منذ فترة، أعمل على إعداد كتابي "اليسار الإلكتروني في مواجهة الرأسمالية الرقمية"، الذي آمل أن يرى النور خلال عام 2025. لكن مع سخونة الجدل حول الذكاء الاصطناعي وتأثيره العميق على المجتمع، أصبح من الضروري تقديم تحليل يساري لهذا الموضوع المحوري، حيث هناك نقص واضح في الطرح النقدي من منظور اشتراكي. لذلك، قررت نشر أحد فصول الكتاب بشكل مستقل، كمساهمة في تقديم رؤية نقدية اشتراكية للذكاء الاصطناعي، سواء من حيث دوره في تعميق هيمنة رأس المال، أو إمكانياته كأداة تحررية ضمن أفق اشتراكي.
ما الذي يميز هذا الدراسة؟
• ملخص مركّز لمن يرغب/ترغب في الاطلاع على الأفكار الرئيسية بسرعة.
• النص الكامل للفصل لمن يريد/تريد التعمق في التفاصيل.
• قسم خاص للأسئلة والأجوبة المختصرة يجيب على القضايا المحورية حول الذكاء الاصطناعي من منظور يساري.
أدعوكم/ن لاكتشاف هذا الطرح النقدي، والانخراط في النقاش حول كيفية بناء مستقبلٍ لا يكون فيه الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في خدمة رأس المال، بل وسيلة لتحرر الإنسان.
ملخص الفصل، موجز الأفكار الرئيسية
الذكاء الاصطناعي إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا
كما أشار كارل ماركس في العديد من كتبه، فإن كل قفزة تكنولوجية تحدث داخل النظام الرأسمالي لا تؤدي إلى تحرير الإنسان، بل إلى إعادة إنتاج الهيمنة الطبقية بوسائل أكثر تطورًا. لذلك، فإن التطورات التكنولوجية الحالية ليست محايدة، بل تتشكل ضمن علاقات الإنتاج السائدة. الذكاء الاصطناعي، رغم إمكانياته الهائلة في خدمة البشرية، أصبح أداة تستخدمها البرجوازية لتعزيز سيطرتها على العمل، والتحكم في الموارد، وإعادة تشكيل الوعي الجماهيري بما يخدم النظام الرأسمالي. وكما حدث في الثورة الصناعية، حيث استُخدمت الآلات لتكثيف الاستغلال بدلًا من تقليل ساعات العمل، يتم اليوم توظيف الذكاء الاصطناعي في الأتمتة لتخفيض تكاليف الإنتاج، وتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية في معظم الأحيان، وفرض ظروف عمل أكثر هشاشة وأقل أمانًا. كما يؤدي ذلك إلى تعميق الاغتراب، حيث يتحول شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى أدوات بشرية داخل أماكن عملهم، ويتم استبدالهم بالخوارزميات، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفعهم للبحث عن أعمال بديلة. وفي الوقت نفسه، تُفرض علاقات إنتاج جديدة تُحكم فيها البرجوازية قبضتها على وسائل الإنتاج الرقمي. في ظل هذا الواقع، يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لإعادة إنتاج الاستغلال في شكله الأكثر تطورًا.
الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع، ولغسل الوعي الجماهيري
لم تعد السيطرة الرأسمالية على الذكاء الاصطناعي تقتصر على إعادة إنتاج علاقات الإنتاج أو تشكيل الوعي، بل أصبحت أيضًا أداة مباشرة للسيطرة والقمع السياسي. حيث يتم الان استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة المراقبة الجماعية، والتعرف على الوجوه، وتحليل السلوك السياسي للأفراد، مما يسمح للأنظمة القمعية، وحتى في الدول المتقدمة، بالتدخل المسبق لإحباط او اضعاف أي مقاومة جذرية محتملة. الرقابة الرقمية اليوم تتجاوز مجرد حذف المحتوى أو حجب الحسابات، حيث تتخذ شكل "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد في تعديل خطاباتهم وآرائهم خوفًا من الحجب أو العقوبات الرقمية، مما يقلل من قدرة الحركات اليسارية على التعبئة والتحشيد الجماهيري، مما يساهم في تحويل الإنترنت، إلى حدّ كبير، إلى مساحة خاضعة بالكامل لمنطق السوق وهيمنة الحكومات.
