عندما يحدث تغير في البيئة فإن الكائنات أمام ثلاثة خيارات: الأول هو الهجرة إلى بيئات جديدة والثاني هو التكيف والتأقلم الناتج عن تغير جيني (اصطفاء طبيعي) والثالث هو الإنقراض..
تفرض بيئة الحروب على النخب الفنية والثقافية والفكرية ما تفرضه على الكائنات أيضا من تلك الخيارات الثلاثة، وبدلا من الإنقراض أو إنعدام توافر مهيئات التكيف والتأقلم كتنافي المتطلبات الفكرية والثقافية للحروب مع المبادئ الثقافية والفكرية التي نشأت وترعرعت عليها تلك النخب، يبقى الخيار الوحيد والأكيد المتاح أمامها هو الهجرة والاغتراب، ليس فقط بالمعنى الشائع لهذا المفهوم وهو الذهاب بعيدا عن الوطن والتغرب عن بيئة تفتقر إلى السلام فهذا ما يتعذر هو أيضا على الكثيرين في أوقات الحرب، ولكن الهجرة أيضاً من ميادين الثقافة والفن والعلم والفكر إلى ميادين لقمة العيش الأخرى وولوج عوالم المهن الدنيا في المجتمع، ويحدث ذلك بسبب ظروف الحياة القاسية التي تفرضها بيئات الحروب، هذا النوع من الهجرات هي التي يجب الحديث عنها الآن فهذه الهجرة هي السبب في فساد الذوق العام والابتذال الحاصل في حقول الفن والفكر والثقافة نتيجة لصعود المفلسين ثقافيا وفكريا وثقافيا بعد غياب الأسماء المثقفة والمفكرة نتيجة لاغترابها وهجرتها إلى بيئات أخرى كما ذكرت.
الهجرة من الجامعة إلى المخبازة!
ومن تلك النماذج على هذا النوع من الهجرات الحاصلة كتلبية لدواعي البقاء وتأمين متطلبات الحياة ما تتداوله كثيرا مواقع السوشيال ميديا فنجد حديثا، مثلاً، عن أستاذٍ جامعي وحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة وبروفيسور في جامعة الحديدة ترك العمل الأكاديمي بعد غياب مرتبه بسبب دواعي الحرب وهاجر ليعمل حالياً خبازا في مخبز في الحديدة لكي يعول وينفق على أطفاله وأسرته بسبب إنقطاع راتبه منذ خمسة أشهر..
يقول الشاعر سامي أمين معلقاً على هذه الواقعة بأبيات شعرية شارحا واصفا حاله وحال معلمه: "ماذا أقول وقد رأيت معلمي ، في مطعم الخضراء يعمل طاهيا؟!، يا ليتني ما عشت يوماً، كي أرى، من قادنا للسُعد، أصبح باكياً.. لما رآني غض عني طرفهُ، كي لا أكلمُه، وأصبح لاهيا، هو مُحرجٌ ، لكنني ناديتهُ، يا من( أنرت الدرب) خلتك ناسيا! ، فأجاب مبستما، ويمسح كفهُ، اهلا بسامي ، مثل أسمك ساميا، إن كنت تسأل عن وجودي هاهنا، فالوضع أصبح بالإجابة كافياً..، قطعوا الرواتب يا بني وحالنا، قد زاد سوءاً ، بعد سوءٍ خافيا، الجوع يسكن بيت كل معلم، والبؤس درساً في المدارس ساريا، إن لمتني عن ما فعلت مصارحاً، فأليك أطرح يا بُنّي سؤاليا، إن عدت للتدريس، أين رواتبي؟، أو كيف أطعم يا رعاك عياليا ؟، أو كيف أدفع للمُؤجر حقهُ ؟، إن جاء يطلبني ويصرخ عاليا!، أو كيف أشرح للعيال دروسهم ، وانا أفكر كيف أرجع ماشيا ؟! . أو كيف أُعطي من تميز حقهُ، وانا افكر ما عليَّ وما ليا ؟!".
