صدر كتاباً عن ثورة جرت وقائعها تحت شرفة منزله
القاهرة - محمود خيرالله
المصدر: www.aljareeda.com
يُخطئ من يظنّ أن الكاتب والروائي أحمد زغلول الشيطي تعرّف إلى الثورة فجأة في كتابه الجديد «مائة خطوة من الثورة» الصادر في القاهرة عن دار «ميريت» وفي بيروت عن «الآداب» قبل شهر، يُخطئ من يظن أن الشيطي فوجئ بالثورة، حيث يسكن بعض أرواح الشهداء تحت شرفة منزله قريباً من ميدان التحرير. فالشيطي ثائر قديم يكتب أدباً إشكالياً عصياً على التصنيف، وحين تحاوره تكتشف أن ثورته في الرواية المصرية، على جيل الستينيات الأدبي، حين أصدر روايته الأشهر «ورود سامة لصقر» عام 1990، كانت هي الأم الشرعية لثورة 25 يناير التي غيّرت وجه مصر.
متى بدأ اهتمامك بالسياسة، فقد وُلدت بين جيلين تراجع فيهما الاهتمام بالنفس السياسي، فيما تجاربك الإبداعية وأبطالك والقيم التي تدافع عنها تكشف وعياً سياسياً بالعالم؟
أؤمن بأن كل مبدع يصنع سياسته الخاصة بعيداً عن الانتماء الحزبي المحدد. في حالتي، وُلدت لأسرة من الحرفيين، وكان من المفروض أن أكون حرفياً مثلهم، لكنني واصلت تعليمي، لسبب لا أعلمه. أعتقد أن الانتماء إلى شريحة من الطبقات الشعبية ثم صدمة التحولات الضخمة بين الناصرية والساداتية - إن شئت – هذا كلّه أنشأ نوعاً من الصدمة كانت وراء إنتاج «ورود سامة لصقر»، وهو نص متعدد الأصوات ومتعدد في نظم السرد، وإذا نظرنا إليه بأسلوب النقد الماركسي سنجد حقلاً أسلوبياً ينتمي إلى الرواية التقليدية الرجعية، وحقلاً ينتمي إلى تيار الوعي المغترب وهكذا، وحقلاً ثالثاً ينتمي إلى السرد الاجتماعي. بالتالي، أميل إلى الاعتقاد بأن كتاباتي تنشئ سياستها الخاصة، من دون التزام حزبي محدد، وأظن أنها تحاول النفاذ واختراق الأجيال، بدليل أن جيلاً جديداً من القراء حين قرأ «ورود سامة لصقر» في طبعتها الثالثة ظنّ أنها مكتوبة اليوم عن زمن سابق، البعض منهم وضعني ضمن جيل الألفية الثالثة، وكان ذلك مضحكاً، لأنها المرة الأولى التي أرى نفسي فيها ممزقاً بين ثلاثة أجيال.
لماذا يتّهم البعض جيلك بالكسل، أنت مثلاً أصدرت خمسة كتب، على رغم أن روايتك الأولى صدرت قبل 20 عاماً؟
مرت 13 سنة لم أصدر خلالها سوى مجموعتي القصصية «ضوء شفاف ينتشر بخفة»، فبعد الانتهاء من «ورود سامة لصقر» التي لا تزيد كلماتها على خمسة آلاف كلمة شعرت أنني سقطت في أسر هذا البناء، فقد كتبتها في سن مبكرة جداً ولم تكن لديَّ دراية كافية بوسائل الإعلام والقراء والجمهور.
هذه الرواية كتبت دون إرادة مني، بشكل حاد ومكتمل في آن، وحين أعود إلى تأمّلها أندهش من إحكام البناء والرؤية التي وصلت إلى حد الاكتمال، بخروج أحد أبطالها إلى الخليج لإنجاز مشروعه الخاص بعد فشل مشروعه العام، ووفاة البطل «صقر»، أعتقد أن هذا البناء جاء مطابقاً لبناء آخر داخلي، وكان من القوة بحيث أنه مساو لهذا النص. أظن أنني وقعت في أسر هذا البناء من دون وعي به، كنت كلما كتبت لا أعرف ماذا أكتب، وبعد سنوات من صدور هذه الرواية صرت لا أكتب إلا نصوصاً قصيرة، تشبه المنمنمات، تقريباً كنت أبحث عن طريق آخر غير الحقبة التي مثّلتها «ورود سامة لصقر».
هل تعتبر نفسك كاتب قصة أكثر من كونك روائياً؟
مَن يتابع الحياة الثقافية يعتبرني روائياً، على اعتبار أن نصي الأول كان روائياً، وبعض النقاد اختلف حوله، هل هو رواية أم نص. عموماً، أكتب نصوصاً سردية، قد تتماهى أحياناً مع الرواية وأحياناً مع القصة، وهذا ما كشف عنه كتاب اليوميات «مائة خطوة من الثورة»، وطبعاً لست حريصاً على التصنيف، لكن الحياة الثقافية تميل غالباً إلى وضعك في قالب، لذلك أفضّل أن أعتبر نفسي روائياً.
