الضوضاء باختلاف مصادرها وأنواعها ، هى أحد أشكال التلوث السمعى الرئيسية . وسواء كانت ضوضاء قصيرة متقطعة ، أو طويلة منتظمة ، فانها تسبب العديد والكثير من الأضرار البدنية والنفسية للانسان .
قبل سرد تلك الأضرار ، نوضح الفرق بين الضوضاء المتقطعة ، والضوضاء الطويلة .
الضوضاء القصيرة المتقطعة ،مثل الأصوات التى تطلقها النفاثة ، والتى تشبه ارتطام جسم صغير بالآرض .
وأهم ما تتصف به الضوضاء قصيرة المدى ، هو التكيف معها . فهى غير مرتفعة، بحيث ، لا تؤدى إلى آلام وإصابات فسيولوجية . لذلك فالأشخاص يتكيفون معها بسرعة شديدة . الضوضاء طويلة المدى أو المنتظمة ، هى التى تحدث لساكنى المساكن باستمرار دون توقف بسبب القرب من المطارات ، وأعمال البناء والتشييد ، والورش الصناعية ، وكازينوهات الترفيه الليلية ، والمقاهى ، وغيرها من الأشياء المماثلة .
وهذه الضوضاء بنوعيها ، تشكل التلوث السمعى الكبير ، الذى يشكو منه سكان المدن ، فى أغلب مدن العالم .
من الناحية النفسية، تشكل الضوضاء ، أسوأ أنواع الضغط النفسى على الإنسان . وهذا الضغط النفسى ، يؤثر بالضرورة على الصحة العامة ، والصحة النفسية للإنسان فى مختلف سنوات عمره . ويكون ذلك فى صورة قلق وارتباك ، وتوتر وضعف فى القدرة على التركيز ، وإرهاق ذهنى وعصبى ، وعضلى . وحيث أن الحالة الفسيولوجية ، ترتبط إلى حد كبير ؛ بالحالة النفسية ، فأى اضطراب فى الحالة النفسية ، ينعكس على الحالة الفسيولوجية ، والعكس صحيح . وتظهر النتائج النفسية ، الفسيولوجية للضوضاء ، بصفة أساسية فى الأحلام ، وآلام الرأس ، وفقدان الشهية ، والشعور بالضيق والتعاسة .
ولا توجد هناك وسيلة دقيقة ، لتعيين نوع العلاقة بين شدة الضوضاء ، والآثار ، التى قد تتسبب ، فى حدوث الأذى ، والضرر ، للإنسان . وذلك لأن هذه الآثار ، قد تختلف من شخص لآخر .
إن التعرض المستمر للضوضاء ، يؤثر على الغدد الصماء ، " ذات الإفراز الداخلى" أى الغدد التى تفرز الهرمونات ، مما يسبب اضطراباً فى كمية الهرمونات ، والذى يعمل بدوره على عدم انتظام ضربات القلب ، وانقباض الأوعية الدموية . كما يسبب أيضاً ارتفاع الكوليسترول ، الذى يؤدى إلى ارتفاع ضغط الدم ، وتصلب الشرايين ، والشعور بالصداع المستمر . ويؤدى كذلك إلى اضطرابات عمليات الهضم والإصابة بالقرحة المعدية ، وقرحة الأثنى عشر . وهذه كلها انعكاسات فسيولوجية ، لتأثيرات الضوضاء على الجهاز العصبى اللاإرادى .
أما ما يسمى بالضوضاء الفجائية التى تعرض الانسان لمصدر من مصادر الضوضاء بطريقة مباغتة ، فانها أكثر خطورة . لآنها مفاجئة ، فقد تصل إلى حد كونها ، مميتة فى بعض الأحيان ، نتيجة تعرض الإنسان ، لهبوط مفاجىء فى الدورة الدموية ، بسبب المباغتة وعدم التوقع .
إن أشد الانفعالات إرهاقاً هو انفعال الخوف ، الناجم عن صوت مفاجىء . كصوت صفارة بالقرب من الأذن ، أو صوت طائرة وهى تخترق جدار الصوت ، أو صوت صادر من شخص موجه مباشرة لشخص آخر ليس منتبهاً له ، أو إطلاق عيار نارى مفاجىء . إن أسوأ موقف ممكن ، هو الذى تحدث فيه مفاجئة للجهاز العصبى ، بأصوات شديدة الارتفاع. فمثل هذه الضوضاء ، تأخذ المخ على حين غرة ، فتضر به ، مرة واحدة ، فى وقت لا تكون فيه أجهزة التكيف الواقية عاملة . وبذلك تحدث صدمة مخربة لا للجهاز العصبى ، وحده بل وللغدد الصماء ، وللجهاز الخاص بالقلب والأوعية الدموية . إن الضوضاء ، قد لا تسبب فى حد ذاتها مرضاً عقلياً ، غير أنه من المحتمل ، أن تكون الضوضاء ، القوى الفعالة فى الإسراع بالأزمة الانفعالية . وهذا الاحتمال ، يجعل الضوضاء ، نذيراً خطراً ، على سلامة الملايين عقلياً .