أستاذ جامعي في "معمل طوب" وآخر "مقوت"!
حالة أخرى هاجر فيها أستاذ الفلسفة بجامعة صنعاء الدكتور "جميل عون"، من العالم الأكاديمي وفضاءات العلم والمعرفة واضطُرته الحرب إلى ترك التدريس الجامعي للعمل في أحد "معامل الطوب"، من أجل توفير لقمة العيش لأطفاله، وقبله الدكتور عبدالله معمر الحكيمي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة، الذي أعلن توجهه لبيع القات، غير الذين لا يزالون يتضورون وأسرهم جوعاً من أساتذتنا في جامعة صنعاء وفروعها.
يقول الدكتور عون مبرراً إقدامه على ذلك العمل: "نحن موظفون، ونعتمد بشكل أساسي على الراتب الحكومي، وبعد أربعة أشهر من انعدام الدخل، استنفذنا كل الحلول، واستخدمنا مدّخراتنا، ووصل الأمر إلى بيع المجوهرات الخاصة بزوجاتنا".
وقد تفاجأت كل الأوساط بأعلان دكتور جامعي في أكبر الجامعات الحكومية باليمن، اللجوء إلى بيع "نبتة القات"، لكسب المال، بسبب توقف صرف مرتبات مئات الآلاف من موظفو الدولة.
وقال الدكتور عبدالله معمر الحكيمي، استاذ علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة صنعاء، إنه قرر العمل في بيع القات بسبب انقطاع راتبه..
وأضاف على صفحته في فيسبوك، "المرتب لم يصل بعد ... ولم نسمع تحديد ليوم متي سيصرف!! والبقالة أغلقت فعلا .. هروبا من الاحراج".
وتابع " لكني استلمت عملي الجديد مساعد لمهندس التنقيب عن النفط المهندس محمد الذي سبقنا في بيع القات منذ تسعة أشهر تقريبا يمكن استفيد منه في بيع القات وأصبح مقوت ناجح أخرج من التدريس بالجامعة".
المشكلة أنه بعد يومين من العمل في مصنع الطوب، تم تسريح "عون" من وظيفته الجديدة بسبب قلة الطلب على المنتج الذي امتهن العمل فيه حديثا، نظرا لتوقف حالة البناء.
يقول أحدهم مناشداً في منشور له معلقا على هذه الحادثة: "يا حكام صنعاء الجدد، كونوا ما شئتم، حوثيين، أنصار الله، لجاناً شعبية أو ثورية. تمذهبوا بما أردتم، ضموا أو سربلوا، ارفعوا صور من شئتم، وشعار من أردتم. لكن أن يصل الحال بأستاذ جامعي إلى أن يعمل في مصنع للإسمنت، ومع ذلك يفصل بعد يومين من ذلك لقلة الطلب، أن يصل الأمر بالأستاذ إلى أن يبيع القات، فهذه إدانة كاملة لعصركم، عصر الشعارات والصرخات والآيديولوجيات، والفساد والنهب، وقلة العقل والدين. ستقولون: "العدوان والحصار" هما السبب، وسنوافق على ذلك. لماذا إذن لا يتساوى الناس في آثار هذا "العدوان"، ولماذا تعج الأسواق بكل شيء يكذب رواياتكم عن "الحصار"؟ لماذا بنى الكثير منكم العمارات، واشتروا الأراضي والعقارات، وأسسوا الشركات الغازية والنفطية، وفتحوا فروعاً لهذه الشركات في عواصم عربية وعالمية؟ لماذا جئتم أمس من خارج صنعاء بملابسكم التي عليكم، واليوم أصبحتم تلعبون بالمليارات، بينما يذهب "عون والحكيمي" للعمل في سوق القات، ومصانع الطوب؟! لو كان الأمر بسبب الحصار كما تقولون، لما كانت الأسواق تعج بأنواع السلع من كل العالم. المشكلة ليست في انعدام البضائع، المشكلة في انعدام مرتبات الموظفين، التي أخذتموها منهم عنوة باسم "الجهاد"، أما الأسواق فتعج بما فيها. المشكلة ليست في انعدام البضائع، المشكلة في انعدام المرتبات... انعدام الضمير...".
