لعل أكبر داع إلى الحديث عن هذا الموضوع الشائك ذلك الاستنتاج المتكرر التصريح به، و المثير للدهشة و للاستغراب الغوص في الحيثيات المحيطة به، ذلك القول ب"انحسار الإقبال على اقتناء الكتاب الأدبي، سواء أكان دواوين أشعار أو روايات أو مجموعات قصصية أو غيرها...". استنتاج يبدو و كأنه الحاضر و المسجل دائما و أبدا في كل التقارير المنشأة عقب كل التظاهرات الثقافية ـ المعارض خاصة ـ ،تلك التي تهتم بالإبداع الأدبي المنشور ورقيا، أي الكتب المتضمنة لكل الأجناس الأدبية بكل أنواعها و أصنافها. و إذا كان هذا هو واقع الحال و معترف به ،و إذا كان فعل اقتناء الكتب الأدبية أصبح النادر الورود ،فليس من المبالغة في شيء القول بأن الأغلب الساحق من ذلك العدد القليل الذي يُقبل عليه و يشترى يكون من قبل الأدباء أنفسهم و ذلك بهدف: * ـ تشجيع زميل أديب أو زميلة أديبة ما. * ـ الإطلاع على ما يمكن أن يكون قد قُرأ عنه من مستجدات و إبداعات جديدة. * ـ القراءة من أجل القيام بدراسات حول ذلك المقتنى. و لعل أسئلة عريضة و متناسلة تلح، و أيضا تطالب بالأجوبة حول الظروف التي أدت إلى نشوءه و تواجده ـ و كذا تعاظم وتيرته مع مرور الأيام ـ ذلك التوجه الاستهلاكي الجديد للأدب العربي ،أي ذلك الإقصاء المتفاقم المزمن ،إذ كيف يمكن فهم تخلي القراء العرب عن اهتماماتهم الضاربة الجذور في عمق التاريخ باللغة العربية، و بالنتاجات الأدبية المنسوجة من خيوط حروفها؟ و يبدو باستقراء لواقع الحال، و بسبر لأغوار الظروف المحيطة بهذه الظاهرة أن الأسباب كثيرة و متعددة ،و تتعلق بالأطراف الثلاثة التي تقوم عليها قضية التعامل مع الإنتاجات الأدبية العربية:
1 ـ الأديب. 2 ـ الأدب المنتج. 3 ـ القارئ.
1 ـ الأديب: استمر اهتمام العربي بالأدب منذ فجر كينونته حتى بداية القرن الماضي، ثم حدثت تغييرات جذرية في التوجهات الفكرية و الإيديولوجية لدى الأدباء العرب، إذ نحوا في الأغلب الساحق نحو اعتناق الفكر التقدمي الاشتراكي أو حتى الشيوعي، و ذلك: * ـ تأثرا بالتيار الفكري المادي التحرري النابذ للدين المكتسح للغرب آنذاك، * ـ و نأيا بالنفس عن الرجعية و الظلامية التي أضحى الدين صنوا لهما في تلك الفترة الزمنية. و قد تأثر بتلك الموجة الفكرية جل ـ إن لم نقل كل ـ المتعلمين القادرين على ممارسة القراءة في الوطن العربي آنذاك،و ذلك بفعل الدعاية العالية الوتيرة و المكثفة النبرات التي قامت بها السلطات السياسية الفاعلة في أرجاء الوطن العربي ،تلك السلطات المؤمنة بالقومية العربية و بالاشتراكية أو البعثية...أو الناصرية....وهلم جرا.... فقد كان أولائك المتعلمون الجدد في تلك الحقبة هم الفئة المستهدفة بتلقي أنساق الكلمات المدبجة من قبل الأدباء المناضلين، الذين يشاطرونهم نفس وجهات النظر المستجدة، و يقاسمونهم الرؤية من نفس الزاوية. توافق كان إذا في تلك الفترة... و إقبال كان أيضا، و استهلاك لكل ما تفتقت عنه قريحة الأدباء، الذين ما توانوا في تأجيج النبرة النضالية في كتاباتهم، و ما قصروا في رفع جرعات الدعوات إلى المقاومة في إبداعاتهم...