بقلم: فتحي عامر
عن بيان الثقافة- 12 نوفمبر 2000
(رأيت رام الله) هذا هو عنوان الكتاب الفائز بجائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأمريكية سنويا لأفضل كتاب أدبي خلال عام, والمؤلف هو الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي, وفي حفل اقامته مؤخراً أصدرت الجامعة ترجمة إنجليزية للكتاب قدمتها الروائية أهداف سويف وكتب المقدمة في طبعتها الإنجليزية المفكر الفلسطيني الكبير إدوار سعيد.
وكان من المقرر أن يشارك إدوار سعيد في الحفل ضمن زيارة للقاهرة تستمر حتى 12 نوفمبر لكنه لم يتمكن من الحضور لأسباب صحية , وبعث برسالة قال فيها (يؤسفني كثيرا أنني لم أتمكن من أن أكون معكم هذا المساء للاحتفال بإطلاق الترجمة الإنجليزية الممتازة لكتاب مريد البرغوثي ( رأيت رام الله ) لقد حالت ظروفي الصحية دون قيامي برحلة خلال هذه المرحلة من العلاج. أنني معكم بقلبي وتفكيري في هذه المناسبة الرائعة وفي المدينة التي أحب القاهرة.
إن كتاب البرغوثي المشغول بأسلوب أدبي رفيع هو كتاب ضروري لكل من يهمه أن يحيط بمحنة الشعب الفلسطيني. إن الانتفاضة الفلسطينية الراهنة والنضال المتواصل وسجل التجربة الفلسطينية تجتمع معا لتذكرنا أن صوت الحق والحقيقة لا يمكن اسكاته
وفي كتاب ( رأيت رام الله ) يروي الشاعر مريد البرغوثي تجربته في زيارة مدينة رام الله وقريته ديرغسانه بعد ثلاثين سنه من الغياب وقد كتب مريد هذه التجربة بأسلوب أدبي فريد يدمج بين السيرة الذاتية للشاعر المغترب عن وطنه وسيرة الوطن الرازح تحت نيران الاحتلال, ونسيج من التفاصيل الصغيرة وحكايات المأساة وتجارب البشر وعبق الفلكلور وحقول الزيت والزيتون وكبرياء الشهداء, ينسج من ذلك لوحة كلية تعكس خصائص الذات الفلسطينية بكل مفردات ثقافتها وهويتها. ومريد البرغوثي شاعر أصدر 9 دواوين شعرية ترتكز كلها إلى مفردات القضية الفلسطينية وهو متزوج من الروائية والناقدة المصرية رضوى عاشور ويعيش في القاهرة التي اغترب عنها أيضا 17 عاما إلى عواصم العالم.
أما مقدمة الترجمة فقد كتبها إدوار سعيد قائلا (هذا النص المحكم المشحون بغنائية مكثفة, الذي يروي قصة العودة بعد سنوات النفي الطويلة إلى رام الله في الضفة الغربية في سبتمبر 1996 هو واحد من أرفع أشكال التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني التي تمتلكها الآن . إنه كتاب مريد البرغوثي الشاعر المرموق المتزوج كما يخبرنا في مواضع شتى من الكتاب من رضوى عاشور الروائية والأكاديمية المصرية الممتازة. إذ كانا طالبين يدرسان اللغة الإنجليزية وآدابها في جامعة القاهرة في الستينات. وخلال زواجهما اضطر للافتراق طوال 17 عاما. هو ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في بودابست وهي مع ابنها تميم في القاهرة حيث تعمل أستاذة في قسم اللغة الإنجليزية في جامعة عين شمس .
الأسباب السياسية لهذا الافتراق يشير إليها كتاب (رأيت رام الله ) كما يشير أيضا إلى ظروف نفي الشاعر من الضفة الغربية عام 1966 وظروف عودته إليها بعد ثلاثين سنة. وعند صدوره عام 1997 واستقباله بحفاوة عظيمة وواسعة شملت العالم العربي كله نال الكتاب جائزة نجيب محفوظ للإبداع الأدبي التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وأجمل ما تشتمل عليه الجائزة حقا هذه الترجمة الأنيقة المثيرة للإعجاب إلى اللغة الانجليزية التي قامت بها أهداف سويف, وهي ذاتها روائية وناقدة مصرية هامة تكتب رواياتها بالإنجليزية ( في عين الشمس, وخريطة الحب).
لهذا فهو حدث أدبي هام أن تجتمع هاتان الموهبتان داخل غلاف واحد وأنه ليسعدني أن يتاح لي أن أقول بعض الكلمات كمقدمة لهذا العمل.
أما وقد قمت بنفسي برحلة مشابهة إلى القدس (بعد غياب 45 سنه) فإنني أعرف تماما هذا المزيج من مشاعر السعادة طبعا , والأسف والحزن والدهشة والسخط والاحاسيس الأخرى التي تصاحب مثل هذه العودة. إن عظمة وقوة وطزاجة كتاب البرغوثي تكمن في أنه يسجل بشكل دقيق موجع هذا المزيج العاطفي كاملا.
