عندما صنف فرويد الأدباء والفنانين ضمن مجموعة من المرضى العصابيين، فهل كان يتصوركم الأبحاث والدراسات التي انهالت بالتحليل النفسي لأعمال الأدباء فيما يشبه الهوس؟
هذا السيل من الأبحاث لم يكتف بتحليل سير الكتاب التي وردت في مذكراتهم واعترافاتهم أو حتى تلك التراجم التي كتبت عن حياتهم، ولكنه امتد لتحليل الواقع النفسي لهؤلاء الأدباء، حيث يتصورون أن العمل الأدبي يمكن أن يخبرنا بحقيقة الواقع النفسي لهؤلاء الأدباء ومن أطرف هذه الكتب التي تتناول حياة الأدباء بالتحليل النفسي كتاب بعنوان ( أدباء منتحرون) عن رسالة دكتوراه للباحث مكرم شاكر اسكندر أصدرته سلاسل، سوفنير عن دار الراتب الجامعية ببيروت والكتاب يبدأ بعرض المشكلة البحثية والهدف منها على نحو ما يقع عادة في الرسائل الجامعية. ولكنه بعد ذلك يعرض في فصل طويل الموضوع التحليل النفسي للأدب، وهذا الفصل وان كان يفتقر إلى الإبداع البحثي ويكتفي ببعض التعليقات العابرة إلا انه يقدم عرضا وافيا لاتجاهات التحليل النفسي للأدب منذ فرويد، وحتى الآن، وهو بذلك يعد مقدمة هامة تمهد الموضوع البحث عن ظاهرة انتحار الأدباء، غير إن الدراسة التي ألحقها بهذا الفصل عن تحليل الشخصية اليهودية زادت من أهميته فهي درس تطبيقي شائق وممتع للدكتور فرج احمد فرج عن قصة طوبى للخائفين للكاتب الإسرائيلي، يائيل ديان، حيث تكشف الدراسة عن إبعاد الشخصية اليهودية في سياقها التاريخي وفي صورتها التقليدية قبل إنشاء إسرائيل وحتى الآن، ومن أهم نتائجها أنها تؤكد إن الحلم الصهيوني القديم يعمل في الذات اليهودية بطريقة صارمة حتى أنهم صاروا عبيدا لتحقيق هذا الحلم وحتى ليبدو الأمر كنوع من القدر الذي لا فكاك منه، ويبدو الخوف هو الباعث الحقيقي وراء القلق النفسي لليهودي المطارد بحلمه... والقوام الحقيقي الدراسة الدكتور مكرم شاكر حول الأدباء المنتحرين ويقدم من خلال نموذجين لاثنين من ابرز كتاب القرن العشرين هما الانجليزية فيرجينيا وولف والأميركي ارنست هیمنجواي.
كانت فرجينيا وولف صاحبة طريقة في الكتابة مازالت تثير جدلا كبيرا وهي تيار الوعي وقدم هیمنجوای، انجازا مدهشا لاستخدامه للغة ذات طابع تلغرافي سريع ومكثف، يليق بعمله مراسلا حربيا. غير أن حياته لم تكن تلفت انتباه أي محلل نفسي يؤمن بفكرة فرويد عن الأدباء كمرضى عصابيين، بل على العكس كان هيمنجواي محبا للحياة ومتفاعلا معها بصورة تثير الدهشة. كان شخصية لامعة طوال حياته. فقد كان أديبا مغوارا وهو في العشرينات من العمر، وقائد عربة إسعاف خلال الحرب العالمية الأولى. وقد نال التكريم لشجاعته في الجبهة، وصائد أسماك في أعماق البحار، وقد اشترك وكسب في عدة مسابقات في هذا المجال، وهو ملاكم لا يبارى وقيل انه كان بإمكانه أن يصبح بطل العالم في الوزن الثقيل، وفي وقت من الأوقات كما كان صيادا للحيوانات المفترسة واشترك في العديد من المباريات الكبرى لصيد الوحوش في أفريقيا. كما كان كاتبا صحفيا لامعا قام بتغطية العديد من الحروب والمؤتمرات الهامة لأشهر صحف أميركا وكندا.