و ما تأخروا عن إقحام الإشارة إلى ازدراء المقدس في إنتاجاتهم،و ذلك تماشيا مع تلكم الرغبات في الانعتاق حتى من الدين التي كانوا يدركون أنها الكامنة في عمق العربي،ذلك الخارج توا أو يكاد من عمق وهدة الاستعمار الحالكة ،و من مستنقع التحجر و الجمود الآسن، اللذان طالته آثارهما المدمرة لعصور ممتدة تواترت و تناسلت بفعل فقدان الهوية و ضياع سبل التفكير الرصين... فقد كان التفاعل على أشده بين الأديب المناضل و بين القارئ المتعطش لتشرب الأنساق الأسلوبية المضمخة بأريج التحدي، و بعبق جمالية إثبات الذات،حد اعتقاد ذلك القارئ في قداسة الأديب التقدمي ،و إيمانه بانتمائه لفئة الحكماء، و حتى لجماعة المقاومين الباذلين كل شيء من أجل إكساب الرفعة و التقدم للوطن العربي و للمواطنين العرب ككل. و قد لمعت أسماء بفعل هذا التوافق العقدي بين الملقين و المتلقين،و حتى وُجد من الأدباء من بنوا صروحهم الإبداعية على القضية الفلسطينية،تلك القضية التي كانت أكثر ما كان يلفت النظر و يحوز الاهتمام آنذاك، و ذلك بفعل جرح الغصب كان لا يزال الحديث، و تنزف جوانبه الدامية المنكأة من طرف العدو باستمرار... و دام الوضع على هذا لسنوات أو لعشرات من السنين،ثم انهارت قبلة التقدميين و الشيوعيين، و تصدع محراب الاشتراكيين،و تناثرت حجج القوميين،ثم بدت عورات الأنظمة السياسية التي كانت تتعبد في ذلك المحراب و تتوجه إلى تلك القبلة و تتوسل تلك الحجج: * ـ فأصبحت العارية من كل شيء إلا من أوزار شعوب جُوعت و أُذلت و قُهرت باسم الإنسانية و المساواة و العدل و التحرر، * ـ و أضحت الواهنة رغم كل الشعارات التي نفخت في كيانها و حاولت إرجاء سقوطها من حين إلى حين... و هكذا استفاقت الشعوب من أوهام الدعايات المنمقة، و عرف المواطنون العرب أنها كانت مجرد الأراجيف و الأكاذيب، تلك التي أفهموا أنها الترياق نافع و طارد لكل أدواء التخلف و أسقام التبعية... ثم رأوا بل و استيقنوا من أن تلك الأمراض التي كانت قد تفاقمت ،و تلك الأفكار التي لُقنوها تخلى عنها حتى منتجوها و تبرأوا منها ..دوار و أصاب أولائك المتلقين ... و حيرة و تغلغلت في أغوار المتعلمين القراء المفترضين ،الذين أصبحوا المتحررين من ربق المنبر الواحد بفعل الثورة الإعلامية و تعدد القنوات الفضائية،فقرروا نبذ كل ما يذكرهم بذلك الماضي شُحنوا فيه بحمولة فكرية أدركوا أن عدوهم المباشر ذلك الصهيوني يتبنى غيرها، بل ينثال من عمق فكره ضدها و ذلك الذي هو على النقيض منها... استوعبوا أنها دولة دينية تلك التي هزمتهم شر هزيمة،بل و مرغت كرامتهم أو ما تبقى منها في التراب الذي استحلته و طردتهم منه،و أيقنوا أنه خطاب ديني ما ترفع عقيرتها به ،ذلك الذي عُلموا أن يستهينوا به و أن يمجوه و أن يحتقروه في كتاباتهم و إبداعاتهم... ثم وعَلموا أيضا أنهم أُضيعوا الوقت ثمين كان سينفع استعماله في غير ما استعمل من أجله...