أنا مجرد «عازفة بيانولا».. ومقولة «لا يهمني القارئ» تصيبني بالغثيان
فاطمة قنديل: كتبت ذات مرة أنني ابنة المدينة.. لكنَّ الشعر علمني أن أكون فلاحة – نحن نسرق نصوص الآخرين ونقتات عليها ونحورها ونعيد صياغتها –
القاهرة – حسن عوض:- المصدر جريدة عمان - 15 سبتمبر 2017 في ديوان «بيتي له بابان» للشاعرة المصرية الكبيرة فاطمة قنديل تسيطر تيمة العزلة على القصائد. ذات معذبة وقلقة تبحث عن خلاصها. تملك الشاعرة من الخبرة ما يجعلها تفجر الشعر بلغة بسيطة، تقترب في بعض الأحيان من التقريرية، لغة لا تخاصم المجاز غير أنها تخلق مجازها. صورتها أشبه بالفوتوغرافيا، تضع التفصيلة بجوار التفصيلة حتى يكتمل المشهد بالكامل خالقاً صورة في منتهى الصفاء والجمال. فاطمة قنديل واحدة من أهم الشاعرات المصريات. أصدرت قبل ذلك الديوان خمسة أخرى «أنا شاهد قبرك، أسئلة معلقة كالذبائح، صمت قطنة مبتلة، حظر التجول، وعشان نقدر نعيش». هنا حوار معها حول عملها الجديد وأيضاً علاقتها بمجايليها وغيرها من الأمور الأخرى. لغة الديوان بسيطة.. هل تعتبرين أن هناك نوعاً من التحدي في محاولة خلق شعر من تلك اللغة البسيطة؟ ليست هناك، فيما أتصور، لغة بسيطة، ولغة مركبة، وإلا لاعتبرنا شعر العامية في نماذجه الكبرى لغة بسيطة، أنا أحب الأعمال الفنية التي تشبه ورقة الشجر، لها سطح أملس، ولكن بداخلها كون بأكمله، اللغة، أيضا، حين تدخل إلى النص، وكما تعرف، لا تصبح بسيطة، مهما بدت كذلك، واللغة في عمل أدبي ليست مفردات لغوية، على أية حال، هي كائنات انتزعت من مكانها لتدخل مكانا آخر، لتغترب فيه، أو تتآلف، أو تتعارك، لكننا يمكن أن نقول لغة عارية من البلاغة التقليدية، عن نفسي حين أكتب تكون لغة السينما هي الأكثر حضورا بالنسبة لي، أحاول أن أصنع «كادرا»، دون زيادات، ما أمكنني ذلك، لكنني الآن، وأنا أتحدث إليك بإمكاني أن أرد عليك بمجاز آخر، أنا مجرد «عازف بيانولا»، يحملها على ظهره أينما ذهب، ويحاول أن يجعلها أخف ما يمكن، أظن أنك كنت تتوقع مني كلاما آخر، كلغة التفاصيل اليومية، وما شابه ذلك، تركت هذه التنظيرات منذ وقت طويل.
■ جان فالجان يرد في قصيدة «بطاقة هوية» وهو الشخصية الرئيسية في رواية الفرنسي فيكتور هوجو «البؤساء».. لم يكن فالجان وحيداً بقدر «الذات» في القصيدة. فالجان وجد مَن يمد يده إليه، على غرار ما حدث من الأسقف ميريل.. لماذا تم استدعاؤه في تلك القصيدة؟
«الذات» في القصيدة، نسيج من أشياء متعددة، كما تعرف، الخيط الذي التقطتُه من جان فالجان، هو الذي أسكنته في «مسافة العشب البري بين البابين»، لحظة القلق هذه، لحظة التوتر والجوع، وبعدها الأقنعة العديدة التي ارتداها وهو مطارد، المطاردة من «خارج الأبواب» كانت مهمة بالنسبة لي أيضا، ماعدا ذلك يخص فيكتور هوجو، ولا يخصني، رومانتيكية هوجو، ابنة عصرها، آخذ منها ما أريد وأترك ما أريد، لذا حاولت أن ألتقط جان فالجان في لحظات تحولاته، في حركته، حتى يكون حيا في نصي، السرقة أيضا، ضرورية هنا، نحن نسرق نصوص الآخرين، ونقتات عليها، ونحورها، ونعيد صياغتها، هذا ما أعرفه عن الكتابة، على أية حال.
