إن ريتا هيوارث، وهي تعدل شفتيها أمام المرآة بأحمر الشفاه، لا تعيد فقط رسم ملامحها، بل تعلن تحديها الصامت: المرأة هنا هي من يتحكم في صورتها، في رغباتها، وفي الطريقة التي يراها بها الآخرون. فأحمر الشفاه، هذا الكائن الصغير الذي يتسلل من حقيبة يد لصوفيا لورين، أو يظهر على مرآة مغطاة بضباب النفس لنيكول كيدمان، لم يكن أبدًا مجرد زينة في السينما. هو أكثر من لونٍ على الشفاه، وأكثر من أداة تجميلية؛ إنه رمز، علامة، وصرخة صامتة تنطق بها الشخصيات، أحيانًا دون أن تحرك شفتيها. في السينما، يصبح أحمر الشفاه وسيطًا بين الداخل والخارج، بين ما نخفيه وما نعلنه، بين ما نحلم به وما نخشى قوله.
صحيح ان وضع اللون الأحمر على الشفاه بدأ مع السومريين منذ ٣٠٠٠ عام، ولكن موريس ليفي في العام ١٩١٥ هو الذي منحه في باريس شكله الحديث كـ"ليب ستيك". أما في السينما فهو الأداة السحرية لكل شيء، في لحظةٍ واحدة على الشاشة، قد يتحول أحمر الشفاه إلى أداة مقاومة. ففي فيلم جيلدا Gilda (1946)، الذي أخرجه تشارلز فيدور وتدور احداثه في كازينو في الأرجنتين تصبح الشفاه المطلية بالأحمر توقيعًا للمرأة القوية التي تتحدى النظام الذكوري، وتصبح فيما بعد رمزًا للاستقلال ومقاومة للسيطرة. لكن أحمر الشفاه ليس دائمًا رمز قوة. ففي أفلام المأساة والرعب، يتحول إلى علامة هشاشة، إلى قناع مهدد بالسقوط. فحين تقف نينا (ناتالي بورتمان) أمام المرآة، ترسم شفتيها وكأنها تحاول الإمساك بملامحها الهاربة في المشهد الشهير في فيلم البجعة السوداء Black Swan (2010) الذي أخرجه ديران نوروفسكي فهي لا تقاوم هنا ولا يعد أحمر الشفاه لوناً للإغراء في هذا المشهد، إنما هو لون الانفجار الوشيك الذي يحدث بعد لحظات من وقوف البطلة أمام المرآة.
وفي أفلام أخرى، يكون أحمر الشفاه شاهدًا على التحولات. في فيلم تيلما ولويز Thelma & Louise (1991) فيلم الحب الذي أخرجته ريدل سكوت، حين تتوقف البطلتان لوضع الأحمر على الشفاه قبل لحظة من مواجهة مصيرية، يتحول هذا الطقس الصغير إلى لحظة استرداد للذات. إنها لحظة تُعلن فيها المرأة، في وجه المأساة، أنها لا تزال تملك الحق في السيطرة على مظهرها، وفي التحدي حتى النهاية.
يحمل اللون الأحمر في السينما دائمًا معاني مركبة: الحب، الغضب، الجرح، والدم. أحمر الشفاه يتوسط هذه المعاني كلها، يمزجها في صورة واحدة. إنه يحمل الوعد بالخطر، بالفتنة، وبالخطيئة. وفي الدراما الرومانسية الموسيقية أقصد فيلم الطاحونة الحمراء Moulin Rouge! (2001) الذي أخرجه لورمان سكوت يكون أحمر الشفاه جزءًا من عالم الفانتازيا المفرطة، لكنه يذكرنا أيضًا مع كل بريقٍ يظهر على الشاشة، بالمأساة التي تتربص خلف الأضواء.
حتى في السينما التي تغوص في الرمزية الاجتماعية، يظل أحمر الشفاه علامةً على التفاوت والتناقض. في فيلم المخمل الازرق Blue Velvet (1986) لديفيد لينش، يصبح أحمر الشفاه جزءًا من ثنائية الحلم والكابوس. إنه عنصر يعكس الأنوثة المفترضة، لكنه يحمل في طياته تهديدًا صامتًا، كأنه يشير إلى الغموض والرغبة اللذين لا يمكن السيطرة عليهما.
أحمر الشفاه، إذن، ليس مجرد لون. إنه نص سينمائي مكتوب بعناية على شفاه الشخصيات، نص يتغير مع السياق، مع الضوء، ومع القصة. إنه جزء من المأساة، من الكوميديا، ومن كل ما بينهما. على الشاشة، قد يُطمس بسهولة، لكنه يظل دائمًا علامة، رمزًا خفيًا لما لا يُقال، أو لما لا يمكن قوله بالكلمات. في السينما، يبقى أحمر الشفاه أكثر من مجرد أداة، إنه لغة بصرية تحمل طبقات من المعاني التي تتغير مع كل قصة ومع كل شفة.