قصائد أوهام قومية...و قصص حيرة وجودية...و روايات عهر رخيص و تحرر مبتذل ماجن و انحرافات مشينة... متع لحظية زائفة لربما كانت قد تُحصل عليها،و ما أضحى لها الآن في الزمن الحاضر من قيمة بالنسبة إليهم مقابل الغصة متراكمة و المرارة اكتسحتهم و نغصت حياتهم... أحاسيس ذل ،و ضغوط يقين بالهزيمة، و شعور بالتبعية عمياء و لا مناص من الاستسلام لها،ثم و كل تلكم الترهات المتغناة بها سابقا أضحت تلك التي لا تصلح إلا لمزابل التاريخ يجب أن تودع فيها،و ذلك حتى لا تجرف الجيل اللاحق كما فعلت مع السابق الذي ما زال منه من لم يرد الاعتراف بتفاهة معتقدات الماضي مكابرة و عنادا، بالرغم من أن جعجعاتهم في الأغلب الساحق لا تعكس إلا تشنجات ما قبل الاحتضار و الموت. و إذا كان ذلك الجيل الأول الذي تشبع بذلك الفكر و غمر به كتاباته في الزمن الماضي لا يزال مصرا يفعل غير عابئ بالتغيير و إن كان المجازف بكيانه الفكري و بمكانته الثقافية،فإن حتى أدباء شباب ما عايشوا تلك الحقب "الزاهرة " للفكر التقدمي القومي الاشتراكي الشيوعي و هلم جرا: * ـ نهلوا جائعين مما خلفه الآباء، * ـ و اعتقدوا واهمين أن عليهم أن يرثوا الحمولة الفكرية لأسلافهم التقدميين المتقدمين حتى يحققوا أمجادا كمثل التي كانت لأولئك الأسلاف، * ـ ثم آمنوا مجانبين للمنطق و مُحيِّدين للعقل بأن الأدب الحق هو كل ذلك الكل بقوالبه و مضامينه ،أي ذلك الذي وجدوه السائد المتعارف عليه ،و لقنوا معاييره و مقاساته،و أن ما سواه ما هو إلا الأنساق الموشومة بثقافة الموت و الموسومة بآثار القبح و بالبشاعة. فمددوا في عمره ذلك الفكر رغم موته الحقيقي،و وهبوه المساحات شاسعة في فضاءات المعاني في كتاباتهم،و اعتقدوا بأن عليهم أن يكونوا غير العاقين و خير الخلف لخير السلف، و اقتنعوا بأن عليهم القيام بدور المناضلين المكافحين من أجل ترسيخه و توطيد أركانه ،و إعادة الرفعة كانت له قبل هجوم الرجعية و حين انعدام شيوع الظلامية. تنتابهم الأحاسيس العارمة بأنهم المبشرون بالفكر الحر المُعتِق من كل الأغلال و هم سجناء فكر عفا عليه الزمن ،و ما لهم من رغبة و لا حتى قدرة على مراجعة النفس أضحت الحبيسة لتلكم القناعات، وذلك رغم الاقتناع بعدم الإقبال على ما يكتبون و على ما ينشرون إلا من طرف أمثالهم من الأدباء المؤمنين بنفس الفكر، الذين يؤازرونهم أياما و ينتظرون هم أيضا حظهم من المؤازرة أياما أُخر . ثم و هم المستيقنون من عدم الإقبال على إبداعتهم،و من انحسار الرغبة في قراءة بنات افكارهم،يستمرون مثابرين في الكتابة بنفس الطريقة ،و يتوسلون نفس المرجعية الفكرية ،و أيضا يغزلون على نفس النول الأسلوبي،ثم و تراهم بعد ذلك يرفعون أصواتهم يستديمون الشكوى من عدم نفوق الكتاب الأدبي في السوق العربية ،و هم الذين ما عملوا على تحيين فكرهم الذي ما يزالون "الصابرين" عليه، "المناضلين" من