■ يرد أيضاً اسم «بروفروك» في قصيدة بالديوان وهو أيضاً الشخصية المحورية، إن جاز التعبير، في قصيدة إليوت «أغنية حب الى ألفريد بروفروك»، وهو بحسب الدكتور فائق متَّى صاحب شخصية تراجيدية، متألم غاية الألم لعجزه عن تحقيق رغباته وطموحه ومثله العليا. في قصيدتك يبدو أن هناك محاولة من الذات لتقول إنها لا تشبه هذا الشخص مع أن العكس هو الصحيح. سنكتشف هذا ببساطة من متابعة منحيات الذات على امتداد الديوان.. ما رأيك؟
ما زلت مصرة على أنني لا أشبه بروفروك، على الإطلاق، في النص، وفي الحقيقة، ليس هناك بروفروك أصلا في النص، إنه ادعاء مني، هناك ما يشبه «فنجان قهوته»، وهو لوحُ قياسِه للأيام، تماما كلوح قياس الأيام لروبنسون كروزو، النصوص كالمرايا، كما تعلم، وكان لا بد أن أضع مرآة قهوة بروفروك لتضيء نص كروزو، طبعا لم يكن هذا الاختيار واعيا تماما ساعتها، لكنني أراه الآن هكذا، إن كان هناك نص كامن في هذا النص، فهو قصيدة صلاح عبدالصبور، «مذكرات رجل مجهول»، وهو يصف الأيام: «هذا يوم مكرور من أيامي/ هذا يوم تافه/ ..إلخ.
لستِ بروفروك، لستِ أيضاً فرجينيا وولف، لماذا هناك محاولة لقلب الحقائق في قصائد الديوان؟ وهل الشعر شيء آخر سوى قلب الحقائق؟! لكنني، كما قلت لك، أختار لحظات بعينها من الشخصيات، بروفروك وهو يشرب قهوته، وفرجينيا وولف لحظة انتحارها، إنهما وجهان مختلفان تماما في النظر إلى الحياة، وفي الفرار منها، ولقد عشت هذين الوجهين، وغيرهما، على مدى حياتي كلها، لذلك لا أستطيع أن أقول عن نفسي في هذه اللحظة مثلا، إنني أحدهما، لقد كانا داخلي ذات لحظة، ورحلا، وربما عادا مرة أخرى. لا أستطيع أن أتكهن بهذا.
■ في قصيدة «خاتمة» هناك خلقٌ جديدٌ لروبنسون كروزو على جزيرته. يظهر روبنسون وقد انتهى من قراءة روايته الأصلية عن نفسه، وبهذا يفهم أنه ليس عليه بالضرورة أن يكون متعجلاً.. هل نحن بحاجة إلى أن نعرف رواياتنا حتى نتخلص من الألم الذي يطاردنا، أو ببساطة حتى تتخلص «الذات» في ديوانك من ذلك الألم؟ على المستوى النفسي، هذا ما يقوله علماء النفس، وبه شيء من الحقيقة، ولكن الكتابة ليست خلاصا من الألم، تعبير «الخلاص بالشعر»، الذي أبهرني في البدايات، يجعلني أبتسم الآن، حين أسمعه، على مستوى الكتابة، هناك قوانين أخرى، لديَّ اثنان كروزو في النص، المغامر والمكتشف، والذي يعرف الحكاية، وليس بمقدوره أن يكتب حكايته الجديدة إلا سرا، إنه السيدة الغامضة التي اختفت في الإهداء بعد أن سرقتُ اللاب توب الخاص بها، وهو الرجل الذي يكتب على البحر، وما إن يرحل، أسرق أوراقه، إنها مرايا كما قلت لك، وهذا في صلب مفهومي عن الكتابة، بما هي إعادة صياغة لنصوص الآخرين، التي أحبها، إعادة صياغة لا بد أن يلازمها الإخفاء، والتحوير، الذي يجعل القارئ يستدعي نصا في داخله، كما استدعيته في نصي، كل بإحساسه.
