تحتفل الأوساط الأثرية هذه الأيام بمرور مائتى عام على اكتشاف حجر رشيد..فقد اميط اللثام فى ٢٧سبتمبر ١٨٢٢ عن الحجر الذى فكت من خلاله طلاسم اللغة الهيروغليفية بعد أن ظلت لغزا كبيرا عبر مئات السنين…
أعلن ذلك العلامة فرانسوا جاك شامبليون (١٧٩٠– ١٨٣٢)فى خطاب لراعيه داسية مشددا على أنه بعد بحث مضن استغرق عشر سنوات استطاع أن يكشف جزءا من أسرار الكتابة الهيروغليفية.. لكن للقصة بقية مثيرة.
فى الواقع أثارت تلك الذكرى العديد من القضايا التى بقت مهمشة لسنوات طويلة: أولها أحقية مصر فى استرداد حجر رشيد من بريطانيا حيث أنه إحدى أهم مقتنيات المتحف البريطاني ..
أما ثانيها فكان إحياء متحف شامبليون فى فرنسا وثالثها نشر الوعى بين المصريين بأهمية حجر رشيد.. استجابت مصر لذلك بفتح أبواب جميع المتاحف المصرية فى ذلك اليوم مجانا للجمهور..فالقليل منا من يعرف شيئا عن حجر رشيد..و
القليل أيضا لا يعرف من حضارة مصر الفرعونيه إلا الاهرامات.
فى الواقع كان تواتر تلك الأحداث مفاجأة لى وتناقضا لم مررت به منذ أقل من أربع وعشرين عاما تقريبا حينما شرعت فى كتابة مقال مصور عن مدينة رشيد بعد زيارتى لها عام ١٩٩٨.. وقتها قتلت شبكة الإنترنت بحثا عن Rosetta Stone اى حجر رشيد فلم أجد إلا بضعة مواقع موسيقية أو محلات أزياء تحمل الاسم..ما أثار دهشتى وكأن الحجر لم يعد له أهمية تاريخية أو أنه راح فى طى النسيان…
أثارت رحلتى الأولى إلى رشيد كل هذه الأفكار…رأيتها مدينة ريفية بسيطة ولكن ما بها من آثار يجعلها واحدة من أهم مدن العالم ..وزاد من أهميتها اكتشاف الحجر الاثرى بها عندما عثر عليه بوشار - أحد ضباط نابليون- بينما يستخدمه الصيادون لربط حبال المراكب…يوجد منه صورة طبق الأصل فى متحف رشيد الوطنى..لقد وهب الحجر الأثري شخصية فرعونية للمدينة التى تعج أساسا بالآثار الإسلامية…
كنت أعتقد أن رشيد تلك مدينة فرعونية لارتباطها بذلك الحجر لكننى فوجئت أنها تزخر بالمساجد و التكايا والحمامات التركية والبيوت العربية القديمة..لكن ترى هل زارها شامبليون؟
حينما ظن الكثيرون أنه زارها تأتى الإجابة لا بالنفى ولا بالإيجاب…لأنه لو كان زارها فقد أتت زيارته ضمن جولة طويلة شملت مصر من شمالها إلى جنوبها لرؤية الآثار على الطبيعة وكشف الرموز المفقودة فى اللغة المصرية القديمة التى بدأها فى معهد اللغات الشرقية بفرنسا…
درس شامبليون فى هذا المعهد واتقن عددا كبيرا من اللغات القديمة منها اليونانية القديمة والقبطية والعربية..ومن المؤكد أنه لم يطلع على الحجر نفسه الذى كان فى حوزة انجلترا بعد هزيمة نابليون فى مصر… دراسته تمت على نسخة منه..فالقضية في البداية كانت أكاديمية بحتة…
منذ غزو نابليون لمصر أشعلت الحملة الفرنسية جذوة الولع بالحضارة المصرية القديمة فى كل انحاء أوروبا الغربية فتنافس الكثيرون على فك طلاسم اللغة الهيروغليفية تمهيدا لتدشين علم المصريات..كان أشهرهم توماس ينج الانجليزى وشامبليون الفرنسى فى وقت ازدادت فيه حدة الصراع بين انجلترا وفرنسا…المنافسة جرت حول اكتشاف المفاتيح المفقودة فى تلك اللغة والتى ظن كثيرون عبر عهود طويلة أنها رموز كهنوتية لا تحمل أصواتا…
حجر رشيد ليس له أهمية تاريخية كأثر، لكن تكمن أهميته فى أنه فرمان كهنوتى كتب بثلاث لغات: المصرية القديمة والديموطيقية وهى لغة المصريين الدارجة واليونانية لغة الحكام.