أجل إذاعة انتشاره ،بالرغم من تداعي أسسه، و وضوح الشقوق ماثلة على جدران كيانه... يظنون أنهم بتوسل الثبات على "المبادئ"،و ب"النضال" من أجل المرجعية العلمانية المادية يمكنهم أن يغيروا من مرجعيات القراء ،و أن يوجهوا دفة فكرهم، و أن يرغبوهم في تقبل وهم مضامين تالفة يُسَوِّقونها ،كانت الرائجة في زمن ما لغياب الرؤية واضحة، و لعدم وجود أدلة على الضحالة و التهافت كامنتين فيها. ما يزالون يرون أنفسهم حراس الفكر الثوري، و الوافقين على أعتاب معبد التحرر من ربق الدين يذودون عنه،و هم يرون العالم كله يموج في اتجاه الدفاع عن الهوية الذاتية بكل مكوناتها حتى تلك الدينية، حد ما بقي شبر من البسيطة ما اعتبر فيها الدين ـ حتى الوثني منه ـ ركن من أركان الكينونة بل الركن الأساس بدون منازع و لا خصيم. و القليل منهم أولائك الأدباء العرب بدأ مرحلة الاستفاقة فقرر أن يعيد للدين و للحديث عنه بعض مكانة في كتاباته،لكن الإله محايد و ناظر من عل إلى عباده في إبداعاته ذلك القليل،عباد لا يتورعون أن يتصرفوا كما يشاءون و يحلو لهم،ثم و هم يدعون لذلك الإله الطيب الساذج المحب أمكنة داخل المعابد يتفاعل فيها مع من يريد الاعتراف بذنب ما...نسخة مما عند الغرب... ثم هي أممية و إنسانية ...مصطلحات أضحت الدالة على مفاهيم أصبحت البديلة للقومية و للاشتراكية و الشيوعية و لما راج في الزمن الماضي...مفاهيم يغذون بها نصوصهم و يستوحون منها مضامين إبداعتهم. لكن المشكلة أن هاته المفاهيم المستجدة ليست المرحب بها هي أيضا من طرف القراء العرب ،الذين أصبحوا يدركون أن كل مستورد فاسد لا يصلح إلا لمن أوجده... و بالتالي فهم المصرون على أن لا يهبوا اهتمامهم إلا لمن أخلص للهوية، و صور حقيقة الإنسان العربي كما هو دون تجريده مما هو مفطور عليه و كامن فيه. و حتى تلك الصوفية المخدرة الهجينة الحائزة على رضا الغرب ما عادت تنفع في إتقان المغازلة، و ما أصبحت تؤتي الأكل من قبيل لفت الانتباه و الترغيب في الاقتناء و الاستهلاك في زمن الأوبة إلى الله.
2 ـ الإنتاج الأدبي: لا بد أن هنالك خصائص و صفات معينة للإنتاج الأدبي العربي الحالي ساهمت في العزوف عن الاطلاع عليه و في رفض تلقيه،إذ ما تزال كتابات أغلب الأدباء العرب تلك الداعية إلى التيه بين أدغال الشك و أشواك المجون. فشعرهم هو ذلك الغامض المبهم الخالي من كل معنى إلا ما أعان على التحرر من الدين و من القيم و الأخلاق،و رواياتهم و قصصهم و حكاياتهم ما هي إلا تصوير لأحوال الفاسدين المنحلين ال"المتمردين على كل ما هو الممتوح من مما تلقاه الإنسان من ربه من توجيهات و مبادئ ... و حتى خواطرهم لا تغوص كلماتها إلا في الحلقات مفرغة و يصيب التجوال بين أحرفها بالدوار و بالغثيان،ثم و لا حتى السير الذاتية خرجت من إطار تداعى و أصبح القديم المتجاوز ،فما تُركز إلا على كل فعل قبيح اقتُرِف منهم في زمن ما، و تحملوا تبعاته المخزية ،ثم و يصورونه