إلى جانب دوره في إعادة تشكيل علاقات العمل وتعزيز السيطرة والقمع. كما كان الحال مع الإعلام بمختلف أشكاله من قبل ولايزال، تُستخدم معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي كأداة للتحكم في الوعي الجماهيري وترسيخ القيم الرأسمالية. يتم ذلك من خلال الخوارزميات التي تتحكم في تدفق المعلومات، وتوجيه النقاشات العامة، ومحاولة فرض واقع ثقافي أحادي يُكرّس هيمنة السوق والاستهلاك الفردي باعتبارهما قيمًا طبيعية وحتمية. الذكاء الاصطناعي اليوم هو أحد أكثر الأدوات فاعلية في تكريس هذه الهيمنة الفكرية، حيث يتم ضبط الخوارزميات لتوجيه الجماهير نحو قبول الرأسمالية كخيار أمثل وبل ازلي. يتم ذلك بشكل تدريجي، ناعم، وغير محسوس، مما يمنح المستخدمين والمستخدمات انطباعًا زائفًا بكونه محايدًا تمامًا. وعلى المدى الطويل، من الممكن ان يتحول الجمهور إلى "قطيع خانع يُقاد بسهولة"، مما يؤدي إلى إضعاف الوعي الطبقي عبر تسطيح الفكر النقدي، وتحويل النقاشات السياسية إلى قضايا جانبية بسيطة، بدلًا من تحليل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستغلال.
الموقف من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية
السؤال المهم هنا: هل يمكن للقوى اليسارية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي الحالي رغم كونه منتجًا رأسماليًا غير محايد؟؟!
الجواب ليس مباشرًا بنعم او لا، فحتى يتم تطوير بدائل اشتراكية تقدمية، يمكن للحركات اليسارية والتقدمية استغلال الذكاء الاصطناعي الحالي بحذر مدروس ووعي نقدي، لتوسيع نطاق تأثيرها في مواجهة الهيمنة الرأسمالية وانظمة الاستبداد. يمكن توظيف هذه التكنولوجيا في تحليل البيانات السياسية والاجتماعية، وفهم أنماط التغيرات الاقتصادية، وتحديد القضايا الأكثر إلحاحًا بالنسبة للطبقات الكادحة والمهمشة. يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دراسة توجهات الرأي العام، مما يتيح للحركات اليسارية تطوير برامج وسياسات واقعية وأكثر دقة وفعالية، وفقًا لما هو ممكن وليس فقط لما هو مطلوب، وتعزيز قدرتها على التأثير السياسي والجماهيري، ومواجهة الهيمنة السياسية للرأسمالية والأنظمة القمعية.
إلى جانب ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لكشف التضليل الإعلامي الذي تمارسه المؤسسات الرأسمالية والانظمة القمعية، وتحليل الخطاب الإعلامي السائد لتفكيك سياسات التلاعب والهيمنة الفكرية، والتصدي لها بخطاب نقدي مضاد يسهم في رفع الوعي الجماهيري. يمكن لهذه الأدوات أن تعزز الإعلام اليساري ، الذي يعكس مصالح الطبقات العاملة والفئات المهمشة، مما يجعل من الممكن الوصول إلى فئات أوسع من الجماهير وتقديم محتوى يساري مناهض للرأسمالية بأساليب أكثر تأثيرًا.
على المستوى التنظيمي، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين آليات التنسيق والتفاعل داخل التنظيمات اليسارية، عبر تحليل ديناميكيات العمل التنظيمي، ورصد مكامن القوة والضعف، وتعزيز الانسجام بين الأعضاء والكتل. يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تسهم في إدارة المعلومات داخل التنظيمات، وتحليل مدى فاعلية السياسات الحالية، والتعرف على أنماط العمل الأكثر نجاحًا، مما يسهل تحسين الأداء التنظيمي الجماعي، وتقليل البيروقراطية، وتعزيز التفاعل بين الأعضاء بشكل أكثر سلاسة وفعالية. ومع ذلك، يجب أن يكون الاستخدام حذرًا ومدروسًا ودقيقا، بحيث يتم توجيه الذكاء الاصطناعي لخدمة الأهداف اليسارية والتقدمية، دون الوقوع في فخ الاعتماد المفرط عليه.
