من يوم جاءت إلى هذا العالم كبنت صغيرة، وهي تعتقد أنها لن تكون مجرد فتاة عادية. في يومٍ ما ستمتلك قدرات خاصة. قد تنبت لها أجنحة، وقد تطير على مقشة المطبخ كساحرة، وقد تحرك المكعبات والدمى من حولها بمجرد النظر. لم تفتر همتها بمرور الزمن ولا تقدم العمر. ربما تتأخر المعجزة، لكنها حتما تتحقق. قرأت في مرة قصة عن امرأة تتعرض للقضم من حبيبها.. المرأة تفقد راضيةً قطعًا من جسمها بالتدريج وبطريقة قضمٍ عشوائية. ظلت القصة عالقة في الذهن، وظنت أن هذا هو الحب.. ولأن ما نظنه يتحول غالبا إلى حقيقة.. جاءها الحبيب الذي سيملأ جسدها بالقطع الناقصة... اختارته من بين كثيرين كما لو أنها مجذوبة للفخ المنصوب.. في أول الأمر كانت سعيدة.. اعتقدت أن لحمها يمده بقوى سحرية تساعده على مواجهة العالم. أعجبها أيضا شكلها الجديد. أجزاء بارزة وأخرى غائرة, أشعرها شكلها غير المنتظم أنها تتحول لمجموعة من قطع البازل. هي تحب البازل منذ الصغر، تحب تركيبه وتفكيكه, ثم إعادة التركيب من جديد.. تتمنى لو تفكك قطع نفسها وتلعب. ولكن الرجل الذي يأكل قطعها لا يحب طريقة لعبها. يفكك فقط. لا يحب إعادة التركيب, ولا حتى تبديل القطع وتغيير الأماكن. لقد اعتاد أن يخترع قوانين جديدة لكل لعبة، قوانين خاصة ومدبرة بإحكام تجعل منه الفائز الوحيد دون منازع.
الرجل مخترع القوانين يحب المرق كثيرا.. يحبه أكثر من الطعام. وهي تجيد صناعته... لها أسرارها التي تجعله يبتسم كلما ابتلع المزيد منه. كانت تعتقد أن صناعة الطعام بالحب قد تغير حكايتها للأفضل, فالحب يبريء المرضى ويرقق النفس ويشفي كل الأسقام.
في مرة وبينما كانت تضع البهار على المرق . ذوبته بأصابعها في داخل الطنجرة. لم تنتبه لدرجة حرارة السائل التي قاربت على الغليان. التهب جزء من الجلد .. احمر، ثم ابيض، ثم احمر مرة أخرى قبل أن تظهر فيه دوائر صغيرة كبالونات, خرجت منها سوائل شفافة وحارقة.. لكن الرجل الذي يشرب لم ينتبه، بدا مسحورا بالمرق. لم يتذوق مرقا بهذا الجمال.. ولم تسحره من قبل رائحة طعام كهذه.
وبينما كانت هي متألمة ومتأففة من السائل الحارق الذي لازال ينز من أصابعها, كان يتتبع هو ولعدة أيام رائحة المرق الساحرة في المطبخ.. يتشمم البهارات، يحشر أنفه في خزانة البصل والثوم، قبل أن يخرجها ويحشرها من جديد في باقي أرفف المطبخ.. كل مرة كان يخرج بأنف معبأ بروائح الحبهان والمستكة, والشبت والكزبرة والكرفس, وخالٍ من سر رائحة المرق, حتى أخذته أنفه لأصابعها. ظنت أنه انتبه أخيرا لمسألة الحرق، رغم أن الأصابع كانت قد تماثلت تقريبا للشفاء.. لم تفهم مراده حتى رأته يملأ طنجرة كبيرة عن آخرها بالمياه.. وحين ظهرت فقاقيع هواء صغيرة تحركت علوا وانخفاضا في داخل سائل الطنجرة.. دس كفها في الماء .. لم ينتبه لصرختها، لأن الرائحة كانت قد تصاعدت وعادت تسحره من جديد... ظل يعب لنفسه صحنا تلو الآخر... يلحس آخر القطرات بنهم من كل صحن. بينما هي غرقت في دهشة أنستها قليلا وجع الحرق الجديد... كانت ترى بعين المستقبل ـ وهذه معجزة صغيرة تخصها، لكنها لا تكفيها ولا تشبعها كمعجزة ـ رأت أوجاعا لانهائية, وأصابع محروقة، وصحون لا تنتهي من المرق, وندبات ملونة في روحها وجسدًا من اللذة يتلوى أمامها.