على أنه البطولي المُقحِم لهم في عوالم المُتًحَدِّين الراسخين في علم التمرد المُمَيَّزين. إذ هي الحمولة الفكرية التقدمية و القومية و الحداثية التي مجها القارئ العربي في الزمن الحاضر تلك التي تبث بين الكلمات،فتتحول النصوص تبعا لذلك إلى ما يجب أن يحشر في حيز إرث عُفي عنه ،و حتى تُجُووِزَ بفعل نزوع الشعوب العربية نحو إعادة النظر فيما استخف بواسطته بها من أفكار و مفاهيم تُخُلِّيَ عنها، و كذا استُبدِلت في كل أنحاء المعمور بما هو مواز للتعبير عن حقيقة الذات. فالكتابات الأدبية العربية الحالية استُغني عن قراءتها لأنها ما عادت تروي الظمأ إلى الانعتاق، و لا تحقق حتى أحلام التحرر من التبعية. الكلمات تائهة و مُركسة في يم المعاني الهائج المضطرم الفاقد للشاطئ آمن يُرسى فيه،و الجمالية المتغنى بها و المتحدث عنها في كل المنابر غائبة مغيبة رغم القول بأنها الكامنة بين ثنايا الأحرف و يطالب القارئ بتقفي آثارها و باستيفاء أنوارها المجهولة المفترضة... إبهام و غموض و ارتجال حد الهذيان،و تمييع و تبسيط و غوص في متاهات العامية حد المباشراتية و التقريرية و السوقية و استعمال لغة الغوغاء. ثم و يبدو أن البقية الباقية من الاحتفاء بالأدب متعلقة بجنس أدبي واحد هو الرواية، و هذا الاستثناء مرتبط فقط باحتوائه هذا الجنس على مكون الحكاية ليس إلا، فهو من دون الأجناس الأخرى تتواتر فيه الأحداث و تتناسل و يعرف عن طريقها إن مآل البطل أو صيرورة باقي الشخصيات. و لعل هذا الإصرار على حضور الحكاية من أجل الإطلاع على الأدب العربي الحالي متعلق بإدمان ذلك الصنف المطلع من القراء العرب على اللذة كامنة في الحكايات المصورة المبتذلة الساقطة في المسلسلات و الأفلام..... و لا شك أن هذا التبرير يبدو مشروعا حين يطلع على نوعية الروايات الرائجة، فهي البسيطة الأسلوب و حتى المفعمة بالعامية، الكثيرة الأحداث، المتطرقة للتافه من المواضيع و للشاذ المنحرف من الشخصيات... فكل الروايات المتميزة الأسلوب، الراقية اللغة، و السامية المنحى الفكري، و المتوسلة للرمزية و للصور الشعرية، لا تكاد تبرح مكانها على رفوف المكتبات إلا إذا وهبت أو أودعت في مستودعات التجميع.
3 ـ القارئ: لا بد و أن لهذا العنصر الثالث دور فعال أيضا في مسار تداول الإبداعات الأدبية في واقعنا العربي،فمؤثرات عدة تمكنت من التغلغل عميقا في نسيج عقل القارئ العربي ،و دفعت به إلى تغيير قناعاته بخصوص احتياجه إلى الجمالية كامنة و موحية في النص الأدبي ،تلك الغائبة المغيبة عن اللغة التقريرية و السطحية التي يلتقي بها في الأساليب الكتابية في الصحافة و في باقي المجالات الأخرى. و لعل الناظر المفترس في أحوال القراء الفكرية و حول طرائق تلقيهم للثقافة عموما و للأدب خصوصا، يجد أنه من الممكن تصنيفهم إلى نوعين من جهة نوعية الأسباب الدافعة لهم إلى الابتعاد عن تذوق الأدب، و عن الإقبال على اقتناء الكتب المحتوية لمختلف أجناسه.