البديل الاشتراكي في مواجهة العبودية الرقمية وتحرير التكنولوجيا
إن إعادة توجيه الذكاء الاصطناعي نحو خدمة الجماهير بدلاً من رأس المال يتطلب تطوير أنظمة مفتوحة المصدر بتوجهات محايدة تُدار بشكل ديمقراطي كحلٍّ ممكن الآن، إضافةً إلى تشريع قوانين دولية تُقيّد عمله لضمان خدمته للمجتمع بأسره، لحين طرح بدائل اشتراكية بتوجهات تقدمية وبملكية تعاونية جماعية كحلٍّ مطلوب، بعيدًا عن احتكار الشركات الاحتكارية الكبرى. يجب أن نناضل من أجل أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليل ساعات العمل دون تقليل الأجور، وتحقيق توزيع عادل للموارد، وتعزيز العدالة والمساواة... إلخ، بما يتيح للبشرية الاستفادة من التكنولوجيا دون الوقوع في فخ الاستغلال الرأسمالي.
لا يمكن فصل الصراع حول الذكاء الاصطناعي عن الصراع الطبقي الأوسع. لذلك، فإن المعركة ضد استغلال الذكاء الاصطناعي وعموم التكنولوجيا هي جزء مهم من النضال من أجل تحرر البشرية من الاستغلال الرأسمالي ككل. إن استعادة التكنولوجيا من قبضة رأس المال وتوجيهها نحو خدمة الجماهير وتحقيق العدالة الاجتماعية والبديل الاشتراكي ليست مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية تمليها التناقضات المتزايدة داخل النظام الرأسمالي نفسه. وهذا يجب أن يكون إحدى المهام الرئيسية للقوى اليسارية والتقدمية والحقوقية في العالم، وإلا فإننا سنواجه عهدًا جديدًا من العبودية الرقمية، إن لم نكن نعيشه بالفعل الآن! حيث تتحكم الطغم الرأسمالية في كل جانب من جوانب الحياة، من العمل إلى الفكر والوعي والحياة اليومية، مما يُعيد إنتاج الاستغلال الطبقي في أكثر أشكاله تطورًا وهيمنة.
الاستنتاجات
إن تحرير الذكاء الاصطناعي من قبضة رأس المال وتحويله إلى أداة في خدمة الجماهير هو جزء أساسي من النضال الاشتراكي ضد البنية الطبقية للرأسمالية. لا يمكن أن تُترك التكنولوجيا تحت سيطرة القوى المهيمنة التي تستخدمها لتعزيز الاستغلال الطبقي، بل يجب أن تخضع لرقابة شعبية ديمقراطية تُوجهها نحو تحقيق المساواة الاجتماعية، وتفكيك علاقات الإنتاج القائمة على الاستغلال، وبناء مجتمع اشتراكي ديمقراطي أكثر عدالة وإنسانية. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية غير محايدة، وبل ويتم توظيفه لتعزيز السيطرة الطبقية، وتقليص الحريات، وتوسيع الاستغلال. وكما كانت الثورة الصناعية سلاحًا بيد البرجوازية لتكثيف الاستغلال، فإن الثورة الرقمية اليوم تسير في الاتجاه نفسه، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة الاقتصادية، والسياسية، والفكرية.
المطلوب هو تطوير بدائل اشتراكية تقدمية تعيد توجيه التكنولوجيا لخدمة عموم الجماهير بدلًا من رأس المال. إن النضال من أجل دمقرطة وشفافية الذكاء الاصطناعي وتحريره من سيطرة الشركات الكبرى هو جزء لا يتجزأ من النضال الطبقي الأشمل ضد الرأسمالية. في الوقت الحالي، ينبغي على القوى اليسارية والتقدمية توظيف الذكاء الاصطناعي الحالي بوعي نقدي، وبشكل حذر ومدروس، ليس فقط لمواجهة الهيمنة الرأسمالية، ولكن أيضًا للمساعدة في لخلق فضاءات وامكانيات جديدة للمقاومة وتطوير الخطاب السياسي وآليات التنظيم. في نهاية المطاف، لا يتعلق الأمر فقط بالتكنولوجيا، بل بالصراع على مستقبل المجتمع الإنساني نفسه.
***********************************
لمن يرغب أو ترغب في التعمق في هذا الموضوع، يمكنه أو يمكنها قراءة الفصل الكامل أدناه، حيث يتم تحليل الجوانب المختلفة للذكاء الاصطناعي من منظور اشتراكي أكثر تفصيلًا، مع استعراض الآليات الرأسمالية للهيمنة الرقمية والبدائل التقدمية الممكنة.