ولا ينبغى أن نتغافل عن زمن التعرض ، هو طول الفترة الزمنية التى يتعرض الإنسان خلالها لمصدر أو مصادر الضوضاء . فكلما كانت فترة التعرض صغيرة ، كانت الآثار السلبية الناجمة عنها مؤقتة ، وغير مؤثرة بصورة مرضية . أما إذا طالت مدة التعرض للضوضاء ، فإن الآثار المترتبة على ذلك تكون خطيرة . وهناك دراسات طبية ، ذكرت أن التعرض المستمر للضوضاء ، يؤثر تأثيراً كبيراً على أجهزة الجسم ، ووظائفها ، سواء كانت عضوية أو عصبية أو نفسية .
ويُفسر ذلك بأن الضوضاء ، تتسبب فى استثارة الجهاز العصبى ، والذى ينقل أثره للقلب والأوعية الدموية ، والغدد ومراكز الإحساس المختلفة بالجسم .
إن حالات قليلة من المرض العقلى ، سببها عجز الجهاز العصبى على التكيف ، مع القصف الضوضائى المستمر . إذ أن من الممكن أن يحدث عند الفرد ، تراكمات من التوتر العصبى ، بسبب التعرض الشديد للضوضاء . وهذا يسبب للشخص المتعرض ، أن يجد نفسه فجأة ، مشتركاً فى عمل عنيف ، أو مصاباً بانهيار عصبى ، على أثر أصوات ، تبدو صغيرة تدفعه إلى تجاوز نقطة احتماله . إذ أن من الضار بالجهاز العصبى ، وسائر أجهزة الجسم ، أن تعمل هذه الأجهزة فوق طاقتها معظم الوقت .
لقد تأكدت الدراسات أن الضوضاء ، حتى ولو كانت بدرجة ضعيفة ، فهى تسبب انقباض الأوعية الدموية . فبعد ثلاث ثوان بالضبط ، من بداية ضوضاء شدتها ( 87 ديسيبل ) ، تنكمش الشرايين الصغيرة ، وتقل كمية الدماء داخلها . وعندما تتوقف الضوضاء ، تحتاج هذه الأوعية الصغيرة إلى 5 دقائق كى يمكنها العودة إلى حالتها الأولى ، هذا فى حالة التعرض إلى الضوضاء لمدة 3 ثوان فقط . فماذا يكون الحال لو تعرض الإنسان للضوضاء لمدة 3 دقائق أو 3 ساعات ؟ .
ومن أكثر الآثار السلبية الناجمة عن التعرض للضوضاء لفترة طويلة ، ونشهدها جميعا مع أنفسنا ، ومع المحيطين بنا ، عدم المقدرة على التركيز ، وضعف الكفاءة فى الآداء ، والتراخى فى ردود الأفعال عند الخطر . مما قد يؤدى إلى زيادة التعرض لخطر الحوادث.
ومن البديهى القول بأن نوع العمل ، الذى يزاوله الإنسان ، فى أثناء تعرضه للضوضاء ، له أثر بالغ على نوع التأثير ، والضرر الذى يمكن أن تتركه تلك الضوضاء عليه .
إن الضوضاء المتسببة من نوع العمل ، تسبب الإزعاج للإنسان ، وتؤثر على أعصابه وتستطيع أن تسبب مشاعر مختلفة ، من عدم الرضا والضيق ، والخوف .
لقد توصلت بعض الدراسات ، إلى أن الضوضاء بسبب العمل ، تؤثر على القدرة الذهنية ، للفرد ، مما تؤدى إلى الشعور بالإجهاد ، وعدم القدرة على الاستيعاب ، والتعليم . كما تؤثر على الأعمال ، التى تتطلب اليقظة ، والأعمال الحسابية . حيث ثبت ، أن التعرض للضوضاء لمدة ثانية واحدة ، يقلل من التركيز لمدة 30 ثانية .
إن الضوضاء دون الــ 60 ديسيبل ، تؤثر فى قشرة المخ وتقلل النشاط . ويؤدى هذا إلى استثارة القلق ، وعدم الارتياح الداخلى ، والتوتر ، والارتباك ، وعدم الانسجام ، والتوافق الصحى .
وبسبب هذا النوع من العمل الضوضائى ، فى أحيان غير قليلة ، يضطر الانسان الى كراهية عمله ، وتركه والبحث عن عمل آخر ، ولو بمزايا مادية أقل بكثير .