أ ـ الصنف الأول: هم الذين انزرعت بذور الوعي في مساحات فكرهم،و يبحثون عما يغني تلكم المساحات، و يحولها من القفر اليباب إلى الجنان وارفة فيها ما ينفعهم و يؤجج وتيرة نهضتهم، و كذا يسرع من استيقاظهم . تهمهم الجمالية و لا يغمطون أنفسهم حقها فيها ،لكنهم لا يريدون هدر الوقت فيما لا طائلة من ورائه مما لا يقدم شيئا و لا يعين على تلمس طريق...اطلعوا على جل ما يكتب تحت اسم الأدب فوجوده طلاسم و هراء و حكايات وهمية و أساطير مستوردة و سير شخصيات لا تربطهم بهم وشائج، و ليس لهم معهم قواسم مشتركة إلا نوعية الأسماء أو الانتماء الجغرافي، فالقناعات مختلفة، و الهموم متباينة، و التطلعات متناقضة، و بالتالي لا يمكن أن يعنيهم منهم الحال و لا المآل. تيه و هم السائرون نحو الأهداف ،و تأرجح و هم الثابتون على المبادئ،و انحراف و مجون و هم المصرون على الفضيلة و الاستعفاف ،و انبطاح و هم الطامعون في الانعتاق ،فما يمكن أن يستفيدوا من تلكم الأسفار الأدبية إذا اطلعوا عليها إلا الحجة على أن غياب الهوية الذاتية مُقتنَع بها، و مُسْكَنَة في المهج ،يؤدي إلى استجداء شذرات من تلك للغير، ثم و تبعية تتواتر حلقاتها بعد ذلك ،و لا تحرر مبشر به و لا انعتاق... و دائما يشار بالبنان إلى شيوع القناعات الدينية لدى هذه الفئة كسبب من أسباب تدني نسبة الإقبال على الأدب،و يطلق عليها تلك القناعات مسمى الفكر الغيبي الخرافي، و حتى تلصق به كل التهم من رجعية و ظلامية ،لكن و بالرغم من محاولات تسليط الضوء المتواصلة على المقولة و من التذكير المتواتر بها، فإن الكل يدرك أن التدين الحق لا يمكن أن يكون أبدا ذلك الصاد عن استمراء آثار الكلمات الجميلة العذبة المعبرة ،و لا ذلك المانع من التلذذ بالإيحاءات السامية الرفيعة. فما هو كائن لا يعدو كونه انحسار ـ أو انعدام ـ لاهتمام القارئ العربي من هذا الصنف الواعي بالأدب الذي لا يهتم به كشخص و بقناعاته الجديدة ،بل و يهاجمها و يسفه المقتنعين بها، و يريده دائما ذلك القارئ العلماني الذي فصلت مقاساته في الستينيات و السبعينيات و ما بعدها من القرن الماضي،مقاسات يريد الأدباء العرب استدامة تواجدها على الساحة الأدبية من اجل تسويق منتجاتهم، و بهدف استبقاء الطمأنينة حواليهم،و ذلك بالرغم من هدير انجراف دوحة الأفكار التي كانوا يستظلون بها و يستوحون منها إلهاماتهم. فالقارئ العربي الواعي لم يعد الساذج و لا الجاهل بما يتقضيه منه الحرص و كذا اليقظة ضروريين من أجل استكمال إيجاد العناصر الممكنة من إعادة بناء صرح الذات،و ذلك تأهبا لاستعادة الكرامة و لنبذ أوزار الامتهان. فهو الآن المستيقظ المتوثب غير الحريص على فقاقيع متعة تتهاوى، فلا تترك من آثار سوى مذاق حيرة و هدر وقت ثمين….
