طرقت الدراسات النسوية الحديثة أبواباً عديدة، وأحدثت حفائرها في غياهب التاريخ القديم والحديث ـ معاً ـ بحثاً عن صور مشرقة لنساء أسهمن في صياغة تاريخ السرد العربي، وهي إسهامات ظلت محدودة نتيجة لممارسات التهميش والإبعاد التي مارستها ذكورية الثقافة على المرأة، ومن ثم كان أحد أهم أهداف الدراسات النسوية، ليس فقط إجلاء صورة المرأة بين ركامات التاريخ الثقافي، بل التأكيد على حيازة المرأة لموقع متميز فيه. وإذا وضعنا في الاعتبار إيمان النسويات بقداسة مهمتهن في تصحيح وضعية المرأة عبر قراءة التاريخ من وجهة النظر الأخرى أو المسكوت عنها، سنعرف سر الشغف لدى الكاتبات لطرق أبواب الماضي، بحثاً عن لحظات مضيئة ولو عابرة يكون للمرأة فيها حضور مؤثر في مسيرة الحراك الثقافي.
وعلى أي حال، فهذا موضوع يحوز شغفاً في الثقافة العربية عموماً، باعتبارها مهمشة في مقابل مركزية الثقافة الأوربية، أما وإن يكون الأمر متعلقاً بثقافة النساء المهمشات أصلاً في محيطهن الاجتماعي، فإن الأمر يبدو أكثر إلحاحا للتأكيد على إشراقات نسوية في تاريخ الثقافة العربية.
من هنا ندرك: لماذا تتزايد وتيرة الشغف للبحث عن الحضور النسائي في الثقافة العربية، وفي كثير من الأحيان نراه مشفوعاً برغبة في انتزاع هذا الحضور من الرجل، فيأخذ الأمر بعداً صراعياً في المحيط الثقافي مماثلاً لما هو في المحيط الاجتماعي وعلى أرض الواقع المعاش. أظن.. هذه الطبيعة الصراعية كانت ضرورة في المرحلة الأولى من مراحل الحركات النسوية، ومع ذلك يجب الاعتراف بأن ليس لدينا ما يمكن الاتفاق عليه بوصفه المرحلة الأولى للحراك النسوي. غير أن هذا الحراك أصبح منظماً وممنهجاً ومرتكزاً في الفضاء الثقافي منذ القرن الثامن عشر. ومع ذلك، فثم إحالات إلى مقدمات باكرة للحراك النسوي، يطلق عليها الآن (ما قبل النسوية ) تشير فيها الكاتبة الفرنسية (سيمون دي بوفوار) إلى الكاتبة الإيطالية (كريستين دي بيسان ) بوصفها أول امرأة تتكسب من التأليف الأدبي، بعد أن قدمت كتابها (مدينة النساء) وهو رد على كتاب ( مدينة الرب) للقديس أوجستين، بما يؤكد نزعة المقاومة التي لازمت الحراك النسوي منذ بداياته. مقاومة تسعى لتحطيم القانون التوراتي، الذي وضع بناء هيراركياً لخلق آدم أولا من الطين، ثم خلق حواء من ضلع آدم. إنه بناء غير مفهوم فسيولوجيا، غير أن المؤمنين به يحيلونه إلى قدرة الخالق (يهوه) وظني أنه بناء يأتي على سبيل التفضيل، واستحقاق السلطة للرجل. إذ كان بإمكان ( يهوه ) أن يخلق حواء من الطين أيضاً، ليحقق رمزا دينيا للمساواة بينهما. لكن الأسطورة التوراتية ذهبت لأبعد من ذلك، فاتهمت حواء بغواية آدم ليأخذ قضمة من التفاحة التي أشار إليها الشيطان، يعني هذا أن حواء انتمت إلى الشيطان أكثر من انتمائها لآدم، ويعني هذا استعدادها الأبدي للسقوط في فخ الغواية.
من زاوية أخرى، نراها في النص القرآني مغايرة للرؤية التوارتية، تبدو أكثر منطقية ووضوحا في قوله تعالي: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، ليسكن إليها. فلما تغشّاها حملتْ حملاً خفيفاً فمرت به، فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين" الأعراف: آية 189.