■ لماذا كل الإحالات إلى شخصيات غربيَّة.. لماذا ليس هناك أبطال أو أشخاص من واقعنا؟ كل النصوص في واقعنا، الشخصيات الغربية «إشارات غربة»، النصوص العربية، والحياة «هنا والآن» في كل سطر، بالقطع لست في مجال الحديث عن كونية الثقافة، هذا بديهي، لكن استخدام هذه الأسماء تحديدا، جعلك تسألني هذا السؤال، لأنها «أحجار»، أضعها في طريقك، حتى تتوقف أمامها، شيء من تقنيات «بريختية»، ربما. لكنني، وفي هذا البيت، ذي البابين، كان لا بد أن ألفت انتباه القارئ لهذا الازدواج، وبالمناسبة أنا أكتب لقارئ، يهمني للغاية هذا القارئ الجالس أمامي صامتا، وأنا أكتب، مقولة «لا يهمني القارئ، وأكتب لنفسي»، تصيبني بالغثيان، الكاتب والقارئ توأمان، وسيجد القارئ في نصوص الكتاب نصوص شعراء أحبهم، أو كرههم، وأفلاما رآها، وأغاني رددها، سيجدها مختبئة، كلوح قياس الأيام، لكروزو، وكقهوة بروفروك.
لم يرد عنوان الديوان «بيتي له بابان» سوى في عنوان شارح لقصيدة «بطاقة هوية».. لماذا؟
أظن أن العنوان موجود في كل نصوص الكتاب، يتخفى أحيانا، أو أخفيه في الحقيقة، هذا ما أراه الآن، وأنا أفكر فيما كتبته، من بعيد، نسبيا، وبعين أكثر حيادا، يتخفى في الوحدة، في الازدواج، وفي الموت أيضا، وفي هذه المسافة التي عليَّ أن أقطعها، بين حياتين، أو بين حياة ورحيل، وعين تنظر من وراء الرحيل ذاته، في منطقة ما بين الحياة والموت، حيث يومئ شبح لم يحظَ بسكينة الانقضاء، ربما يكون تأثري بجبران خليل جبران، وكتابتي عنه تحت اسم «الراوي الشبح»، وراء هذا، يبدو البيت ذو البابين رحبا، لكنه يصلح مقبرة أيضا، أليست المقابر ذات بابين؟! هذا ما يراودني الآن وأنا أتحدث إليك.
تقسيم الديوان ابتداء من عنوانه الرئيسي وعناوينه الداخلية هل هو تأكيد على وجود عالم واحد يخص ذاتاً معينة تختبئ خلف الأبواب؟
نعم، كنت أكتب على مدى سنوات بشكل يومي، على صفحتي الشخصية على الـ«فيسبوك»، في البداية كانت المساحة المخصصة على الصفحة، قبل تطوير الـ«فيسبوك»، لا تسمح إلا بعدد محدود من الكلمات، كانت تبدو وكأنها أبواب مغلقة في وجهي، كان هذا يضايقني جدا في البداية، فكنت أرسل النصوص الأطول إلى Notes، وأنا أكتبها بالإنجليزية خصيصا، كان ضيق المساحة وهذه الكلمة الإنجليزية يشعرانني بالغربة، في ليلة قررت أن أتحدى هذه المساحة الصغيرة، والكلمة الغريبة على الشعر، كنت أكتب ثم أقضي ليلة بكاملها حتى الصباح وأنا أحاول تكثيف ما أكتبه، ونقل جزء من مكانه إلى مكان آخر، وهكذا، ثم أنشره متوائما مع المساحة المقررة لي على الصفحة، كانت هذه التجربة مهمة جدا بالنسبة لي، بدت النصوص أفضل، وصارت لي قدرة أكبر على الحذف والتعديل، وتجمعت لديَّ مقاطع كثيرة، ربما بلغت 650 مقطعاً، حين فكرت في نشر كتاب وضعتها أمامي، بدا الأمر «كارثيا»، كأنني أغوص في نثار من الأوراق، فعدلت عن النشر أكثر من مرة، كنت أريد أن أنشر كتابا صغيرا، أنا أحب الكتب الصغيرة على أية حال، الكتب الصغيرة عالم بحجم بيت، وبيوت الأدب، حسب باشلار، تخلو من الصراع، ذات ليلة وأنا نائمة تقريبا، استدعيت مقطع البيت ذي البابين، وفجأة، وكأنه «مغناطيس»، جذب كل النصوص التي تشبهه، في الكتاب، ربما مالا يتجاوز 120 مقطعاً، كانت تصلح للسكنى في بيت بعيد وهادئ.