متعته الجديدة بتلذذ المرق جعلته يتوقف مؤقتًاعن قضمها, لقد عوَّدها أن تملأ الطنجرة بالمياه كل يوم, تضع فيها شرائح البصل والطماطم.. تضع الملح وورق الغار والكرفس والمستكة, وتبشر القليل من الزنجبيل وجوزة الطيب. ولا تنسى أن تغمر الكف في آخر لحظة حين تتصاعد الأبخرة. حتى قررت في أحد الأيام أن تُوقف تلك اللعبة السخيفة التي يلعبها بها. ورفضت أن تضع الكف في الماء.. زودت جرعة التوابل. اشترت بهارات جديدة ومزجتها بالماء. لكنه اكتشف الخدعة من أول رشفة.. أمسك بالكف ووضعه في الصحن الساخن .. في اليوم التالي أمسكها أيضا بالغصب ليضع كفها في داخل الطنجرة التي مازالت شعلة الموقد تتلاعب من تحتها. لكنها كانت قد قررت أن تلاعبه. جرت كفه مع كفها دون أن يتوقع.. أخافتها صرخته.. لكنها ستستمتع بها فيما بعد.. ستخرجها من أقبية الذاكرة لتتلذذ وتبتسم كلما تتذكرها، ستكتشف طعم الانتقام الذي لم يسمح لها بتذوقه من قبل.. كان يستولي على صحون الانتقام واللذة كلها لنفسه.. لكنها قررت أن تتذوق في غيابه كل الصحون المحرمة. فعين المستقبل خاصتها أخبرتها أنه سيرحل.
بصق المرق الذي أغرقت أصابعه فيه.. كان أسوأ مرق تذوقه على الإطلاق. لم ينسه أبدا.. ولم يبدد طعمه السيء أي طعام تناوله بعده قط. سكب الطنجرة في الحوض. وظل يبكي.
دموعه أحزنتها، لكن خوفها على أصابعها التي أنهكت من كثرة الذوبان في الماء المغلي, جعلها تتمسك بالصمت والفرجة.. تسليتها الوحيدة مذ دخلت هذا العالم.
ظلت واقفة حتى جمع أشياءه ورحل.
كانت قد عرضت عليه في مرة كمحاولة لإنقاذ أصابعها أن تغمر إحدى قدميها في مياه المرق بدلا من كفها الذي لان جلده وانهرى من شدة الحرارة. لكنه رفض، شعر بالإهانة من مجرد الفكرة. رغم بياض الكعبين والحمرة التي كانت تفوق في الكثير من الأحيان حمرة الكف والوجه.. أنهى النقاش بجملة حاسمة مفادها أن ذكر البيت لا يجوز له أن تُقدم له شوربة أقدام.
جرب نساء كثيرات، جذب كفوفهن بالغصب إلى المياه المغلية دون جدوى. لم تؤلمه الصفعات ولا السباب التي تعرض لها منهن، بقدر ما آلمه اختفاء طعم المرق المحبب ورائحته من حياته.
في يومٍ عاد مكسورا إليها. وكانت تعرف, تراه بعينيها قبل المجيء وتنتظر. طأطأ رأسه, معلنا موافقته على شوربة الأقدام. لكنها لم توافق بسهولة, وضعت شروطها: كفي مقابل كفك.. قالت.
وافق من قرصات الجوع المتتابعة في بطنه. وضعت كفها في طنجرة, وكفه في طنجرة أخرى.. التهم طنجرتها.. بينما ألقت سائل طنجرته المغلي في البلاعة لتفك انسدادها المتكرر. وتناولت على الطعام صنفا جديدا لم تكن قد تذوقته من قبل. صنفا اسمه المقايضة. ظلت تقايضه بكفها كل يوم. حتى استرد عافيته وملأت سوائل المرق ثنايات الكرمشة والتجاعيد التي خلفها طول مدة الجوع السابق. بينما هي بدأت تمل من طعم المقايضة, الذي لم يعد يبهجها.. ورغم أنه اعتاد أن يغلي لها كفه أولا, في محاولةٍ لتأكيد حسن النوايا.. إلا أنه وجد طنجرته مكسورة في أحد الصباحات.. ظل واقفا في مكانه حتى جاءت وأخبرته بفض المعاهدة. من يومها وهي لا تطهو له المرق إلا في كنكة القهوة. تمس الماء بطرف إصبع صغير, تختاره مرة من كف ومرة من قدم, لا تسكب له إلا فنجانا واحدا في اليوم. عادت الكرمشة تغزو جلده من قلة السوائل. لكنه لم ينطق. تعلم أن يكتفي بما تقدمه. وتكتفي هي بلعق الإصبع الذي تمس به الماء المغلي.. كنوع من الترضية والتلذذ.