وتفسير ذلك أن التشارك العاطفي والجسدي بين الذكر والأنثى هو غاية الخلق الذي هو من نفس واحدة، بلا تأكيد لأسبقية خلق الرجل قبل المرأة، ومع ذلك، سيظل قوله تعالي (وجعل منها زوجها) موضعاً للاختلاف بين المفسرين. لكن مستهل الآية الكريمة وحده كاف لتأكيد المساواة بين الرجل والمرأة.
هكذا .. يبدو أن الكلام عن طبيعة الجنس البشري وسلطته، ممتد ومفتوح إلى ما لا نهاية، وملتبس بكثير من الأساطير المتواترة قبل التوراة، والطريف أنها جميعا كانت تحمل هذا الطابع الصراعي بين الجنسين. ففي النصوص السومرية لبلاد الرافدين، نشهد مظاهر هذا الصراع بين (عشتار وتموز) حيث تمتلك (عشتار) قدرة على دفع (تموز) إلى العالم السفلي، و استعادته من جديد. بمعنى أنها تحي وتميت. ومع ذلك، فقد جاء ذكر ( تموز ) في سفر ( حزقيال) بتقدير خاص، فيم لم تحظ ( عشتار ) بمكانة تذكر. يعتبر هذا أحد صور االتمييز الهيراركي التي تمنحها التوارة لتأكيد وصاية الرجال على النساء. ونتيجة لذلك، فقد أصبح الدين موضوعاً ضالعاً في الخطاب النسوي، ومسئولا بدرجة كبيرة عن التمييز بين الجنسين.
أما في المعتقدات الميثولوجية فقد بدت العلاقة متأرجحة. ففي كثير من الأحيان تميل الكفة إلى تبجيل وتقدير المرأة، أو تميل إلى الرجل. بمعنى أن المعيار هنا لم يكن مقدساً، بقدر ما كان إنسانياً يخضع للطبيعة المجتمعية ومفرداتها الثقافية.
تعتبر ثورة الأمازونيات نقطة تحول مبكرة جداً في صعود النسوية. ويمكن أن تكون ملهمة لأفلاطون نفسه، وهو يبني النظام الاجتماعي في مدينته الفاضلة، على أساس من المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.. كما يمكن أن تكون ثورة الأمازونيات ملهمة لثورة النساء في ملهاة أرستوفانيس التي بعنوان (برلمان النساء) عندما تسربلن بتفكير ماكر لتلقين الرجال درساً، فقيدوا أزواجهن في الأسرة، وذهبن إلى البرلمان، وفيه أعلنوا مانيفستو نسوي، من خلال عرض مسرحي كوميدي ليبدو الأمر حلماً نسوياً لا أكثر، غير أن الجذور الأولى لمانفيستو حقيقي نشأت مع الثورة الفرنسية، إذ كان الثوار يتحركون بوصفهم رجالاً مناضلين، فيما على نسائهم أن يلزمن بيوتهن ليصنعن الشاي لرجال الثورة. يبدو أن مشاعر النساء كانت أكثر غضباً على رجال الثورة من غضبهم على لويس السادس عشر.
وعلى ما سبق، نرى أن البحث في تاريخ العلاقة بين الرجل والمرأة، يأخذ بعدا ثقافياً لفهم هذه العلاقة، وما يحيط بها من محذورات، تراها النسويات ميراثاً من القهر الذكوري الذي يستوجب نضالاً مستمراً لتحرير المرأة.
كانت الثقافة هي الميدان الأكثر رحابة وقدرة للإعلان عن صوت المرأة، ومع الوقت أصبح للمرأة دور مميز في تشكيل واقعها الثقافي، بل هو دور مؤسِس لخطابات أدبية جديدة تعكس الحضور النسوي. وفيما يلي نرصد بواكير هذا الحضور في الثقافة العربية المعاصرة، حيث ظلت البدايات الثقافية تتشكل في بواكيرها بين الرجل والمرأة..