بعض النصوص تبدو أقرب إلى قصص قصيرة، منها على سبيل المثال «خاتمة».. ما الذي يضيفه السرد إلى الشعر في تقديرك؟ بصفة عامة ومنذ وقت طويل ظلت لديَّ قناعة راسخة بأن النص الذي أكتبه لا ينتمي للقصيدة بشكلها التقليدي، ليست القصيدة أبا، أو أما له، أتعجب أحيانا من المخلصين لهذه الأبوة، ولا أحب مصطلح «قصيدة النثر» نفسه، لكل فن تقنيات متعددة، وأنا أمامي مائدة حافلة بالتقنيات، من شعر، وقصة قصيرة، ورواية، وفن تشكيلي، وسينما، وموسيقى..إلخ. أنا أستخدم تقنيات فنون مختلفة وأوظفها حسب النص، ولا أرغم نفسي على تناول طعام واحد من هذه المائدة الحافلة، حتى ولو كان الثمن هو طردي من «فردوس» النوع الأدبي، الذي يحبه النقاد والمنظرون!
الوحدة هاجس مرعب في الديوان.. بعض الروائيين يقولون إن الرواية ابنة المدينة، التي تهرس الأشخاص وتتركهم وحيدين.. هل هذا ينطبق أيضاً على قصيدة النثر؟ الوحدة، في تصوري، شرط الكتابة بالنسبة لي، والصمت أيضا، ليست هاجسا، أنا أعيشها، هي بيتي الفعلي، سأقول لك سرا: في مجتمعاتنا العربية لا يمكن لامرأة أن تعيش حرة إلا لو كانت وحيدة.
■ «بهدوء.. أخذت تلف شريطاً حريرياً على قلبي، ثم تعقده».. لا نعدم المجاز في الديوان ولكنه مجاز يخصك. كيف يتخلص الشاعر من تأثير المجاز الكلاسيكي الخانق؟ يحتاج الأمر إلى وقت، وإلى «وعي» أيضا، يحتاج الكاتب لرؤية عن الكتابة، أو إطار ما يتحرك من خلاله، حين تكتب يكون كل العالم في غرفتك، بكل تفاصيله، من نصوص وبشر، وأصوات تأتيك من خارج الغرفة، في البداية، في «صمت قطنة مبتلة»، ستجد نصوصا مثقلة بالآخرين، خاصة شعر السبعينيات، حين شرعت في كتابة نصوص «أسئلة معلقة كالذبائح»، كنت أقع في مجازات كلاسيكية، بل «إكليشيهات»، كنت أضعها بين قوسين، ثم أعمل عليها طويلا، حتى تقترب، إلى أقصى ما يمكنني، مما أشعر به، في «بيتي له بابان»، أمضيت أسبوعا بكامله، أفكر في سطر واحد من أحد المقاطع الصغيرة، كان سطرا «سخيفا» و«ثقيلا»، حتى «فككت الشريط الحريري»، هناك تعبير أحبه جدا هو أن يتعلم الشاعر أن يغسل اللغة من أيدي الآخرين، أنا ما زلت أحاول هذا كل مرة، في جهد شاق، لكنه ممتع.