مبتعثون تركوا طلب العلم وذهبوا يبيعون القات والمخدرات!
لم يقتصر الأمر على الداخل فقط فهاهم طلاب العلم المبتعثين إلى الدول الأوروبية والأجنبية يهاجرون أيضا بعد إنقطاع منحهم المالية من عالم طلب العلم والمعرفة إلى عوالم توفير لقمة العيش حتى ولو كانت في بيع القات والمخدرات، وفي أحد الأخبار التي تصدرت المشهد عنوانه يقول: "طلاب روسيا ينادون الحكومة: زميلنا يقبع في أحد السجون الروسية بين عصابات المافيا ومجرمي المخدرات"، وتقول المناشدة التي أطلقها الطلاب في روسيا لإنقاذ الطالب الذي ألقت السلطات القبض عليه: " زميلنا طالب عسكري اعتقل بتهمه تهريب القات بعد أن توقفت منحته بسبب الحرب وقد يصدر بحقه حكم لايقل عن 25 عام...".
الجدير بالذكر هنا أن القطاع المصرفي اليمني يعاني أزمة حادة في السيولة النقدية من العملة المحلية، منذ السنوات الأولى للحرب، أدت إلى عجز البنك المركزي اليمني عن تأمين رواتب موظفي الدولة للشهر الثاني على التوالي، كما فاقمت المعاناة المعيشية للناس.
وفي الأوضاع الطبيعية يتسلّم الموظفون في مؤسسات الدولة رواتبهم في الفترة بين 21 و25 من كل شهر وخصوصا الدواوين العامة للوزارات، لكن وبسبب الحرب، تسبب القرار الحكومي في نقل البنك من تحت قبضة سلطات الشمال، إلى الجنوب بعملية إرباك غير مسبوقة.
ويبلغ عدد موظّفي الدولة في القطاعين المدني والعسكري نحو 1.2 مليون، بحسب وزارة الخدمة المدنية في اليمن، فقد كان إجمالي الرواتب التي يتقاضونها شهريا نحو 75 مليار ريال يمني، بما فيهم منتسبي السلك العسكري.
ويخشى مراقبون من كارثة اقتصادية غير مسبوقة إذا استمر موظفو الدولة دون مرتبات، وتعرض ملايين الناس لأزمة حادة في الغذاء والمساكن التي كانت توفرها لهم تلك المبالغ.
وفي ظل المعاناة الكبيرة التي يتجرعها الآلاف من الموظفين اليمنيين هاجر الأكاديميون والمثقفون واهل والعلم والفكر والمعرفة للبحث عن أعمال أخرى لعلها توفر لهم لقمة العيش.
وفي منشور على مواقع التواصل الاجتماعي تعليقا على هذا النوع من الهجرات: "علَّمتنا الحرب أن شهاداتنا الجامعية لا قيمة لها. ستموت جوعا إن كان في يدك شهادة مدرس أو مهندس أو طبيب أو كاتب أو أستاذ جامعي...
على المدارس الحديثة أن تُخرِّج مِهَنيين أو أن تكون المهن في صُلب المناهج الدراسية. على كل طالب أن يتعلم السباكة والنجارة والطبخ وأعمال الورش المختلفة، وأن تكون لهذه المهن حصص أسبوعية. على الطالب أن يخرج مرة كل أسبوع على الأقل ليُنظف الشوارع وأن يعمل سباكاً وطباخاً... إلخ؛ كي يتعلم ألا يُقلل من شأن هذه المهن وأصحابها...
قولوا لأبنائكم أن يكونوا عمالاً بنائين فلاحين نجارين كهربائيين سباكين خياطين وطباخين وموسيقيين أفضل من أن يكونوا مهندسين أو أطباء أو طيارين..."