يشير الدكتور مصطفي الضبع يشير في دراسة له حول صورة المرأة البدوية في الرواية العربية إلى اختلافات مهمة بين هذه الصورة في روايات النساء عنها في روايات الرجال ، ففي حين نراها عند الرجال مغذية لفكرة الفحولة أو الفروسية أو الحوشية المثيرة للشهوة الجنسية ، نراها عند النساء تعبيراً عن أزمة وجودية، وتأكيداً على تهميش المرأة وقمعها ونفيها في الخباء. وظني أن الفوارق البيولوجية بين الرجل والمرأة تسهم في ذلك، ومن ثم فإن كثيراً من الكتابات النسوية راهنت على موضوعة الجسد في سردهن، الذي يضمن لهن خطاباً إنسانياَ قبل أي شيء، معبراً عن العواطف والمشاعر الأمومية التي تتشكل عبر بيولوجيا الجسد كالحمل والولادة والإرضاع وغير ذلك من أشكال التلامس العاطفي التي لا ترتبط بالشهوة الجنسية فحسب.
ما يدعم هذا التوجه هو أن تاريخ الثقافة العربية يحفظ لنا حكايات الجدات والأمهات، ويضع شهرزاد رمزاً تاريخيا مؤكداَ لقدرة المرأة على نسج خطاب سردي مغاير لسرد الرجال، يتأكد هذا إذا ما قارنا ألف ليلة وليلة بمقامات الهمذاني التي التزمت ببناء حكائي بسيط، وحرصت عليه منذ نشأتها حتى انتهى عند المويلحي ( ت 1903م) بنفس بناء المقامة وخطابها النقدي الساخر.
يلفت (الضبع) الانتباه إلى أن أول رواية عربية لامرأة، كان موضوعها المرأة البدوية، بوصفها نموذجا للتهميش النسوي، صدرت الرواية في نيويورك 1906م وكتبتها لبنانية (عفيفة كرم ـ 1383هـ) كانت قد تلقت قدراً من التعليم قبل زواجها وهجرتها إلى أمريكا، وهناك أصدرت مجلة "العالم الجديد" النسائية، وألفت عدة روايات منها: (بديعة و فؤاد، فاطمة البدوية ، غادة عمشيت) . تحكي رواية ( فاطمة البدوية) عن بدوية أحبت أحد أبناء المدينة وتحدت قوانين مجتمعها وممارساته القامعة، فهربت بحبها إلى العالم الجديد (أمريكا) وهناك تدخل في مواجهة مع ثقافة الغرب، بما يعنى أن الرواية، تناولت موضوعة العلاقة بين الشرق والغرب على نحو باكر وعلى يد امرأة قبل أن يكتب توفيق الحكيم عصفور من الشرق.
يسوق الضبع رأيه هذا باحتراز شديد، رافضاً القطع بنسبة البدايات الأولى لكاتبة أو لكاتب بعينة، لهذا يستخدم عبارة ( إن فاطمة البدوية هي أول رواية عربية تعالج العلاقة بين الشرق والغرب وحتى إشعار آخر) فثن مت يرى أن زينب فواز قدمت أول رواية عربية بعنوان ( غادة الزاهرة) مشيراً إلى هوس الباحثين العرب بفكرة البدايات التي أضحت تمثيلاً لمنافسات ُقطرية على فكرة الريادة، فريادة القصة القصيرة تنتزع من تيمور (المصري) وتنسب إلى أحمد فارس الشدياق (السوري) وريادة الرواية تنتزع من هيكل وتنسب ـ بإقرار باحث مصري ـ إلى كاتب لبناني مجهول، فالباحث المصري ( محمد سيد أحمد عبد التواب ) يؤكد في رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة القاهرة بعنوان: "نشأة الرواية العربية" أن أول رواية عربية تنسب إلى اللبناني خليل أفندي الخوري بعنوان: " وي إذن لست بإفرنجي ـ 1860" .
أما الشاعر والناقد شعبان يوسف فيرى أن البداية أمر لا قيمة له، والريادة ليست مجرد البداية، فالريادة تقاس بحجم التأثير النوعي والكمي الذي تحدثه في الثقافة، أو في النوع الأدبي من خلال مشروع وليس مجرد عمل واحد (بيضة الديك) لهذا يعتبر شعبان يوسف أن نجيب محفوظ هو رائد الرواية العربية بحق. وإن كل من سبقوه قد حازوا شرف المحاولات الأولى فقط.