ولا يجب بأى حال من الأحوال ، أن نستهين اذن بالضغوط الناتجة عن الضوضاء ، التى تؤثر على الإنسان نفسياً ، وفسيولوجياً . فهى قد تؤدى الى الموت . والضوضاء ، الشديدة والمستمرة ، تؤثر على ضغط الدم ، وكيمياء الدم ، والقدرة على النوم . بل وحتى على قدراتنا على اكتساب المعرفة . حتى أن هناك دليلاً ، على أن الضوضاء ، تعوق نشاط الجهاز المناعى . وبذلك تضعف من قدرة الإنسان على مواجهة المرض . بالإضافة إلى هذا ، وجد بعض العلماء ، أن هناك معدل وفيات عالية ، فى منطقة تستخدم كــ مسار جوى ، للطائرات ، بالقرب من مطار لوس أنجلوس الدولى ، ويوجد به مستوى مرتفع من الضوضاء . ويعد هذا المعدل مرتفعاً مقارنة ، بمعدلات الوفيات فى بقية المدينة . ويعيش فى هذا الطريق 200 ألف مواطن . وترجع أسباب الوفيات بصورة أساسية ، إلى النوبات القلبية ، والسكتات الدماغية ، وحوادث القتل والانتحار .
لقد أوضحت الدراسات ، التى قامت بها كلية الطب ، بجامعة " ميامى " الأمريكية ، بالتعاون مع وكالة حماية البيئة ، أن هناك علاقة ، وثيقة بين زيادة وارتفاع الضوضاء ، ونسبة الإصابة بأمراض القلب .
وتؤثر الضوضاء تأثيراً خطيراً على العمل والمهام الذهنية والفكرية . وهناك فروق محسوسة فى الإنتاج ، بين العمل الذى يتم تأديته فى جو هادىْ ، والعمل الذى يُؤدى فى جو كله الضوضاء . لقد ثبت أن الضوضاء تسبب حوالى 50% من الأخطاء فى الدراسات الميكانيكية . وحوالى 20% من الحوادث المهنية . وحوالى 20% من أيام العمل ، الضائعة ، ممثلة ، فى قلة رغبة العاملين ، وكثرة تغيبهم عن العمل . كل ذلك يؤدى إلى خفض القدرة الإنتاجية للفرد والتأثير السلبى على الناحية الاقتصادية . وقد أجريت عدة دراسات حول تأثير الضوضاء على حالة العمل والعمال . ففى تجربة متابعة لعامل فى مصنع غاص فى الضجيج خلال يوم عمل كامل . وُجد أن أول رد فعل ، يظهر على العامل ، بعد دقائق من دخوله إلى المصنع ، هو حدوث إحساس عام ، بالتوتر ، ثم طنين ملحوظ فى الأذنين ، ودرجة من الانهيار الذهنى والجسمانى . ويستمر الطنين لفترة طويلة بعد انتهاء العمل . وبمضى الوقت ، تتكيف الأذن مع الضوضاء ، ويقل الإحساس بالأعراض المرضية . ولكن باستمرار التعرض للضوضاء ، يبدأ الجهاز السمعى فى الانحلال البطيىء . وتظهر الحالات المعروفة بالصمم بأشكال متباينة ، ومحتلفة المعدلات .
وتؤثر الضوضاء ، على القدرة على التركيز والفهم . فـــ تلاميذ المدارس ، يقل استيعابهم وتركيزهم ، وفهمهم للدروس ، ويصعب عليهم حل أبسط العمليات الحسابية ، ويصابون بالإرهاق العصبى والدوار والشعور بالمرض . فالجهاز العصبى والقدرات العقلية ، تقل كفاءتها ، فى جو مشحون بالضوضاء . كما ينعكس تأثير الضوضاء ، على سلوك التلاميذ . فالغالبية منهم ، أصبح سلوكهم يتصف ، بالعنف ، والاندفاع ، والقلق وعدم التركيز . وأصبح رد فعلهم عنيفاً بسبب الضوضاء . وقد أثبتت الدراسات ، أن المحاضرات التى تلقى على الطلبة بصوت هادىء ، يستوعبها هؤلاء ويفهمونها أكثر ، مما لو كانت بصوت حاد ، مرتفع .
وتؤثر الضوضاء ، على المرأة الحامل . حيث تصبح فى حالة عصبية ونفسية ، غير مستقرة ، وعير متزنة ، مما يؤثر على الجنين . ومعروف طبياً ، أن الأم العصبية ، تنجب أطفالاً صغار الحجم أو ناقصى النمو ، وأحياناً تجهض ، ولا يكتمل الحمل . وقد ثبت بالفعل أن التلوث الضوضائى ، يؤثر على الجهاز العصبى للأجنة فى أرحام الأمهات ، ويبدأ ذلك فى الشهر الرابع من الحمل ، وهى لحظة بدء تكوين الجهاز العصبى . وهذا يؤدى إلى سلوك غير عادى ، عندما تخرج هذه الأجنة للحياة . كما يؤدى إلى اتساع إنسان العين ، مما يؤثر على قوة الإبصار .
كل هذه الحقائق عن الضوضاء ، أو التلوث السمعى ، وأضرارها الخطيرة ، لم ينعكس على وعى البشر بها ، خاصة فى بلادنا ، وبالتالى ليست هناك جهودا كافية للاقلال من هذه الظاهرة غير الحضارية ، سواء من الأفراد أو مؤسسات الدولة المختلفة .