مشروع طموح ببناء المتحف اليونانى الرومانى الكبير وإحياء المزارات السياحية وتخصيص مساحات للشواطىء الخاصة وربط السياحة السكندرية بكل من رشيد وفوة
هى فكرة طالما خطرت ببالى: إسكندرية يونانية رومانية إسلامية، ولكن كيف؟ منذ أن بدأ التطوير الحالى فى الإسكندرية والذى أثار انتقاد البعض، صممت على أن أزور المدينة الجميلة لأرى كل شىء بنفسى..مهما طال الزمن أو قصر ومهما طالتها التغييرات فإن الإسكندرية تظل الإسكندرية بموقعها الفريد بين جميع مدن البحر الأبيض، فليست هناك مدينة متوسطية ساحلية فى أوروبا أو الدول العربية تلتصق فيها المدينة بالبحر مثل هذا الإلتصاق..فى معظمها تجد مساحة طويلة بين العمران وشواطىء البحر إلا الإسكندرية التى جذبت بسحرها الجميع عبر العصور بسبب هذا التقارب بين اليابس والماء.
لن أطيل الحديث فى التاريخ..فلقد زرت الإسكندرية الشهر الماضى لاتفقد التغييرات الجديدة، وكنت قد انقطعت عن زيارتها قرابة العامين بسبب موجات الكورونا الحادة..كل ما كان يصلنى عنها مجرد أحاديث أو أخبار فى الصحف: مبان تسد كورنيش البحر واحتواء للشواطىء..والحق أن ما شاهدته لم يعطينى إلا جانبا محدودا من الحقيقة لأن أعمال التطوير لم تنته بعد..لكن ساد لدى الإنطباع أن المدينة القديمة تتحول شيئا فشيئا إلى مدينة سياحية تختلف فى طبيعتها عما ظلت عليه لعشرات السنين منذ بدء تحديثها فى بداية القرن العشرين.
المشكلة دائما تكمن فى أننا كمصريون لا نعتاد على التغيير بسهولة..ولكن طال الإسكندرية ما طال باقى أرجاء البلاد..ففى الماضى القريب لم يكن هناك مصيف أقرب وأروع من الإسكندرية..كان السكندرية ينتظرون قدوم فصل الصيف بفارغ الصبر لأنه كان الموسم الذى ينتعش فيه اقتصاد المدينة فى عصر ما قبل الانفتاح، لكن جدت فى الأمور أمر غيرت هذا الواقع:
*أولها الزيادة السكنية المخيفة والهجرات الداخلية إليها خاصة من مدن الصعيد.. ما حول المدينة وشواطئها إلى زحام لا يطاق حيث أصبح لا يوجد هناك موضع لقدم بالذات فى شهور الصيف. الانفجار السكانى يد بيد مع المصطافين حمل الإسكندرية فوق طاقاتها.
*ثانيها أن ظهر منافسون لها فى الساحل الشمالى ومدن البحر الأحمر اجتذبت طبقات معينة من الميسورين الذين هجروا الإسكندرية ولم يعد منهم من يفكر في زيارتها إلا بغرض سياحة اليوم الواحد.
*ثالثها: تآكلت الشواطىء بزحف مياه البحر التى هى بطبيعتها خطرة ولا تؤمن سباحة آمنة بعيدا عن الشاطىء فكان لابد من فعل شىء، فالاستثمارات مهما تضاعفت هناك تظل محدودة بالمقارنة بالقاهرة وبعض المدن الأخرى..فلم يبق خيار إلا تطوير المدينة سياحيا لكن على الطريقة العصرية بحيث تظل مزارا سياحيا طوال شهور السنة.
استحسنت رفع المصدات عند بعض الشواطىء وتحويلها إلى خلجان..ما يجعلها أكثر أمانا..كما استحسنت تطوير حدائق المنتزة حيث تم بناء جراج ضخم ومنع السيارات من دخول المنطقة التى كانت تكتظ سابقا بالحافلات وتفسد النزهة داخل المتنزة، ولكننى فى نفس الوقت استوحشت هذا الإهمال لمنطقة محطة الرمل التى هى قلب الإسكندرية التاريخى، فلقد أصبحت فى حاجة ماسة إلى التطوير بتحويلها إلى مماشى والحد من دخول السيارات إليها باستثناء عربات الأجرة وتحويل المرور عبرها إلى طرق أخرى.
نخلص من كل ذلك أن العصر الذهبى للإسكندرية كمصيف قد ولى وانتهى ربما منذ أكثر من عشرين عاما، لكن ظل الأمر مسألة وقت للإعتراف بذلك..فى بداية رصد الظاهرة لم يكن هناك حل للمصطافين وبعض أهالى المدينة سوى الهروب إلى الظهير البحرى للمدينة فى العجمى وأبو تلات وسيدى كرير وغيرها..ورغم خطورة البحر فى هذه الأجواء إلا أننا كنا نستمتع بمساحات كبيرة من الشواطىء البكر والجلوس تحت الشماسى فى الهواء الطلق..