■ أصدرت خمسة دواوين قبل ذلك «أنا شاهد قبرك، أسئلة معلقة كالذبائح، صمت قطنة مبتلة، حظر التجول، وعشان نقدر نعيش».. لماذا أنتِ مقلة في إنتاجك بشكل عام؟
ولماذا أكون «غيرمقلة»؟! لا أرى أية ضرورة في أن أكون حاضرة طوال الوقت، أنا أكتب دائما، لكن إصدار كتاب يعني عقد بينك وبين القارئ، لقد صار شريكا لك، وعليك أن تمنحه ما يجعله باقيا على هذه الشراكة، بمحبة، كنت قد كتبت ذات مرة أنني ابنة المدينة، لكن الشعر علمني أن أكون فلاحة، أزرع وأحرس الزرع، وأقطفه حين ينضج، وأنني الوحيدة التي أعرف متى ينضج، أحيانا لا أفهم كيف يلقي الكتّاب ما يكتبونه إلى المطابع، بتعجل! بعد أن أقوم بعملية الفرز، التي حدثتك عنها، أمسك بالقلم الأسود، والأوراق البيضاء، وأجلس مرة أخرى لأنقل ما كتبته على الحاسوب إلى الورق، تبدو العملية مضحكة، في اتجاهها المعكوس هذا، لكن رائحة القلم والورق تجعلني أحذف مرات أخرى، وأعدل، و«أشطب» (الشطب عنف جميل تجاه الكتابة). زمان، قبل أن أكتب شعرا، كنت أنسخ دواوين الشعراء الذين أحبهم، في كراسات، وعلى ضوء شمعة، وكان أصدقائي يسخرون مني، حين أقول لهم: أنا أستدعي أرواحهم! الإنتاج الكثير، دون نقلة فعلية في الرؤية، كشخص يزورك كل يوم، مهما أحببته، يتحول، دون أن يدري، إلى ضيف ثقيل.
■ هل يُنظر إلى تجربتك مع شعر العامية إليها بنفس الاهتمام الذي تلقاه تجربتك في الفصحى؟ وهل تنوين معاودة إصدار دواوين بالعامية؟ لا يُنظر لها باهتمام، بالطبع، ولماذا يُنظر لها باهتمام؟! كانت خطوة تجاه ما أكتبه الآن، لديَّ ديوانان ومسرحية بالعامية، نعم، لكن الديوانين زجليان، ولا يضيفان شيئا لشعر العامية، لديّ مخطوط لديوان أفضل منهما، أحتفظ به في كراسة صغيرة، للذكرى، ولن أنشره، أفادتني التجربة جدا في اللغة التي أكتب بها الآن، ليست فصحى، بالمعنى المتعارف عليه، ولا عامية، كنت أبحث عن لغة، وتجربة العامية ساهمت في ذلك، بل أسست له، وهذا يكفي.
■ «الليلة الثانية بعد الألف» كانت مسرحية شعرية بالعامية لك عُرضت في 1990. بعد أكثر من ربع قرن كيف تقيِّمين تجربتك مع المسرح؟
كانت تجربة «عظيمة»، وأنا أتذكرها بسعادة، وألم معا، وكنت متأثرة جدا بـ«نجيب سرور»، ساعتها كنت أقول لنفسي حين أبلغ الأربعين سأتفرغ للمسرح بقية حياتي، وها أنا على مشارف الستين ولم أكتب مسرحا مرة أخرى، لعل أسباب هروبي من المسرح لا تزال قائمة، أنا غير صالحة للعمل الجماعي، وضجيجه، وتدخل الآخرين فيما أفعله، أنا أحب أن أعمل وحدي في صمت، حين أكتب أغلق الأبواب والشبابيك، كأنني أتعرى، لم أكتب ولو لمرة واحدة في مقهى، هذا لا يصلح لكاتب مسرح، لكن الفكرة تخايلني، من وقت إلى آخر، كأنها ذكرى حبيب قديم، لا أعرف، ربما أكتب مسرحا لو طال بي العمر سنوات أخرى، لكنني سأكتبه فقط، ولا شأن لي بخطوات عرضه. قد يحدث، فأنا أحب المسرح.
■ شاعرة وناقدة ومترجمة.. هل أثرت إحداها بالسلب على الأخرى؟ بالعكس، الكتابة لا تتجزأ، والشاعر لا يستطيع أن يكتب شعرا طوال الوقت، لكنه يجب أن يكون على صلة باللغة طوال الوقت، ربما لأنني أيضا، لست ناقدة «محترفة»، ولا مترجمة «محترفة»، أنا أكتب عما أحبه، وأترجم ما أحبه، في الأغلب، أعتبره تمرينات يومية للغة، التي من بينها أيضا أن أجرب وصفات جديدة للطبخ، أن أتعرف على بشر جدد، أن أتحاور مع أصدقائي، أن ألعب مع قططي، الإبداع ليس شعرا فقط، إحساسي بالراحة وأنا أصلح شيئا في بيتي دون الاستعانة بعامل متخصص، وابتكار حلول غير تقليدية، وركيكة أحيانا، هو جزء من كتابتي للشعر، فما بالك بالنقد والترجمة؟!
