاب، يقول ( إيجلتون):
" المقدس خطير!..إذا وضع داخل قفص بدل أن يوضع داخل علبة زجاجية !" وهو لا يقصد المقدس العائد للإرهابيين ولا يستثنيه بل يقصد مفهوم المقدس وخصوصا في الغرب: ( الأب والابن والروح القدس ).. ويستشهد لمرة واحدة بكلمات حرفية لـ( أسامة بن لادن) وثيقة الصلة بفكرة يعالجها، رغم هذا بدت كلمات ( بن لادن) التي لا تستغرق سطرا، فائضة على الكتاب بسبب منهجيته وفرادته الخاصتين فـ( إيجلتون) يأخذ العمليات الانتحارية على مأخذ الجد باعتبارها تمزقا إنسانيا للمفجر وللضحايا، وهو مصيب هنا، لكنه لايأخذ الحركات الإسلامية ولاخطابها نفس المأخذ وهو- من وجهة نظرنا- مصيب هنا أيضا، في مقابل خطأين مزدوجين يقع فيهما الكثير من الكتاب الذين يبحثون في الظاهرة الإسلامية حين يأخذون خطاب الإسلاميين وقوتهم على محمل الجد ولا يرون في التفجير الانتحاري سوى نتيجة طبيعية لذاك الخطاب وتلك القوة..فمن وجهة نظر (إيجلتون) العملية الانتحارية لا شيء سوى إنسان لم تعد حياته تساوي شيئا، وهي لن تقوده إلى شيء أيضا، لكن في الوقت نقسه هذا ( اللاشيء ) الذي هو حياة الانتحاري وبدرجة أقل.. موته، فضيحة الإنسانية كلها! وفضيحة الغرب بالتحديد.. ويرفض ( إيجلتون) تجاهل هذا الألم الإنساني كما يرفض اعتباره من غرابة أطوار ( الآخر ) وهذا ما عنيناه بفرادة الكتاب.

ولا يحتاج المثقف أو المتابع إلى قراءة الكتاب للقول- مثلا- أن الإرهاب وحملات مكافحة الإرهاب وجهان لعملة واحدة، لكن ليس هذا ما يريد ( إيجلتون) أن يقوله– مع أنه يقوله أيضا- بل هذا: هناك نوع من الانسجام بين الجانبين.. على المستوى الفلسفي!! وليس هذا كل شيء فهناك فكرة طريفة فإذا كان البعض- ولا ينكر كاتب هذه السطور أنه منهم- يرون درجة من التواطؤ بين الغرب وبين عنف أعدائه الأصوليين بإدارة ماهرة من الغرب، فيكاد ( إيجلتون) يقول: نعم، ثم يطرح فكرته: هناك تواطؤ بين الإرهابيين الانتحاريين مع نزعة الغرب وميله إلى التدمير الذاتي.. بإدارة الإرهابيين الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه ولم يعد لدى الغرب ما يربحه من مراجعة مفاهيمه المطلقة عن الذات والحرية والربح اللامحدود..

وهكذا يصبح الكتاب صادما على الجانبين الغربي والشرقي ولسببين مختلفين، فإذا كان جديرا باهتمام أي قارئ فهو بالإضافة إلى ذلك مثير للرعب بالنسبة للقارىء العربي، ليس المسلم بل للعربي المسيحي أيضا، فمن النادر أن يجد العربي بين يديه كتابا يقوم مؤلفه بتشريح المقدس كما يفعل إيجلتون في كتابه هذا.. وسوف يجده القارىء مثل طبيب يعمل مبضعه الحاد في كل الاتجاهات بجسد ليس ميتا على الأرجح وبدون تخدير..على الرغم من أن إيجلتون لا يجدف بل لعل الصدمة تأتي بالضبط من عدم التجديف أي أن القارىء سيواجه مع المؤلف المهاوي السحيقة للحقيقة بدل الاكتفاء بالتغني بها وقد لاتكون هناك حقيقة مطلقة لكن، بالتأكيد هناك حقيقة غير مطلقة وهي التي تعنينا نحن البشر الفانون وتتعلق بسعادتنا أو شقائنا..

بهذه الطريقة نقرأ أفكار تيري إيجلتون في كتاب الإرهاب المقدس بسلاسة ووضوح تجعلنا ننسى الوساطة التي قدمته إلينا: أي الترجمة..وهذا دليل على جهد وبراعة المترجم التي تستحق الثناء..و


وإذا كان لدى المثقفين العرب قضية نظرية في المرحلة الحالية فإن الكتاب يخدم قضيتهم بكل تأكيد.