The Unfortunate Reactor

كثير منا قد لا يعرف أن أول تجربة لتوليد الطاقة الشمسية كانت فى القاهرة.

وقد يفخر أهل المعادى أن تلك التجربة إجريت على الأرض التى تحتلها اليوم محطة بنزين ( توتال).

فى عام 1913 أجرى العالم الأمريكى شومان أول تجربة لرفع مياه النيل باستخدام الطاقة الشمسية لرى مزارع القطن القريبة.

موت المفاعل كان كارثيا على العالم أجمع، فلقد تأجج الصراع حول الذهب الأسود وما زال متأججا.

لقد أهملنا أمر الشمس واستخففنا بها..فانذرتنا وها هى على مدى سنوات تنذرنا بأن إهمالها له عواقب غير محمودة ، ولكن أحدا لم يصدق، فنراها اليوم بعد أن استنفدت صبرها تحرقنا بصيف قاتل أتى على الغابات وجفف الموارد المائية فزحفت علينا الصحراء وهطلت السيول وهاجت الفيضانات ولم تسلم أى رقعة فى العالم من شرور التغير المناخى التى أحدثها اختراق الشمس لكوكبنا.

منذ أكثر من أربع عقود حذر العلماء من التلوث البيئى الذى تحدثه الآلة الصناعية بالذات فى الدول الكبرى كالصين والولايات المتحدة وروسيا.. ناهيك عن الحروب المستعرة فى أنحاء مختلفة من الأرض والتى تخلف أضرارا لا تقل فى شراستها عن المنظومة الصناعية الثقيلة.

جاء التحذير بأن تلك المخلفات الصناعية ستحدث ثقبا فى طبقة الأوزون التى تحمى الأرض من أشعة الشمس و(تفلترها) لضبط التوازن المناخى التقليدى.لكن كان هناك من عارض هذا التحذير مجادلا أن ثقب الأوزون ما هو إلا فرضية أسطورية لا أساس لها من الصحة وأن هذا الثقب يلتئم بطبيعته مع مرور الوقت ولكن ما نراه اليوم يثبت عكس ذلك تماما...الأرض تنهار بفعل أدخنة المصانع والتجارب النووية واللهاث وراء الموارد الطبيعبة اللازمة للتصنيع.

أعتقد أن الدول الصناعية الكبرى بتقدمها العلمى كانت على يقين بأن قضية طبقة الأوزون ليست فرضية ولكن حتى الآن لا يوجد بديل للطاقة البترولية..وحتى إن وُجد فإنها لن تستطيع أن تغير البنية التحتية الصناعية التى تعمل بالطاقة التقليدية، فالأمر يتطلب سنوات طويلة فى بلاد تجنى المليارات من وراء تقدمها الصناعى.

لكن للطاقة الشمسية قصة فريدة قد لا يعرفها البعض، فلو تبنيناها منذ البداية لتبدلت أحوالنا ولم نكن لنصل إلى ما نحن فيه من عواقب كارثية...تركنا هبة السماء ورحنا نحفر باطن الأرض وقيعان البحار بحثا عن الطاقة التى تنبأ بزوال الحياة على الكوكب الأرضى.

ولعل ما دفعنى لكتابة هذا المقال فى هذا الوقت بالتحديد هو تلك الموجة الحارة الغير مسبوقة التى تتعرض لها البلاد ومن قبلها موجات مشابهة أحالت صيف مصر إلى جهنم صيفا بدلا من حار.

البداية كانت فى (جرافيتى) على أحد أسوار التى تحوط قطعة أرض مهملة فى حى المعادى.. لم يكن أحد ليلتفت لوجوده فنادرا ما تحمل الكتابة على الحوائط هنا غير الإعلانات. كتب على الحائط ما يلى: "إننى على يقين من شىء واحد: أن البشرية لابد أن تتحول إلى الطاقة الشمسية أو ترتد إلى البربرية..التوقيع فرانك شومان 1913..."