لكن حتى خلو هذا الظهير لم يدم..فلقد إمتد العمران إلى العجمى وأصبحت ضاحية سكنية من ضواحى الإسكندرية..ثم شرعت الحكومة فى بناء القرى السياحية من الكيلو 40 (إن لم أكن مخطئا) حتى حدود مرسى مطروح وبذلك ضاع الأمل فى الاستمتاع ببحر الإسكندرية وضواحيها إلا فى النذر القليل من الأوقات المعتدلة الزحام عقب نهاية الموسم.
أقول هذا ولكن تبقى الإسكندرية هى الإسكندرية بمبانيها الكلاسيكية الساحرة وآثارها اليونانية الرومانية وروحها (الكزموبلوتانية) التى تثير نوستالجا الماضى الجميل..هناك قصر المنتزة ورأس التين وسرايات الأمراء والباشوات..قلعة قايتباى بجمالها الساحر حيث يتم عندها حاليا بناء كوبرى ذى طواب إسلامية..هناك المتحف اليونانى الرومانى الذى تم تجديده مؤخرا ولكنى أرى أنه أصغر بكثير من حجم المدينة وتاريخها التى كانت عاصمة أولى لكلتا الأمبرطوريتين...
أرى أنه يجب بناء صرح شامخ فوق هضبة عالية على غرار ( المتحف المصرى الكبير) لتجمع فيه الآثار الرومانية اليونانية من جميع أنحاء مدن الدلتا والفيوم والواحات لتودع فى هذا المتحف، فإنه وبلاشك لن يقل جاذبية وإزدهارا عن (الاكروبولس) فى أثينا.
من خلال تغطياتى الصحفية تعرضت لأحاديث متفاوتة عن مشروع متحف الآثار الغارقة فى الميناء القديم والذى لم ير النور بسبب التلوث المائى الذى أثبتت التجارب الأولية أنه يشوش على الرؤية تحت الماء.. ولما كان ذلك أمر مفروغ منه فقد تم انتشال بعض هذه الآثار وترميمها ويمكن أن تسهم فى إنجاز حلم ( المتحف اليونانى الرومانى الكبير)..هناك أفكار أخرى بشأن إنشاء مثل هذ المتحف فى أحواض ضخمة مزودة بالممرات اللازمة للمشاهدة.حقا هذا قد يكفى بجانب المسرح الرومانى وعمود الصوارى وكوم الشقافة ومكتبة الإسكندرية ما يجعلها تدخل فى منافسة حقيقة مع روما وأثينا ولكن ماذا عن الإسكندرية الإسلامية؟
الواقع أن آثار الإسكندرية الإسلامية تتمركز جلها فى مدينتى رشيد وفوة اللتان تبعدان مسافة لا تزيد عن 65 كيلومتر عنها.. ولو نظرنا إلى الأمر بحساب المسافات فإنها قد تساوى إلا قليلا المسافة بين هضبة الأهرام والقاهرة الإسلامية وربما أكثر لو حسبنا الوقت الضائع فى الزحام وإشارات المرور..السائح المصرى والأجنبى على السواء لا يعرفون الكثير عن رشيد أو فوة ويمكن إدخالهما فى خارطة السياحة السكندرية بعد إكتمال المنظومة..رشيد تزدهر بأكبر عدد من البيوت الإسلامية بعد القاهرة..علاوة على عدد هائل من المساجد والتكايا والأسواق ومتحف رشيد وقلعة قايتباى الرشيدية التى تشرف على مصب النيل فى البحر الأبيض..لقد تم تطوير المدينة إبان عصر مبارك الأخير وشيد فيها (فندق رشيد الدولى) وهو بناء عال مكون من عشرين طابقا..ما يدل على نية الشروع فى تحويل المدينة لمزار سياحى مزدهر..لكن خمدت الخطة عقب الاضطرابات التى سادت البلاد بعد ثورة يناير. ثم تأتى فوة على شاطىء النيل المقابل لرشيد و التى صنفتها اليونسكو على أنها رابع أكبر مركز للآثار الإسلامية فى العالم. مدينة صغيرة لا يزيد حجمها عن حى الزمالك القديم، لكنها تزخر بالمساجد والبيوت الأثرية والتكايا والزوايا الصوفية ومصنع الطرابيش الذى أسسه محمد على.
مع التغييرات التى تجرى الآن بالإسكندرية لا يمكن إهمال الإمتداد الإسلامى فى هاتين المنطقتين بالذات واللتين لا يمكن أن تزدهرا سياحيا إلا بربطهما بالسياحة السكندرية. المشروع طموح ومهم و لكن لابد من الانتهاء منه قريبا وجذب السياح له بدلا من رحلات اليوم الواحد فى الفنادق الكبيرة..لست أدرى لماذا تم السكوت عن هذا التطوير؟ ربما نقص الميزانية أو مشكلات الزحام أو تلك النبؤة المخيفة بسونامى الدلتا