ب ـ الصنف الثاني: لا شك أن ظاهرة الإعراض عن الأدب ما هي المحصورة بالمتدينين كما يشاع، بل و أصابت حتى العلمانيين و غيرت من سلوكياتهم تجاه كل الأجناس منه و تجاه حتى منتجيها. إذ هم الأدرى بأفول نجم الفكر العلماني رغم استماتتهم الشرسة في الدفاع عنه في بعض الأحيان،و هم الأعلم بخلو جل الإبداعات منهم مما يمكن أن يُعجِب أو يكون الطعم يُعْلًق فيه، و ذلك إذا ما استثنيت تلك الصور الجنسية البحتة ،و تلكم الخطابات المذكية للغرائز و المحققة للمتع المبتذلة الرخيصة. و بالرغم من تلك الحمولة الشهوانية و الداعية إلى التحرر من ربق الانقياد للدين التي يحرص الكثير من الأدباء على إدراجها في نسيج كتاباتهم بهدف استدراج عناصر هذا الصنف الثاني و ترويج السلعة بينهم،فإن لهذه الفئة أيضا السبق في مسار الإعراض عن الأدب و القراءة الأدبية،إذ تجدهم في الأغلب الساحق ـ سوى الأدباء منهم ـ الزاهدين في كل ما توحي به شياطين الشعر و حتى النثر،قد اكتفوا بالحكي المصور المشاهد،و ذلك عوض المقروء أو حتى المسموع الذي انحسر تأثيره حتى قارب أن تنقضي جاذبيته و تندثر . و يظهر هذا التوجه و الاختيار في أوضح تجلياته عند فئة الشباب،ذلك المُفرغ من كل جزئيات الهوية الكَلُّ العَيِيُّ، الذي ما يكره أكثر من بذل الجهد من أجل استيعاب فكرة ما، غزت التقنيات الحديثة الفضاءات المحيطة به ،و انخرطت في ثنيات حياته ،حتى ما تركت له من احتمال الاعتماد على النفس من أجل التوصل إلى نحت مسار فكري خاص به،متعرض ليل نهار لقذائف الأفكار مضمنة في أنعم الوسائل تسللا إلى ذهنه، و ألطفها على عقله، و معها كل المغريات و المقبلات. فالصور على النت أو على شاشات التلفزيون و السينما هي المحببة إليه ،و تأتيه بالفرجة و المتعة وارفة،و تغنيه عن البحث عن اللذة الفكرية يجدها في وسائل أخرى لكن فيها الخشونة و فيها انعدام الفرجة، و حتى تتطلب منه بذل الجهد و تشغيل آليات التفكير. ثم و القراءة هي آخر ما يجذب اهتمامه، و الأدب هو آخر ما يهمه الإطلاع على القديم و حتى المستجد منه،و حتى حين يقرأ شيئا ـ و نادرا ما يفعل ـ لا يقبل إلا على تلكم الروايات المثيرة التي يعرف عنها أنها تلك التي سوف يجني من وراءها متعا حسية و حكايات تنضح بالتفاصيل حول شخصيات و فضاءات مقربة إلى فكره،و ذلك لانتمائها لحيز اهتماماته نظرا لنوعية سلوكياته و نمط عيشه..خمارات و سكارى ... و أماكن عهر و بائعات للهوى...و عربدات فكرية و سفسطة و هرطقات مبيحة للتفلت و للانحراف... فحتى المضامين المتعلقة بقضايا الأمة التي قد يشذ أحد الأدباء فينحت إبداعا حولها الآن ـ القضية الفلسطينية نموذجا ـ لم تعد تثير فيه إلا الاشمئزاز و القرف ،لأنه الذي أُغرق بالقطرية حتى أضحى ما يعبأ بما هو خارج الحدود سُطرت و عُلِّم أنها حدود موطنه الذي ينبغي أن لا يهمه ما وراءها...ثم حتى الفردانية تلك المتأججة مع انعدام القيم فعلت فعلها فيه ،فهو ذاك الأناني لا يهتم بما يتجاوز خطوط ذاته و يحقق لها ما تبتغيه و ترغب فيه. و لعل هذا الصنف الثاني، أو هذا النوع الضحل من المستهدفين المفترضين يفتقد حتى القدرة على فهم اللغة الأدبية الرصينة البعيدة عن التقريرية و البساطة المتضمنة في الكتابات الأدبية، و ذلك: * ـ لعدم اهتمامه باللغة العربية أصلا، لاعتباره إياها من مخلفات ماض ينبغي التنكر له و التنصل من تبعات الانتماء إليه، * ـ و لضعف مستوى النظام التعليمي الذي أضحى المزمن و أثر على قدراته و مؤهلاته، * ـ ثم بعد ذلك لعدم انخراطه في عملية التكوين اللغوي المستمر عن طريق ممارسة القراءة. و قد قرر مجاراة هذا الصنف بعض الأدباء طمعا في استجلاب اهتمامه، فكتبوا بالعامية، و استعانوا بالألفاظ السوقية، لكنهم ما حصلوا على مستهلكين، و لا سوقوا ما يكتبون...فما هو موجود في إبداعاتهم مضمن في أفلام و مسلسلات متوفرة متعددة، و يجنبهم استهلاكها مشقة التخيل و تعب تشغيل آليات الاستيعاب... ثم هي تلك الكتب الأدبية لا تسحق أن يبذل ـ في نظرهم ـ أي مقابل مادي من أجلها و من أجل ما فيها من تفاهات يمكن حيازتها مثيلاتها في كل آن و بالمجان.
