الكتاب : آلان تورين ، نقد الحداثة ،ترجمة أنور مغيث ، المجلس الأعلي للثقافة . عرض أ. د. مصطفى محمد رجب عن صحيفة الحرس الوطني
يحتل موضوع الحداثة موقعاً فكرياً بارزاً في عالمنا المعاصر، ويطلق مصطلح الحداثة بوجه عام على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم، ويشمل: الترشيد الاقتصادي والديمقراطية السياسية والعقلانية في التنظيم الاجتماعي، وهذه المسيرة قد أصبحت الآن محل مراجعة من جانب الفكر الغربي نفسه. وفي واحد من أحدث مطبوعات المشروع القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة (المصري) يتناول كتاب "نقد الحداثة "لـــ "آلان تورين" فكرة الحداثة، في شكلها الأكثر طموحاً التي تعني التأكيد على أن الإنسان هو ما يفعله. وقد جاء الكتاب في 477 صفحة من القطع المتوسط مقسم إلى ثلاثة أجزاء كل جزء يحوي عدداً من الفصول. وقد أراد المؤلف منذ البداية أن يتحرر من أسر المدرسة الفرنسية في السوسيولوجيا وريثة أوجست كونت ودوركايم التي كانت تدرس الظواهر الاجتماعية، متمثلة في القاعدة الأولى في منهج دوركايم، باعتبارها "أشياء" لها وجودها المستقل عن الأفراد، بل لها قوة إلزامية على الأفراد. في الجزء الأول "الحداثة المنتصرة" المقسم إلى ثلاثة فصول يتناول المؤلف الأيديولوجية الحداثية التي ترتبط بالصيغة، ذات الخصوصية التاريخية، للتحديث الغربي فهي لم تنتصر فقط في مجال الأفكار مع فلسفة التنوير فقد سادت أيضاً في المجال الاقتصادي، حيث أخذت صورة الرأسمالية وهي التي لا يمكن اختزالها إلى اقتصاد السوق وإلى الترشيد. يتعلق اقتصاد السوق بتعريف سلبي للحداثة، فهو يعني اختفاء أي إشراف كلي على النشاط الاقتصادي، واستقلاله عن الأهداف الخاصة بالسلطة السياسية أو الدينية وعن آثار التقاليد والامتيازات. أما عن الترشيد فهو عنصر لا غنى عنه للحداثة، فيتحدد النموذج الرأسمالي للتحديث على العكس بواسطة فاعل مدير هو الرأسمالي. بينما اعتقد سومبارت أن التحديث الاقتصادي قد أدى إلى تفكيك كل أشكال التحكم الاجتماعية والسياسية، وإلى فتح الأسواق وتقدم الترشيد أي إلى انتصار الربح والسوق. وعن النزعة التاريخية يتحدث المؤلف في النتيجة الرئيسية للتحديث الاقتصادي المتسارع التي كانت تغيير مباديء الفكر العقلي إلى موضوعات اجتماعية وسياسية عامة . فبينما كان القادة السياسيون والمفكرون الاجتماعيون في القرن السابع عشر مشغولين بالنظام والسلام والحرية في المجتمع، انشغل المفكرون طوال القرن التاسع عشر وجزء من القرن العشرين بتحويل القانون الطبيعي إلى إرادة جماعية، وتمثل فكرة التقدم أفضل تعبير عن هذا التسييس لفلسفة التنوير. وكما يقول المؤلف فإن واجب المثقفين الأول اليوم هو أن الثورة كانت دائما نقيض الديمقراطية. إن الحداثة ليس هي انتصار الواحد ولكن اختفاؤه وتأسيس إدارة العلاقات المعقدة والضرورية بين التحديث وبين الحرية الفردية والجماعية. وبعد هزيمة الفكر المسيحي والحق الطبيعي أمام فلسفة التنوير، ما هو شكل العودة للذاتية تلك العودة التي ينبغي لها أن تعقب النزعة التاريخية؟ ولمثل هذه الصيغة ميزتان: الأولى هي أنها تضعنا اليوم على مسافة متساوية من الفكر في كل من القرنين الماضيين وتجبرنا على الاعتراف بكل من نداء العقلانية وتحرير الذات الشخصية. والثانية هي أن نقبل وضع تأملاتنا - على حد تعبير المؤلف - في سياقها التاريخي، ليس بالقطع في صورة تدرج مراتبي لأشكال التحديث أو لمراحل النمو الاقتصادي، ولكن في بحث عن أشكال من التدخل يجريها المجتمع على ذاته ويمكنها أن تدعو إلى تحديد جديد للعلاقة بين الفعالية والحرية. أعطت الحداثة الأولوية لعملية تدمير الماضي وللتحرير وللانفتاح. ثم أعطت فلسفات التاريخ والتقدم محتوى وضعياً للحداثة. وفي الجزء الثاني "الحداثة في أزمة" يتحدث عن مراحل الأزمة، فبقدر ما تنتصر الحداثة تفقد قدرتها على التحرير؛ فدعوة التنوير مؤثرة عندما يكون العالم غارقا في الظلام والجهل، وفي العزلة والعبودية. لا مفر من النفاذ لفكرة الحداثة، لأنها لا تتحد كنظام ولكن يمكن تعريفها، باستعارة تعريف "شومبيتر" للرأسمالية كحركة للتدمير الخلاق، الحركة تجذب من كانوا قابعين في السكون، وتؤدي للإرهاق والدوار إذا كانت مستمرة ولا تسير إلا بتسارعها الخاص. ولأن فكرة الحداثة نفسها هي فكرة نقدية وليست فكرة بناءة فهي تنادي بنقد مفرط في الحداثة. وهو ما يحمي من الحنين إلى الماضي الذي نعرف كيف ينقلب بسهولة إلى مسار خطير. وفي نقده للحداثة يقول المؤلف: إذا كان الفكر الحداثي، سواء في صيغته الليبرالية أو في صيغته الماركسية، يقوم على تأكيد الصلة بين تحرير الفرد والتقدم التاريخي معا وهو ما وجد تعبيرا له في الحلم بخلق إنسان جديد في مجتمع جديد، فإن نيتشه وفرويد قد حطما فكرة الحداثة، فلا يوجد هناك مبالغة في الإقرار بأن هذا التحطيم للحداثة كان نهائياً وأنه ما زال على قوته كما كان في نهاية القرن التاسع عشر، خاصة أن الفترة الكبرى للنمو الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية قد أدت إلى بعث فلسفات التقدم. وقد أدى تأثير الحزب الشيوعي وخصوصاً في فرنسا إلى الاحتفاظ بمذهب التقدم يغلب عليه الطابع الأيديولوجي، إلا أنه لم يكن قوياً لدرجة تولد الثقة في المستقبل، بل على العكس لقد مارس تأثيراً وهو التنديد بالأزمة العامة للرأسمالية وبالإفقار النسبي، بل والمطلق وهو ما قضى على الفكر الاشتراكي الذي كانت الثقة في الطبقة العاملة الثورية بالنسبة له لا يمكن لها أن تنفصل عن الاعتقاد في الحركة الطبيعية للاقتصاد وعن مزيد من إضفاء الطابع الاجتماعي للإنتاج. ثم يتناول المؤلف مخارج من الحداثة لم تسد فكرتها إلا قبل بناء المجتمع الصناعي، كان النضال ضد الماضي وضد نظام الحكم القديم والاعتقادات الدينية، والثقة المطلقة في العقل يعطي للمجتمع الحديث قوة وتماسكاً، سرعان ما زالا عندما حلت الخبرة محل الأمل، وعندما أصبح المجتمع الحديث واقعاً وليس فقط النقيض للمجتمع الذي أريد تدميره وتجاوزه. إن تاريخ الحداثة هو تاريخ انبثاق الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين الذي تخلصوا تدريجياً من الإيمان بالحداثة كتحديد ملموس للخير. فقد كان المثقفون بعد نيتشه وفرويد هم أول من رفضوا الحداثة، وكان التيار الأكثر تأثيراً في الفكر الحديث من هوركهايمر وأصدقائه في مدرسة فرانكفورت إلى ميشيل فوكو، قد ذهب بنقد الحداثة بعيداً، وانتهى بأن عزل المثقفين تماماً عن المجتمع