جاءت من قرية (طماي الزهايرة)، وجاء من بعثته ف(فرنسا).تركت وراءها عيدان الذرة وسنابل القمح الصفراء تسابق القطار للقاهرة، بعد أن علت شهرتها أقاليم الوجه البحري (كانت تقرأ القرآن ولا تعرف كيف تكتبه!!)، وجاء من (باريس) وهو يجيد ثلاث لغات: الفرنسية والتركية والعربية.
ففي سنة 1924 عاد الشاعر أحمد رامي من بعثته في فرنسا، وأراد مصطفى أمين أن يحتفل به فدعاه إلى قضاء سهرة في حفلة تغني فيها المطربة الجديدة "أم كلثوم"،ولم يتحمس رامي، بل لم يرن الاسم في أذنه وبخاصة أنه يضع البايب في فمه ويلبس الرانجتون الرسمي.. فماذا يشجعه على أن يسمع قصيدة "أي قصيدة" من صوت جديد.
وعندما رأى "أم كلثوم" لأول مرة لم يعجبه شكلها، فوجئ بها تضع العقال فوق رأسها وترتدي الجبة وتضع على بطنها حزامًا!! وقال للملحن أبو العلا محمد همسًا في أذنه: أعوذ بالله.. هذه فقيهة.. وليست مطربة!!. وبدأت أم كلثوم تغني فإذا برامي يستهويه غناؤها ويسري في وجدانه، وإذا به يسعى إلى مقابلتها بعد أن فرغت من وصلتها الأولى.. وقالوا لها: الشاعر أحمد رامي واصل من فرنسا، وعاوز يقابلك. وكانت أم كلثوم صاحبة قفشة وخفة دم فقالت: وإيه اللي رماه علينا سي رامي!! وذهب إليها واستجابت أم كلثوم للمقابلة وقال لها: هذه أول مرة أطرب لمغن بعد سلامة حجازي!! وقالت له: إذا كنت بتعتبر منيرة المهدية وفتحية أحمد من الرجال فأنا من المطربات!!
وأصبح بعد ذلك اللقاء كل يروي عن الآخر.. رامي يحكي نوادر أم كلثوم وقفشاتها وخفة دمها، وهي تغني شعره!! وانتهى اللقاء الأول بأن ترك أحمد رامي إحدى قصائده مع الملحن أبو العلا محمد لتغنيها أم كلثوم وكانت كلماتها تقول:
الصب تفضحه عيونه
إنا تكتمنا الهوى
وتنم عن وجد شئونه
والداء أقتله دفينه
وغنتها أم كلثوم، واعتبر رامي هذا كثيرًا، أو أنه تودد وتحبب من جانب أم كلثوم فألف لها أغنيتها الثانية (خايف يكون حبك لي شفقة علي) وتعتبر أول قصيدة يكتبها رامي لأم كلثوم، حيث إن قصيدته الأولى كانت مجرد وجهة نظر لرامي في قصيدة التراث "الصب تفضحه عيونه" فأراد أن يسمعها بطريقة أخرى بعد التعديل.. وسمعت الأوامر أم كلثوم وغنت التعديل.. مما يدل على أن التودد والتحبب كان من جانبها، أو كانت المسألة مشاركة متساوية على الأقل، ولكن، هل أحب رامي "أم كلثوم" في ذلك اليوم كما قال وردد في أحاديث كثيرة؟! هل أحبها كما يحب الرجل المرأة؟!
د. نعمات أحمد فؤاد تقول في كتابها "أم كلثوم وعصر من الفن":
"الأقرب إلى العقل والمنطق أن أقول لا؛ فهو في ذلك الوقت شاعر ومتعلم في مصر والخارج مملوء بالآمال والمطامح، وهي فتاة ريفية بسيطة لم تخلع العقال والقفطان بعد، حتى الفن لم تثبت فيه قدمها إنها في أول الطريق. المسألة فيما أحسب، أنه شاعر رومانتيكي. وهو بطبيعته مرهف الحس والعصر وقتها مذهبه السائد في الأدب "الرومانسية" والمذهب السائد في السلوك الفروسية، فرامي جاء من فرنسا ورواية "غادة الكاميليا" في رأسه، فرامي كان يحب الحب في أم كلثوم. ولكنه فيما بعد ما لبث أن أحبها حبًا "ثانيًا". أصيلاً.. كبيرًا.. وفي سنة 1926 أعلنت شركة جرامافون عن أول أسطوانة لأم كلثوم وأسمتها "مطربة الشرق" وكان الإعلان يقول: هذه المنظومات التي نظمها الأستاذ أحمد رامي ولحنها الأستاذ القصبجي نقلتها بصوتها الرائع على أسطوانات شركة الجرامافون ليمتد، فخر الموسيقى ومطربة الشرق، ومدهشة الغرب الآنسة أم كلثوم.