للباحثة ألفت الروبي رأى آخر، فالريادة هي بداية توفرت فيها درجة كبيرة من النضج الفني والاكتمال النوعي وفي كتابها: " بلاغة التوصيل وتأسيس النوع " تشير في ذلك إلى زينب فواز (السورية المصرية) التي كتبت (حسن العواقب ـ 1899م ، والملك كورش 1905م ) ، وكذلك لبيبة هاشم (المصرية) التي كتبت : " قلب الرجل 1904م ، و شيرين 1907 م" ، أي قبل محمود تيمور بسنوات، فمن الطبيعي أن يكون تيمور قد اطلع على هذه الكتابات وتأثر بها ، لأن النضج الفني الذي كتب به تيمور أول قصصه يتطلب أسبقيات أخرى ناضجة بدرجة كبيرة كانت متوفرة عند زينب فواز ولبيبة هاشم وغيرهما. غير أن الشاعرة (عائشة تيمور) هي التي حازت شرف المحاولات الأولى عندما كتبت (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال ـ 1887م ) فأرهص كتابها بخصائص النوع القصصي، غير أنه كان متأثراً بلغة عصرها التي تحتفي بالسجع والبلاغة القديمة، كما مال إلى الخطابية والوعظية، ثم أردفته بـ ( مرآة التأمل في الأمور) الذي يعتبر أول سيرة ذاتية تكتبها امرأة، كما أن الكتاب لا يخلو من تأملات في وضعيات النساء وملاحظات على تربيتهن على القمع والتفرقة بين البنات والأولاد، مما يعنى أنه احتوى ـ في نفس الوقت ـ إرهاصات باكرة للنقد النسوي .
أما ريادة التجديد الشعري في زمن النهضة العربية، فمتنازع عليها بين محمود سامي البارودي ، وعائشة التيمورية التي ولدت بعده بعام واحد، غير أن النقاد الرجال، تجاهلوا حضور عائشة في النهوض بالشعر العربي من سباته الطويل، وركزوا على محمود سامي البارودي بسبب حضوره البارز في المشهد السياسي الذي يحتكره الرجال عادة. وهكذا يتضح لنا أن المنافسة على الريادات الثقافية محتدمة ليس بين الأقطار المختلفة بل بين الرجال والنساء أيضاً.
وترى ألفت الروبي أن الظهور الأسبق للصحافة النسوية هو الذي مهد وشجع على ظهور البدايات القصصية عند النساء قبل تيمور، حيث نشرت صحيفة الفتاة التي أسستها (هند نوفل) في مصر عام 1892م ، ثم صحيفة فتاة الشرق التي أسستها (لبيبة هاشم عام 1906م) حيث نشرت هذه الصحف قصصاً مترجمة بأقلام نسائية، كما أن النساء عبرن عن قضيتهن من خلال هاتين الصحيفتين قبل كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين ( 1899م) ، بما يعنى أن الصحوة النسوية العربية لم تكن منة الرجل على المرأة، بل أنتزعتها المرأة بجهاد مرير حتى أجبرت الرجال على التعاطف معها والإيمان بعدالة قضيتها.
كما أن هذه السوابق الإبداعية والصحفية للمرأة، شكلت الملامح الأولى للنقد النسوي الذي وجدنا بذوره الباكرة عند عائشة التيمورية كمجرد ملاحظات وتأملات، غير أنه استوى إلى خطاب ناضج عند مي زيادة، أو مارى إلياس زيادة اللبنانية المولودة 1886م ،والتي احتضنتها مصر فأثرت واقعها الثقافي على نحو أجبر كبار مثقفيها مثل العقاد وعبد الرحمن شكري ـ وغيرهما ـ على الاعتراف بمكانتها المهمة ونبوغها المعجز، ليس فقط من خلال صالونها الذي يعتبر أول صالون أدبي لامرأة عربية في العصر الحديث، بل ومن خلال خطاب أدبي متميز على درجة كبيرة من الموسوعية المعرفية في اللغات المتعددة.