الباحث يبحث في الطفولة غير السعيدة لهيمنجواي فلا يجد مبررا للانتحار، لكنه يلحظ أن روايته (وداعا للسلاح) تشير إلى نزعة اكتئابية مازوخية ورغبة لا شعورية إلى التلاشي أو الوصول للعدم والفناء، ويستدل على هذه النزعة السوداوية والرغبة في الموت من عدة صور وعبارات متضمنة في روايات هيمنجواي. ففي روايته. وداعا للسلاح يرى الرحم يلفظ موتا، فيبدو الأمر كأمنية لأن يولد ميتا . أما رواية لمن تدق الأجراس فهو يرى أن الموت هو الكمال الحقيقي للتعبير عن الحب، فالبطل، روبرت جوردان المتطوع الأميركي إلى جانب الجمهوريين الأسبان، والذي قيل إنه هيمنجواي نفسه، يقع في عشق ماريا الفتاة الاسبانية ويعبر لها عن هذا الحب برغبته في أن يموت بين أحضانها. وفي موضع آخر يصف هذا الحب فيقول: أما مع ماريا فشيء آخر. فأنت تحس وكأنك في ذروة عواطفك وكأنك على عتبة الموت. كما يلحظ الباحث أن كل روايات هيمنجواي تحمل نبوءة بموت الأبطال.
يبدأ الباحث كلامه عن فيرجينيا وولف، بملاحظات حول طفولتها التي فقدت فيها الأم. وتأخرها في تعلم الكلام وعندما تعلمته كانت تتكلم بسرعة وطوال الوقت حتى أصبحت الكلمات أسلحتها المفضلة في الدفاع عن نفسها أوالتعبير عن ذاتها وظهر هذا في ضخامة أعمالها وأسلوبها في التداعي الحر، وبتحليل أعمالها ولاسيما رواية الفنار نراها تمتلئ بصور وتخيلات الحر وبتحليل أعمالها ولا سميا رواية الفنار، إذ نراها تمتلئ بصور وتخيلات عجيبة وكتيبة وهي جميعا إشارات لها علاقة بالموت أو هي رغبات جنسية مقموعة، ويؤكد زوجها وابن أختها أن ما كتبته لم يكن مجرد تأليف ولكنه واقع فهي كانت تعاني من حالات اكتئاب وهلوسة سمعية وبصرية وأنها أصيبت بالانهيار العصبي مرتين حتى وضعت في مصحة عقلية. والمحيطون بها كانوا ينفرون منها بسبب نوبات الثرثرة الشرهة التي تصل إلى رطانة غير مفهومة.
وبعكس هيمنجواي كانت حياة فيرجينيا تمهيدا طويلا للانتحار، فحياتها الشخصية منذ الطفولة سلسلة من الإحباط والفشل سواء مع أسرتها أو عشاقها، لكن الفشل كان يدفعها للنجاح والتفوق في كتابتها.
والأساس العلمي لبحث الدكتور مكرم شاكر هو مبدأ الحتمية السيكولوجية والذي يتضمن أن: كل ما يصدر عن الإنسان إنما يعبر ويرمز إلى مكوناته النفسية وإلى أعماقه اللاشعورية، وهذا ليس قاصرا على الأدباء وحدهم طبعا، لكن الأدباء وحدهم الذين يتركون آثارا وأدلة مكتوبة عن واقعهم النفسي، كما أن انتحارهم و موتهم المفاجئ لا يحرمنا من التعرف على وذاتهم ولو بعد مئات السنين، فكأنهم كلما كتبوا عملا يمنحون أنفسهم حياة جديدة وكلما قرأناها نحن عشنا هذه الحياة. فنضيف على حياتنا حيوات أخرى، فيما هم ينتحرون .