و أخيرا... و بعد هذه الإطلالة على بعض الأسباب التي من الممكن أن تكون الكامنة وراء ظاهرة العزوف عن اقتناء الكتاب الأدبي العربي،يبقى من الواجب و المشروع خلق ورشات للتفكير حول الموضوع و حتى طرح أسئلة وجيهة من قبيل: * ـ ما جدوى الكتابة الأدبية بشكلها الحالي ما دام المستهلك منعدم أو حتى منتق تافه بسيط...؟؟
* ـ هل يمكن أن يسد الأدباء بمفردهم هذا النقص الاقتنائي، و يقوموا تبعا لذلك بدور المنتجين و المتلقين في نفس الوقت؟؟و أو لا يعني ذلك أن آثار كتاباتهم لن تتعدى حدود فضاءاتهم الفكرية و تلك لغيرهم من الأدباء ممن يشاركونهم مهام تدبيج انساق الكلمات...؟؟؟
* ـ هل على الأديب أن يواكب الموجات الفكرية السائدة و يكتب ما يهم الناس و يصور واقعهم و يتفاعل مع توجهاتهم؟أم عليه أن يثبت على ما وُرِّثَه و اعتقد فيه، و من ثم يتجاهل كل الاختيارات الثقافية و الفكرية المستجدة بل و حتى يسفههما و يستخف بها؟؟؟
* ـ و هل يعتبر تدقيق النظر حول المعايير الشكلية و المضامينية للأدب العربي و حول الحيثيات المحيطة به ،و تصحيح ما ينبغي تصحيحه من أجل إعادة الاعتبار لذلك الأدب من قبيل الخيانة الثقافية و التذبذب الفكري؟ أم أن ذلك دليل على النضج و سيمكن من استعادة ثقة القراء؟؟؟
* ـ لا شك أن الغرب المتسلط علينا و المسيطر ثقافيا لا يرغب في إعادة النظر تلك، لان تلكم المضامين المُتيهة هي كل يريده أن يشيع و يُطَّلع عليه من قبل القراء العرب... فهل ينبغي الاستجابة لذلك التوجه الغربي بهدف نيل رضا ذلك الغرب و لم لا حتى جوائزه؟؟أم يجب انتشال الأدب من تأثيره ذلك التوجه و نبذه، لأنه مظهر من مظاهر الاستعمار الفكري البغيض، و لا يخدم إلا مصالح المُستعمِرين؟؟؟
الأسئلة كثيرة و متناسلة متعددة...و الأمل كامن في أن يساهم طرحها على التفكر حول مآل الأدب في واقعنا... إذ لا شك أن كل الصور اللغوية المنبثقة من فكر الأديب و من حناياه ،و كذلك من سوانحه و من تجاربه و كل جزئيات حياته هي جزء من الرصيد المعرفي الإنساني، و الذي يجب أن ينفع الإنسانية في إعادة ترتيب أوراق وجودها على الأرض ، و في تصحيح مسارها الذي يتعرض إلى الانحراف كلما ابتعدت عن معين الفكر الواعي المنطقي السليم يجب أن تغترف و تمتح منه.