أما المجد الذي أنكره عليها الرجال، هو ريادتها للنقد النسوي الذي أسسته على قيم مغايرة للخطاب النقدي الذكوري الذي كان سائداً في عصرها، على النحو الذي مارسه العقاد في مواجهة أحمد شوقي مثلاً، فاتسم بالعنف وبأحادية الرؤية وبعصبية النزعة إلى نفي الآخر المختلف. ويذكر أن مي انحازت لطابع التجديد في تجربة العقاد وشكري من جماعة (الديوان) ولكنها رفضت منهجهما النقدي الذي انشغل بنفي شوقي وتشويه تجربته. بما يعكس النزعة الأخلاقية في النقد النسوي والتي نراها الآن ترتبط بقضايا البيئة وحقوق الإنسان ومناهضة ممارسات العنف والعنصرية .
وقد دشنت (مي زيادة) تجربتها النقدية النسوية بدراستين هامتين، الأولى عن عائشة التيمورية، والثانية عن باحثة البادية (ملك حفني ناصف) حيث دعت إلى احترام نازع الاختلاف في تجربة المرأة، وإدراك رغبتها في الإفصاح عن عواطفها المكبوتة، ودعت إلى التعاطف معها وترسيخ مبدأ الحب، حيث يجب على الناقد أن يشعر بنوع من الانتماء أو التعاطف مع النص الأدبي، لأن هذا أدعى لأن يبادله النص نفس العاطفة فيتفتح بين يدي الناقد كالوردة، في حين تصيب الكراهية الناقد بالعماء، وكانت مي زيادة واعية بدورها كمنظرة للنقد النسوي، كما كانت واعية بأن اختلاف طبيعة المرأة عن طبيعة الرجل ينتج طرائق جديدة في التعبير الأدبي بما يُحدث نقلة نوعية في مفهومنا للإبداع، تقول: "إن عواطف المرأة وتأثراتها شيء بشرى مطبوع ، وبالمران تتعلم الاستسلام لطبيعتها النسائية والركون إليها في الاهتداء إلى التعبير، بعد أن ألجمت خوالجها قروناً طوالاً، والصيحة التي ترسلها الآن، ستفتح في إدراك البشر وفي آدابهم أفقاً جديداً .." .
سنلحظ في كلام (مي زيادة) روح النبوءة والإيمان العميق بالدور الذي سوف تلعبه المرأة ـ بعد أن تنال حريتها ـ في إدراك البشر وفي آدابهم ، وهو دور يمكن أن نشهده الآن، وبعد مرور مائة عام على كلام مي زيادة، حيث تأثيرات النسوية طالت مجالات النشاط الإنساني كافة، ليس فقط في الفنون والآداب، بل والعلوم المختلفة، وهي تأثيرات لم تقف عند حد الإسهام أو التمثيل المشرف ، بل أحدثت ثورات جذرية في المعرفة البشرية على نحو ما تجسدها ثقافة ما بعد الحداثة من تحولات اجتماعية وثقافية وحقوقية، بل واستحدثت علوماً جديدةً مثل علم البيئة الذي يرسخ لثقافة تحترم الطبيعة، وتدعو إلى وحدة الوجود، فالإنسان ليس الكائن الوحيد في الكون، وهو علم نشأ في أحضان نسوية خالصة.
وظني أن غراميات البحث عن الريادة في ثقافتنا ليست سوى أحد أعراض النوستالجيا العربية، والنزوع الماضوي الدائم بحثاً عن شواهد مضيئة في الخلف بدلاً من التطلع إليها في المستقبل، غير أن العالم ـ الآن ـ يتغير فعلاً بفضل الثورة الثقافية التي أحدثتها التكنولوجيا، وأتاحت ببساطتها وانخفاض تكاليفها إمكانات مدهشة تمنحنا فرصة حقيقية لتحقيق إنجازات حضارية فاعلة سواء في الحاضر أو المستقبل، كما أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة رحبة تتسع لجميع أجناس البشر.