أين أنت من الحراك الروائي الهائل خلال العقد الأخير، من الجوائز إلى الـ{باست سيلر»؟
أعتقد أنك تقصد أن الموجة الروائية الأخيرة تحتوي على نصوص لافتة وأخرى استغلّت بعض الشعارات الجمالية والفنية المرفوعة، لأن جيل الستينيات اعتمد على الغموض واحتقار القارئ والاكتفاء بدوائر النخبة، وأن البطل ثوري سابقاً ومحبط راهناً، وأن هذه السمات أبعدت غالباً الجمهور عن الأدب. بالتالي، أصبح بعض الموجات الجادة في التسعينيات يزعم أنه يتعامل بإهمال مع اللغة الأدبية لتكون قريبة من الجمهور، وأنه يخترق مساحات من الواقع لم تكن الرواية تحفل بها، وقد تحقّقت تحت هذه الشعارات روايات تتّسم بجودة نسبية مثل رواية «قانون الوراثة» لياسر عبد اللطيف، و{لصوص متقاعدون» لحمدي أبو جليل. لكن ثمة من تحوّل قربه في القارئ إلى رقم المبيعات، مثلما فعلت كتابات طبيب الأسنان الدكتور علاء الأسواني، وغيره كثر. هؤلاء حاولوا الذهاب باتجاه التطوير الزائف لشعار التسعينيات الخاص بنفي الغموض وتخليص اللغة من الترهّل.
هل تعتقد أن الجوائز جديرة بالكتابات التي تدّعي الاقتراب من الجمهور، فيما الإشكاليون من أمثالك لا حظّ لهم مع الجوائز؟
اخترت أن أحتفظ بمسافة آمنة بيني وبين كل ما هو زائل، يبدو طبعاً أن جميع الجوائز تخطّتني، وليس هي فحسب بل أيضاً الترجمة والسفر، ولا أعرف ما إذا كان السبب يعود إليَّ أم إلى طبيعة الحياة الثقافية.
أعلم أن كتاباتي إشكالية مثيرة للجدل، لكن لن أسعى إلى الحصول على جائزة، فما يعنيني حقاً أن أكون قادراً على التعبير عمَّا أراه بالطريقة التي أراها.
لا أرفض الجوائز لكن لا أسعى إليها، وأحتفظ بقراءة داخل موازين القوى في الحياة الثقافية وآليات المنح والحجب وأظن أنني سأظل على مسافة آمنة من هذه الآليات.
ترفض كثيراً من المنطلقات النقدية على رغم أنك تُعتبر فتى النقاد المدلّل وسط أبناء جيلك، كيف تفسّر هذا التناقض؟
لأنني أعتقد أن الإبداع في العالم العربي ومصر تحديداً أكثر غنى وجمالاً من الأطر النقدية كافة التي تحاول أن تلبسه أثواباً وشعارات في غير محلّها. والمقاربات النقدية في المشهد الأدبي الآن إما قاصرة عن متابعة النصوص بشكل جيد أو أنها تقوم بعمل ترويجي لأسماء أو نصوص بعينها، وأنا أعتقد أن النقد هو مهنة وعلم، والنظر إليه بهذا المفهوم أمر نادر في حياتنا الثقافية، تمارسه قلة قليلة من الأكاديميين والصحافيين، إذ تحوّل النقد في السنوات الأخيرة إلى مراجعات «صحافية»، بالتالي ليس الأمر مجرد مناهضة بعض المقاربات، بل اعتراض على مناخ عام.
ألم تشعر بالاستعجال في إصدار كتاب عن الثورة ربما قبل أن يُدفن أحد شهدائها؟
نحن نكتب الأدب اعتماداً على الاستدعاء من الذاكرة البعيدة، فتأتي المشاعر مُحمَّلة بالحنين إلى الماضي. هذه الطريقة اختلفت وأنا أكتب «مائة خطوة من الثورة»، إذ كتبت من ذاكرة قريبة وحقل انفعالي مختلف. كنت أشبه بمراسل يكتب عن مجريات الثورة من دون أن يغفل الشكوك والهواجس. كنت معنيَّاً بالظلال، وأعتقد أن الدافع الى الكتابة بهذه الطريقة هو أن الحدث كان مفاجئاً وزلزالياً ومبهراً بطرق لا تُصدق. كنت أكتب بيد وأرفع الأخرى ضد النظام السابق، وكان يقيني أن الحدث الذي يجري تحت شرفة منزلي سيحدث مرة واحدة فقط وأنا كثير الشك في الذاكرة، فبدأت التدوين اليومي استعداداً لنص لاحق سأكتبه اعتماداً على هذا التدوين، وتراكم المكتوب إلى أن نصحني الأصدقاء بنشره، وقد نشرته صحف لبنانية ومصرية عدة خلال الثورة.
لماذا اخترتَ شكل اليوميات لكتابة «مائة خطوة من الثورة»؟
لأنه شكل يحتمل استخدام أساليب سرد متعددة، من الرواية إلى التقرير الصحافي والشهادة، ولدينا في الذاكرة الأدبية «يوميات نائب في الأرياف».
عموماً، لا أكتب سوى ما أراه، ولم أكن أؤرّخ للثورة بقدر ما رغبت في تقديم شهادة شخصية، معتمداً الرؤية البصرية المباشرة فحسب. بالتالي، هذا النص قد يكون محملاً بدلالات أدبية، فالجبرتي لم يكن على دراية بعادات الفرنسيين مطلقاً، لذلك كثيراً ما وصل إلى استخلاصات مضحكة، لكنها صارت الأكثر قراءة.