وفي قدرته على أن يمنح وضوحا وصفاء لدوامة من الاحاسيس والأفكار التي تسيطر على المرء في مثل هذه الحالات ففلسطين, على كل حال, ليست مكانا عاديا, إنها متوغلة بعمق في كل التواريخ المعروفة وفي تراث الديانات التوحيدية شهدت غزاة وحضارات من كل صنف ولون, تأتي وتزول وتعرضت في القرن العشرين لصراع ممض بين سكانها الأصليين العرب الذين اقتلعوا وتشتت معظمهم عام 1948 وحركة سياسية وافدة لليهود الصهاينة (ذوي الأصول الأوروبية في الغالب) الذين أقاموا دولة يهودية في فلسطين . وفي عام 1967 احتلوا الضفة الغربية وقطاع غزة ومازالوا عمليا يسيطرون عليها إلى يومنا هذا.
إن كل فلسطيني يجد نفسه اليوم أمام موقف شديد الغرابة, فهو يدرك أن فلسطين كانت موجودة ذات يوم لكنه يراها وقد اتخذت اسما جديدا وشعبا جديدا وهوية جديدة تنكر فلسطين جملة وتفصيلا . وبالتالي فإن العودة إلى الوطن في ظل هذا الوضع هي أمر غير عادي إن لم نقل إنه مفعم بالأسى والوطأة. إن رواية مريد البرغوثي كانت ممكنة بسبب ما يطلق عليه بشكل مضلل عملية السلام (هذه التسمية الخاطئة بشكل مخيف) بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات ودولة إسرائيل. فهذه الترتيبات التي بدأت في سبتمبر 1993 وما تزال مستمرة بدون حل حتى كتابة هذه السطور والتي تمت بوساطة أمريكية, لم تؤد إلى سيادة فلسطينة حقيقية على غزة والضفة الغربية ولا إلى سلام ومصالحة بين اليهود والعرب, لكنها سمحت بعودة بعض الفلسطينيين من أهالي المناطق المحتلة عام 1967. وهذه هي الحقيقة السارة التي انبثق منها مشهد الوقوف على الحدود الذي يفتح به مريد البرغوثي كتابه (رأيت رام الله).
مدينتي ترتعش!
وفي كلمته أمام الحفل قال الشاعر مريد البرغوثي (مدينتي هذه اللحظات أيها الاصدقاء تلملم جراح سقوفها القرميد وجراح زيتونها المرتمي أفقيا بعد أن اقتلعته جرافات إسرائيل فحرمته من سموه إلى أعلى. مدينتي الآن يصفر في شوارعها نزيف ساخن منذ عقود. مدينتي الآن ترتعش تحت اصابع أم تفصل بتمهل وحرص الحقيبة المدرسية المثقوبة على ظهر طفلها المدروز بالرصاص. تحتفظ لنفسها بدفاتره وواجبه المدرسي وتعيد الطفل إلى حفرة الطين الأخيرة ليظل سريره الصغير فارغا ومرتبا إلى الأبد.
مدينتي أيها الأصدقاء تشهد أعجب مطاردة حيث الكاكس الأخرس الأبكم البارع في الصيد البشري يغلق قلبه بخوذة ضخمة ويصوب الموت على القمصان الصغيرة الملونة. وتتناسى إسرائيل قوة حديدها المهين وجبروتها النووي والبري والبحري والجوي فتنسى أن تطالب جنودها باخفاء ارتباكهم المضحك واحتياطياتهم الحربية المبالغ فيها فيبدون وهم محصنون داخل دباباتهم الضخمة أصغر من الصبية العزل الذين يواجهونهم بنبلة المطاط.
مدينتي أيها الأصدقاء لن تلومها ولن تحسدها ولن ترثي لها مدينة أخرى ولا قرية أخرى فالقتل ساوى بين القتلى والخسارة وحدت حال الخاسرين فلم يبق مكان اعرفه في بلادي لم تسقط عليه قذائف عمليه السلام. وسوف يدهش المؤرخون حقا أن يلاحظوا هذا النوع من السلام الذي أدى إلى كل هذا القتل).
وفي ختام كلمته قال مريد البرغوثي (لم أكن يوما ما من المعجبين باتفاقية أوسلو, لكن المؤيدين لها ظنوا أنها ستؤدي إلى نيلهم حق تقرير المصير. اليوم يتضح ثانية ما كان واضحا دائما: أن إسرائيل تريد أن تقرر لنا المصير الذي يرضيها والذي تفضله هي. وهي تعاقبنا بالدبابات والطائرات لأننا نرفض أن يكون مصيرنا شأنا من شؤونها تقرره لنا نيابة عنا .
أن تقرير المصير هو أمر كالعطش فالعطشان لا يرتوى إلا إذا شرب الماء بنفسه , لا يجدي أن يشرب غيرك الماء فترتوي أنت. أية سريالية هنا لم يحلم بها أندريه بريتون تتمثل في دهشة إسرائيل من أننا لا نرتوى عندما تشرب هي, كيف نقنعها بعطشنا للحرية إذن؟ ثم وهذه صعوبة عمرها نصف قرن, كيف نقنع الحكومات الأمريكية المتعاقبة أن كلمة (الاحتلال) كلمة خرجت من القاموس الإنساني بغير رجعة وانتهت وهي لم تعد موجودة إلا في فلسطين التي تحتلها إسرائيل. وأن تأييدها لاحتلال بلادنا أمر لا يليق بشعبها ولا هو مقبول لدى شعبنا. وكيف نذكر الجنرالات بالبصيرة الفذة لارنست همنجواي عندما قال : الإنسان يمكن أن يدمر لكنه لا يمكن أن يهزم.