ومن المفارقات أن تقع قطعة الأرض المهملة أمام محطة بنزين ( توتال) التى تعلم المدخل الثانى لحى المعادى والتى تقع على بعد عدة كيلومترات من كورنيش النيل. حدث ذلك عام 2008 حينما روجت مصر نموذجا لأول مفاعل شمسى فى ساحة دار الأوبرا..ولدهشة الجميع فلم يكن يعلم معظم المصريين أن أول مفاعل شمسى فى العالم قد شيد فى القاهرة عام 1913 بعد أن أدخل العالم الأمريكى شومان تحسينات هامة على أعمال من سبقوه..ومن الطريف أن يفخر سكان حى المعادى أن موقع هذا المفاعل لم يكن غير قطعة الأرض التى بنيت عليها محطة (توتال) الشهيرة ومن قبلها محطات بنزين أخرى. ذلك الموقع وما جاوره من أراض كان المسرح الحقيقى للتجارب وسبب ذلك قربها من حقول القطن التى تعتمد فى ريها على مياه النيل، فاستخدم المفاعل ليرفع مياه النهر أتوماتكيا كبديل للطرق التقليدية.

ولكن لم تنته القصة هنا، فلقد كان هناك جدل كبير يدور حول مستقبل الطاقة، أما اليوم فهناك مخاوف تحولت إلى واقع كقرب نضوب منابع البترول، واتساع طبقة الأوزون والإحتباس الحرارى والطاقة البديلة. أما فى عام 1913 كانت كل تلك المخاوف مجرد تصورات لم يكن الضوء قد ُسلط عليها بعد..فالتوقيت كان نهاية القرن التاسع عشر الذى أطلق عليه عصر وقود الفحم..فلما شهد الاعتماد على الفحم مآس كنفوق العمال فى المناجم والصراعات التى دارت حول مصادره، كان من الضرورى البحث عن البديل.

عمال يعملون على المفاعل في 1913
عمال يعملون على المفاعل في 1913

وطبقا لمقولة شومان فإنه بدون بديل الشمس ــ هبة الله على الأرض ــ فسيتحول العالم إلى البربرية..ومن سخرية القدر أن العالم كان على بُعد عام واحد من هذه البربرية أو أن رقم (13) كان فال نحس كما يشاع، ففى عام 1914 إندلعت الحرب العالمية الأولى ليروح ضحيتها 14 مليون إنسانا..ولم يقف الأمر عند هذا الحد: فلقد كان المفاعل الشمسى بالمعادى جزءا من الصراع الذى تفجر بين الإنجليز والألمان: كان شومان أمريكيا من أصل ألمانى، والذى عقد العزم بسلامة نية أن يمول الطرفان هذا المشروع ولكن تطورت الأمور ولجأ كل منهما إلى العنف لحل الخلاف بينهما.

كانت المعادى فى تلك الأيام ضاحية صغيرة هادئة ولكنها كانت الموقع الامثل لبناء المفاعل الشمسى، فهى تطل على نهر النيل وتحوطها حقول خضراء.. ما جعلها الأصلح لإجراء تجربة رى الأراضى باستخدام الماكينة الشمسية حيث تُضخ المياه بطاقة المفاعل إلى الحقول. لقد تم إفتتاح المفاعل فى 12 يوليو عام 1913 أى فى نفس هذه الأيام منذ أكثر من مائة عام ــ كان ذلك فى حفل مهيب دعى إليه العديد من كبار رجال الدولة من المصريين والإنجليز.
المفاعل النووي 1913
المفاعل الاصلي

فى تلك المناسبة كتبت جريدة ( الايجبشن جازيت) على صفحتها الأولى: "ببناء المفاعل الشمسى تم التحكم فى الإله (فوبس) معبود الشمس عند القدماء..لقد عبد أجدادنا الشمس ومازال العديد يعبدون النار والماء..أما التحول فى العصر الحديث فيكمن فى تحويل كل هذه الآلهة القديمة إلى منافع عصرية...فلقد حازت تجربة المفاعل الشمسى التى تجرى الآن فى المعادى على اهتمام الجميع بينما يجرى عرض عملى لها أمام الحاضرين..فالبرغم من أن مقياس الحرارة وقف عند 100 درجة فيرناهيت فى الظل فلقد لبت جموع غفيرة ــ بما فيها سيدات الطبقة الأرستقراطية ــ دعوة ( لامبير) و( رالى) وسافرت إلى المعادى لتشهد التجربة عن كثب."