■ ما جيلك.. وما المجموعة التي تنتمين إليها جمالياً؟ لا أحب تعريف الجيل، لكنني أنتمي لنص، نص يتجاوز «النوع» الأدبي، إذا جاز لي التعبير، وأطره، وأفقه، لكن إن كانت هناك ضرورة لأن يضع الإنسان نفسه في مكان ما، سأنتمي للثمانينيات والتسعينيات، وانتمائي للتسعينيات لأنها الفترة التي بدأت فيها الكتابة بالفعل، ولأنني أشعر بشباب ما، حين أضع نفسي بين شعرائها، على المستوى الشخصي، طبعا، ولو أن هذا التصنيف «يزعجني»، بشكل ما، ويذكرني بمقولة أحبها جدا للراحل العظيم شكري عياد: «دع التصنيف للمتحفيين».
■ هل ترين أنك مظلومة نقدياً؟ أحيانا أفكر في هذا، لكنه شعور لا يصل أبدا لحالة «المظلومية»، المظلومية شعور شائه، يجعل الإنسان «ممرورا»، قابلت شعراء كثيرين، شعروا بالمظلومية وماتوا «ممرورين»، قضت عليهم مرارتهم، أسوأ مايمكن أن يحدث لي، أسوأ من الموت نفسه، أن أحيا ما تبقى من حياتي كائنا «ممرورا»، أنا أتعلم دائما من تجارب الآخرين، وأتجنب هذا النوع من المشاعر ما أمكنني، وليس هذا ترفعا بالقطع، كل كاتب يسعد بمايكتب عنه، وليس «كل» ما يكتب عنه، أو هكذا يحذرنا الشاعر الكبير فؤاد قاعود: «لو شهرتك غيّتك، اعمل لها طبال»، والشاعر يسعد أيضا بأشياء أخرى في الحياة، حاولت دائما أن أخلق لنفسي حياة أحبها، كي لا أقع في هذه «المصائد»، لو ظل الشاعر يفكر في عدد المقالات النقدية التي كتبت عنه ويجمعها في ملفات، (حتى الرديء منها!) سيكون كمن يقدم cv لوظيفة، يعمل بها بالفعل! ما أنا متأكدة منه هو أن لي «قراء»، يحبون ما أكتب، وحين يقابلونني يحدثونني عنه، ويبتسمون في وجهي بمودة، وأعود إلى بيتي وأنا أحمل شعورا دافئا يكفيني.
■ على المستوى العالمي من الكتَّاب المفضلون بالنسبة إليك؟ كثيرون جدا، ويتغيرون من وقت إلى آخر، حسب تغير ذائقتي نفسها، أنا أتغير كثيرا جدا، أتغير كل سبع سنوات، لا تسألني كيف، أنا نفسي لا أعرف.
■ لماذا تبدين بعيدة عن الوسط الثقافي؟ لأحمي نفسي، وأحمي روحي، وأحمي كتابتي، وأحمي محبتي للناس على طريقة صلاح عبدالصبور «أجافيكم لأعرفكم» . ونقطة.
■ أخيراً.. ما الجديد الذي تعملين عليه حالياً؟ أرتاح.. أولا..وراحتي أن أقرأ وأشحن طاقتي بنصوص الآخرين، وأكتب عنها، سيستغرق هذا وقتا، فاتتني أشياء كثيرة في الأعوام الماضية، كتب وأفلام، وسأتفرغ تماما لها، لديَّ الآن الوقت، لم أعد مهمومة بإصدار ديوان جديد، على الأقل لفترة قادمة، من حسن الحظ أن الشعر «سلعة معمرة»، ومن حسن الحظ، أيضا، أن يجد الإنسان نفسه وقد فرغ، ولو إلى حين، من تورطه في الانشغال بذاته