وفي سنة 1927 كانت أم كلثوم ورامي قد قدما في وفاة زعيم مصر سعد زغلول قصيدة: "إن يغب عن مصر سعد" ورأى بعدها كل من طه حسين والمازني وشوقي والعقاد أهمية ثقل هذه الموهبة فعلموها أو بدأوا في ذلك وكان رسولهم معها الشاعر "أحمد رامي".
وفي سنة 1928 غنت أم كلثوم في أسيوط على مسرح يطل على حديقة مهجورة تسكنها الثعابين المعروفة وقتها في الصعيد، وحينما جلجلت أم كلثوم أطربت، لا البشر وحدهم، ولكن الأفاعي أيضًا وتسللت وتسلل فحيحها بدوره إلى أم كلثوم التي نظرت حولها فارتاعت وفرت هاربة وأغمي على فرقتها: محمد العقاد وكريم حلمي، وانكفأ القصبجي، ولكن رامي هب فجأة وانتشل أم كلثوم وفر بها وقالت له: ده أنت شديد وأنا مش عارفة!!
ونشرت مجلة "روز اليوسف" في عددها رقم 119 في 2/3/1928 تحت عنوان "مغنية الأفاعي" تتنبأ بالحب بينها وبين شاعرها أحمد رامي "الذي حملها وفر بها كالبطل وسط الثعابين!!".
ومنذ سنة 1928 أوقف رامي "يوم الاثنين" على أم كلثوم وهو يوم أجازة دار الكتب التي يعمل فيها رامي موظفًا، فكان يحمل لها دواوين الشعر ويبصرها بمواطن الجمال الفني، وكان لهذا اليوم بينهما لقاءات وذكريات، وظل يوم الاثنين خالصًا لأم كلثوم حتى بعد زواجه، ولم تستطع زوجته استخلاصه منها فاعترفت به وهي تقول: النهاردة الاثنين يوم أم كلثوم بقى!! ويقول لها المقربون: آه ضرتك!! ها ها..
وفي سنة 1929 نشرت صحيفة سورية أخبارًا غريبة عن أم كلثوم نقلتها عن خادمتها أو دادتها وهي أنها تستحم باللبن الحليب!! في ذلك الوقت كان رامي قد كتب لها: "إن حالي في هواها عجب" ولحنها القصبجي بعض الطقاطيق هي: "يا ستي ليه المكايدة" ولحنها أحمد صبري، و"صحيح خصامك ولا هزار" ولحنها القصبجي، و"ياريت كنت النسيم اللي يداعب شعورك" ولحنها القصبجي، وعلقت مجلة آخر ساعة على الأشعار والأخبار مرة واحدة وقالت: إن رامي يستعد لكتابة طقطوقة جديدة بعنوان "يا ريتني كنت الحليب اللي بتستحمي فيه"!!
وثبت بعد ذلك أن الذي أعطى هذه المعلومات لجريدة "الإخاء" و"الصحاف التائه" في سوريا هو أحد جيران أم كلثوم، فأشارت عليه مرة وهو يسير في الشارع وقالت: أهه ده جار "ثومة" اللي بيقولوا عليه!! فأدغمت الكلمة في بعضها حتى أصبح وكأنه جرثومة!!
وظلت الصحافة وراء رامي وأم كلثوم حتى وقعت بينهما جفوة كبرى في 1936 حينما نشرت روزاليوسف في عددها رقم 226 كاريكاتيرا لرامي يقدم لثومة قصيدة ملفوفة قائلاً: إلى ثومة.. أقدم هذه القصيدة. فيرد عليها عبد الوهاب حائلاً بينه وبينها: حاثب يا سي رامي أنت بتعطيها قثيدتي أنا!!
والموضوع أن رامي كتب قصيدة ليس لها خاصية معينة تركب على أي صوت جميل، وقد أهداها لعبد الوهاب سنة 1932 ثم عاد وأهداها لأم كلثوم سنة 1933 وطبعًا الكاريكاتير بالغ في نطق عبد الوهاب لحرف "الثاء"!!
وتقول د. نعمات احمد فؤاد: إن الحملة أصابت الهدف فقد استدعت أم كلثوم الشاعر وقالت له:
- أنا متأسفة اللي عرفتك! مش عايزة أعرفك بعد كده!!