لم يكن ( لامبير) و( رالى) سوى ملاك الشركة الإنجليزية التى مولت المشروع الذى بدأه المخترع الأمريكى المهندس شومان الذى يعيش فى ضاحية ( تاكونى) بولاية فيلادلفيا الأمريكية، الذى أبدى اهتماما بالموضوع بعد أن إطلع على أنجازات سابقيه. فبينما خشى العلماء نضوب إنتاج الطاقة الفحمية الذى بات وشيكا، شرع فى أن يجعل الطاقة الشمسية أبسط وأرخص وأكثر عملية. فبعد أن سجل براءة إختراع ماكينة البخار ذات الضغط المنخفض والتى تستخدم فى لوحات تجميع أشعة الشمس، راح يبنى نموذجا لماكينة الشمس فى باحة منزلة الخلفية بــ (تاكونى) والتى كانت تعمل خلال الأيام المشمسة. فى عام 1910 أسس (شركة الطاقة الشمسية ) بشراكة مستثمرين بريطانيين وأمريكيين.

لقد كانت صلة شومان القوية بالإنجليز هى التى شجعته على أن يقوم بالتجارب فى مصر، فالشمس هناك دائما مشرقة ولا تتساقط الأمطار إلا قليلا، ويوجد بها بنية تحتية منظمة من قنوات الرى والسكة الحديد علاوة على العمالة الرخيصة. قال شومان إن مصر تعتمد على الرى التقليدى الذى يقوم به المئات من الفلاحين ولكن باستخدام ماكينة شمس واحدة فإنها توفر عمالة بالآلاف. فى عام 1912 منح اللورد كيتشنر ( شركة الطاقة الشمسية) 12 ألف هكتار من مزارع القطن بالسودان، فقد كان بمقدور مفاعل الشمس أن يضخ 2000 لترا من المياه فى الدقيقة الواحدة.

لكن كان الألمان دون غيرهم هم الذين تحمسوا لترويج المفاعل الشمسى ليستخدموه فى رى الأراضى بمستعمراتهم فى جنوب غرب إفريقيا بتكلفة تربو على 200,000 مارك ألمانى. احتفى به الألمان وتوجوه ابن ألمانيا العائد إلى وطنه..وطبعا أغضبت تلك المبادرة الإنجليز ، فقد منح ألمانيا صفقة تمولها شركة بريطانية، ولكن شومان الأمريكى لم يتدارك الأمر لأنه أتى من الولايات المتحدة التى كانت محايدة سياسيا فى ذلك الوقت. لم يكن حتى لديه الوقت ليدافع عن وجه نظره فلقد إندلعت الحرب العالمية الأولى بعد أن أطلق طالب الرصاص على ولى عهد الإمبراطورية النمساوية.

لقد تم تفكيك المفاعل مع بدء الحرب الأولى، لكن ترى هل كان يمكنه أن يمنع تلك الصدامات التى سبقت الحرب لو تم اختراعه قبل عدة سنوات؟ لا أحد يمكنه أن يجيب على هذ السؤال.. كان المفاعل الشمسى اختراعا وليدا وكان البترول بديل الفحم قد دشن للاستخدام فى مجالات عدة. لقد أمر اللورد كيتشنر أن تبنى عدة مفاعلات شمسية فى السودان فى الوقت الذى أقنع فيه ونستون تشرشل البرلمان بشراء احتياطات كبيرة من البترول لتشغيل قوارب البحرية.

لقد قلبت الحرب العالمية الأولى الاقتصاد العالمى رأسا على عقب، وها هو الصراع ما زال مستمرا على مصادر الذهب الأسود التى راحت تجف تدريجيا عاما بعد عام..ما حدا بكل دول العالم على إحياء الطاقة الشمسية..فما الذى كان ليحدث لو لم تتوقف أبحاث مفاعلات الشمس! قطعا لحلت محل البترول فى مشروع تعطل قرابة القرن. تمثل الطاقة الشمسية اليوم حوالى 6% من إجمالى الطاقة العالمية..طاقة نظيفة ترسلها الألواح الشمسية القابلة للتدوير عند انتهاء صلاحيتها...ترى هل تتقدم بسرعة حتى توقف نزيف الحروب والصراعات. لقد إحتل أول موقع للمفاعل الشمسى الأرض التى شيدت عليها محطة توتال، ولكن من المفارقات أن أول اجتماع لمنظمة الأوبك قد تم عام ١٩٥٩ بنادى اليخت التابع لنادى المعادى والذى يقع على بعد عدة أمتار من محطة البترول!