كانت تعلق نسخة منه على جدران جميع معابد البلاد الكبرى فى عصر البطالمة عند تولى بطليموس جديد الحكم..ينص الفرمان على ولاء الكهنة للملك ومنح الملك الأمان للشعب.. ليس قطعة نادرة فقد وجد نفس الفرمان بعدد حكام اليونان البطالمة.. لكنه ساعد على فك شفرة الهيروغليفية لمقارنتها بالنصين الديموطيقى واليونانى الموجودين على الحجر…
كان توماس ينج أول من عثر فى النص الهيروغليفى على اسم بطليموس مكتوبا بالمصرية القديمة ومن هنا سار البحث فى تقفى اسماء الملوك الأجانب ثم الملوك المصريين أنفسهم فى النصوص الفرعونية…وتلك كانت خطوة قام بها العلامة شامبليون حيث توصل فى نهايتها إلى إعداد الألفابائية الهيروغليفية..ولكن لم تكن تلك بالمهمة اليسيرة السهلة نظرا لندرة وجود الوثائق الفرعونية فى فرنسا.. فلم يكن هناك مناص إذن من الذهاب إلى مصر فى رحلة استكشافية على ضفاف النيل.
وصل شامبليون بصحبة صديقه الاثرى الايطالى روسوليني إلى الإسكندرية فى أغسطس عام ١٨٢٨..حيث جابا البلاد من ساحل البحر الأبيض حتى ادغال النوبة فى بعثة مولها أحد أمراء إيطاليا واستغرقت عاما و نصف العام.
ضمت البعثة عددا من الرسامين الذين عنوا بنسخ الرسوم من فوق الاحجار والبرديات..علاوة على فريق من الخبراء الفرنسيين والمصريين عاشوا مع بعضهم البعض طوال تلك الفترة..ثم كان هناك عدد من مرشدي الجبل وعمال الحفر وطباخ..قابلت البعثة محمد على باشا حاكم مصر،الذي سمح لهم بالتجول بحرية فى البلاد..
طبعا دارت رأسه مرارا وهو يشهد تلك العجائب لأول مرة لكنه لم ينس المهمة التى حضر من أجلها..كان عليه أن يجمع أكبر عدد من الرسوم من فوق الأحجار والبرديات من جميع عصور مصر القديمة المختلفة حتى يتحقق من صحة نظريته.
كتب لأخيه قائلا إنه لبس اللباس التركى ووضع العمامة فوق رأسه الحليق..أطلق فوق شفتيه شاربا كبيرا وراح يتحدث العربية بطلاقة.. ولم يشك أحد فى أنه غير مصرى حتى عرف بعد ذلك بشامبليون المصرى. وفى هذا السياق لا يسعنا إلا نذكر رواية Champollion, L'Egyptien -شامبليون المصرى- للكاتب الفرنسى كريستين جاك المتخصص فى الروايات التاريخية التى تتناول تاريخ مصر القديمة. قرأت تلك الرواية منذ ربع قرن تقريبا ولم اتعجب عندما رأيت الطبعة العاشرة تصدر منها الشهر الماضي بمناسبة مرور مائتى سنة على حل رموز حجر رشيد.
ربما تكون رواية جاك الوحيدة التى تناولت تلك الفترة الهامة من حياة شامبليون وهى رحلته إلى مصر..(شامبليون المصرى) مزيج من الخيال والحقيقة، لكن أهم ما ورد فيها كان وجود منافسه توماس ينج فى مسرح الأحداث ولعبهما لعبة القط والفار للوصول إلى المصادر التى قد تعينهما على فك بعض الرموز الناقصة..ولم تكن تلك المصادر إلا بعض شيوخ المنطقة من أهالى الأقصر..وتلك حقيقة ربما لم ترد كثيرا فى المراجع التاريخية..فبالتأكيد كان هناك من هؤلاء من يعرفون الهيروغليفية معرفة وثيقة لقربهم من المقابر فى وادى الملوك والمعابد فى البر الغربى.. كان معظم ما ورد فى الرواية مطابقا للواقع حيث أن الراوى اعتمد على ما جاء فى خطابات شامبليون لأخيه لكن كان ما سهل على شامبليون مهمته درايتة باللغة القبطية التي تتشابه والهيروغليفية فى نواح كثيرة.
عاد شامبليون فى بداية عام ١٨٣٠ إلى باريس ١٨٣٠ ورأسه تعج بالكتابات الهيروغليفية..عكف على إعداد بحثه المتكامل عن الألفابائية الفرعونية موضحا صحة اكتشافاته بكتابة عبارات معاصرة بتلك اللغة..طبعا لا يتسع المجال هنا لسرد النواحى التقنية حيث أنها تحتاج لمتخصصين..لكن تجب تلك التفاصيل الفكرة الشائعة أن مقارنة النصوص على الحجر كانت مهمة سهلة..إذ تطلبت تعلم اللغات القديمة وهذا أمر ما يزال فى غاية الصعوبة..اللغات القديمة كانت صعبة لكنها لم تكن مجهولة كاللغة الهيروغليفية التى ظلت تحد كبير إلى أن كسر غموضها على أيدى شامبليون.
مات شامبليون بعد عامين من عودته.. أنهكه البحث بين الوثائق وفى المكتبات..ذوى جسده وتدهورت صحته من طول السير على ضفاف النيل والشرب من مياهه الملوثة..نشرت أبحاثه بعد رحيله لكنه استحق بحق أن يكون أبو علم المصريات.