وأصاب السهم قلب الشاعر المحب فأدماه فقال شعرًا.. يشبه شعر كامل الشناوي في حالة مشابهة!!
من أنت حتى تستبيحي عزتي
فأهين فيك كرامتي ودموعي
لقد ثار ثورة عارمة (من أنت؟!) أجهز عليها بكلمتين!!
ثم قرر رامي أن يوضح لها دور الشعر وأثره وعزته ومن هي بغير هذا الشعر. أو بغيره؟! فقال:
إني كسوتك من خيالي حلةً
ونشرت من روحي عليك غلالة
وشيت صفحتها بزهور ربيعي
كالليل أذن فجره بطلوع
وأمضى رامي في عزلته ثمانية شهور يتمزق في صمت، ويسعى إليه الموفقون فيأبى، وجاءت رحلة أم كلثوم للعراق وأرسلت له من يطلبه للسفر معها، وظلت أم كلثوم لم تفقد الأمل حتى حان موعد قيام الطائرة ولم يحضر فآمنت أن أمرًا أكبر مما تصور. وطالت الجفوة حتى جاء يوم مرضت فيه وقرر طبيبها أن تُستأصل الزائدة الدودية لها وكانت هذه العملية وقتها خطيرة. وذهب رامي لها في المستشفى وأطعمها بيده وبكى وبكت وتدفق رامي شعرًا:
غلبت أصالح في روحي
من بعد سهدي ونوحي
عشان ما ترضى عليك
ولوعتي بين إيديك
ويمكن تتبع قصة حب رامي لأم كلثوم من تتبع أغانيها؛ فقد حدث أن سافرت أم كلثوم إلى رأس البر لقضاء الصيف كعادتها، وعندما عادت كتب لها أغنية (شرف حبيب القلب بعد طول الغياب) وحينما دعته أم كلثوم بعد ذلك لقضاء بعض أيام الصيف معها في رأس البر كتب "حسن طبع اللي فتني علم القلب الغرام" وعندما سافرت أم كلثوم إلى الخارج لأول مرة كتب أغنية "البعد علمني السهر"، وطقطوقة "أنت فاكرني ولا نسياني" و"ليه تلاوعيني وأنت نور عيني" هي رسائل قلب رامي إلى أم كلثوم وهي في أوربا.
وفي سنة 1952 سنحت لحظة ودّ وبوح، خلال فنجان قهوة محوجة جمع بينهما فأبدع أغنيته:
جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح
حرام عليك خليه غافل عن اللي راح
وكانت السيدة عطا الله زوجة رامي تسمع الإذاعة وإذا بها تسمع أم كلثوم تغني جددت حبك ليه!! ولم يكن رامي أخبر زوجته بهذه القصيدة، فتحركت الغيرة في قلبها وتصورت أن رامي عاد إلى حب أم كلثوم بعد انقطاع وحملت ملابسها وذهبت لبيت أبيها!!
وحول زواج رامي هناك أكثر من قصة: فمصطفى أمين في كتابه "شخصيات لا تنسى" يقرر أن رامي ذهب لأم كلثوم وقال لها إنه قرر أن يتزوج وأنه يريد أن يكون زوجًا وأبًا وأن عليها أن تختار؟! ولكنها قالت له: إنها تريد أن تحضر الفرح وتغني فيه، ولكنه اعتذر وقال لها أن أهل العروس يعرفون أني أحبك، وإذا حضرت الفرح سيتحول إلى مأتم!!
أما القصة الثانية فتقولها د. نعمات أحمد فؤاد، وهي أن رامي تزوج وأم كلثوم في رحلة في أوربا وأنها حين عادت أنهوا إليها النبأ همسًا – وكان آخر خبر تتوقعه – لا في هذا الوقت بالذات ولكن ما امتدت الحياة – وحينما التقت برامي قالت له: أحقًا تزوجت يا رامي؟! فقال لها وكأنه يعتذر أو يتهرب من السؤال المعاتب: "أصلها قريبة لي.. حاجة على قدنا". والإشارة مفهومة!!
ويبدو أن زوجته منذ اليوم الأول شعرت بأنها زوجة وليست حبيبة؛ فهي في العشرين ورامي في الأربعين وقال لها أهلها منذ اليوم الأول: "حتعملي إيه في أم كلثوم؟!" وقالت: وماذا تفعل ملايين النساء مع أزواجهن عشاق أم كلثوم؟. ولكنها كانت تعلم أن كل الرجال "كوم" ورامي "كوم ثاني"!!
وفي ليلة الزفاف حضرت أم كلثوم، وقالت مهما تقولوا عليّ، هذه المناسبة لا تفوتني. وغنت من ألحان القصبجي:
يا نجم مالك حيران بين الغمام والليل بادي
فضلت وياك سهران والروح على البعد تناجي
وفي ليلة زفاف "أم كلثوم" قرر رامي أن يردها لها، فهو يعرف أن العريس هو الدكتور الحفناوي طبيب الجلد، وأنه ولد في مدينة أسيوط، وفي حفلتها قال لها قصيدة (أغار من نسمة الجنوب) أي أنه يغار من الدكتور اللي جه من أسيوط وقالت له: سأغنيها يا رامي.. وغنتها سنة 1954 ولحنها لها السنباطي.
وحينما مات رامي وجدوا في أصبعه خاتمًا واحدًا ووحيدًا مكتوب عليه o. k أي أم كلثوم – والخاتم عمره في يده 40 عامًا!! وقد قال رامي في حديث له مع د. نعمات أحمد فؤاد نشرته في كتابها السابق الإشارة إليه:
- هل أحببت غير أم كلثوم؟!
حبيت.. كثير ولكن في كل مرة كنت لما أحب أحب جزءًا منها.. قد يكون سمار السمراء.. قد يكون عينيها.. خفة روحها.. جزء منها.. إنها الأصل.. إنها الكل.. الكل في الكل.. إنها موسوعة.. أم كلثوم!!
- رق الحبيب وواعدني.
- هجرتك يمكن أنسى هواك.
- غلبت أصالح في روحي.
- يا مسهرني.
- لسه فاكر.
إن نزار قباني يقول أن أم كلثوم امرأة رامي، أم امرأة شاعر آخر هو رامي!! فهو يقول إن أم كلثوم قد غنت له أغنية واحدة من شعر وطني "أصبح عندي الآن بندقية" وأنه قدم لها في السبعينات قصيدة كان عنوانها (اغضب كما تشاء) تقول كلماتها:
اغضب كما تشاء..
واجرح أحاسيسي كما تشاء
حطم أواني الزهر والمرايا
هدد بحب امرأة سواي
فكل ما تقوله سواء
وكل ما تفعله سواء
فأنت كالأطفال، يا حبيبي
نحبهم.. مهما لنا أساءوا
اذهب.. إذا أتعبك البقاء
فالأرض فيها العطر.. والنساء
وعندما تحتاج إلى حناني
فعد إلى قلبي متى تشاء
ولكنها قالت: قصيدتك جميلة.. ولكنها – بكل أسف – تعارض مبادئي، ومواقفي، ونظرتي للحب. إن أم كلثوم لا تسمح لنفسها، ولا تسمح لها تقاليدها أن تقول لرجل تحبه اذهب شمالاً ويمينًا. وادخل في علاقة غرامية مع ألف امرأة.. ثم إذا تعبت (عد إليّ متى تشاء) لأنني حاضرة للصفح في أي لحظة. لا لست أنا هذه المرأة.. وليس هذا الحب عندي.
وقلت لها: أحترم مشاعرك ونظريتك؛ فأنت امرأة لا تعرف الضعف الإنساني أو البشري في حياتها تقاوم وتقاوم.. إنك امرأة من صنع شاعر آخر هو رامي الذي يحب امرأة ولا ينالها.. أنا شاعر يحب كل يوم ولا يوقف دقات قلبه!! وقالت له: أريد قصيدة من بتوع رامي.. يا نزار.
ولم تكن أم كلثوم كاذبة حينما قالت ما قالت لنزار.. فقد أصيبت بالغدة الدرقية وهدد المرض عينيها ولم يجد الأطباء بدًا من المصارحة، فأنذروها أن الخطر في طريقه إلى عقلها وعينيها، وأن علاجها يتطلب أن تتزوج وترضي بشريتها.. وقالوا لها: رامي. وقالت: أي رجل إلا رامي.. إنه رجل للحب وليس للعلاج!!
وخطبت لمحمود الشريف الملحن المعروف الذي لحن "القلب ولا العين – وحلو وكداب – وعيني بترف" وغيرها.. ولكن الزواج لم يكتمل!! لم يرض الشعب ولا السميعة ولا الناس عن ذلك!!
إنهم كانوا يريدون رامي.. ولكن.. هذا كان الحب المستحيل!!