الذي كانوا يصفونه باحتقار كمجتمع جماهير. إن القرن العشرين هو قرن سقوط الحداثة حتى وإن كان هو قرن غزو التكنيك، ويسود الحياة الثقافية اليوم الرفض العنيف والمتأخر للنموذج الشيوعي الذي كان الأمل الكبير لهذا القرن، ليس فقط للمناضلين العماليين أو للحركات المعادية للاستعمار، ولكن لعدد كبير من المثقفين. ويسودها أيضاً رفض كل فكر التاريخ، كل تحليل للفاعلين التاريخيين ولمشروعاتهم، ولصراعاتهم وللشروط وللديمقراطية للمواجهة بينهم. يميل العالم الغربي في غمرة نشوته بانتصاره السياسي والأيديولوجي إلى الليبرالية، أي إلى استبعاد الفاعلين وإلى اللجوء إلى مباديء كونية للتنظيم، التي يطلق عليها، حسب مستوى التعليم: النشاط المهني للأشخاص المعنيين، المصلحة أو السوق أو العقل. عالم اليوم الذي تراه بعض العقول موجوداً حول قيم "غربية" انتصرت على الفاشية والشيوعية وقومية العالم الثالث، إنه هو في الواقع ممزق بين العالم الموضوعي والعالم الذاتي، بين النظام والفاعلين. نرى منطق السوق العالمي ينتصب مواجهاً منطق السلطات التي تتحدث عن الهوية الثقافة. فمن جانب يبدو كلياً، ومن جانب آخر تبدو التعددية الثقافية بلا حدود. كيف لا نرى في هذه التمزقات الشاملة تهديداً مزدوجاً لكوكبنا؟ وبينما يستحق قانون السوق مجتمعات وثقافات وحركات اجتماعية، ينغلق هوس الهوية في تعسف سياسي شامل لدرجة أنه لا يستطيع البقاء والاستمرار إلا بالقهر والتعصب. وليس التأمل في تاريخ الأفكار فقط هو الذي يدعونا إلى إعادة تحديد الحداثة، إن المواجهة المكشوفة بين ثقافتين ونمطين من السلطة هي التي تجبرنا على أن نجمع ما انفصل دون الرضوخ للحنين للوحدة المفقودة للكون. وفي الجزء الثالث "ميلاد الذات" يرى المؤلف أن انتصار الحداثة العقلانية قد رُفض أو نُسِي، أو حُبِس في مؤسسات قهرية، كلما بدا أنه يقاوم نتصار العقل، وماذا لو كان صلف رجل الدولة والرأسمالية، بدلاً من أن يخدم الحداثة يكون قد بتر جزءاً ربما هو الجوهري فيها، تماماً كما تدمر الطلائع الثورية الحركات الشعبية للتحرير بصورة انجح وأوثق من أعدائها الاجتماعيين والقوميين؟ فعلينا ألاّ نتأخر في إغلاق بعض الطرق التي تؤدي إلى إجابات زائفة، وأولها طريق العداء للحداثة. يقبل العالم الحالي فكرة الحداثة ويدعو إليها. يوجد فقط بعض الأيديولوجيين وبعض المستبدين يدعون إلى الجماعة المنغلقة على تراثها وأشكال تنظيمها الاجتماعي ومعتقداتها الدينية. لقد صارت كل المجتمعات تقريباً مخترقة. والطريق الثاني الذي يجب علينا تجنبه هو ذلك الطريق الذي تشير إليه صورة "الإقلاع"، فقد كان الدخول في الحداثة يفترض جهدا، وانتزاعا من أرض التراث. ثم بعد مرحلة من الأعاصير والأخطار، يصل إلى سرعة رتيبة واستقرار يسمح بالاسترخاء وبنسيان حتى نقطة الرحيل ونقطة الوصول وبالاستمتاع بالتخلص من الأعباء العادية. وهناك طريق ثالث مسدود، وهو الذي يطابق بين الحداثة، والفردية، بين الحداثة والقطيعة مع النظم التي يسميها لويس دومون كلية. إن الصورة المنظورة للحداثة اليوم هي صورة الفراغ، صورة السيولة الاقتصادية، وسلطة بلا مركز، وصورة مجتمع بلا فاعلين. هل يمكن لنا أن نطلق كلمة فاعل على من يسلك طبقاً للعقل أو لاتجاه التاريخ ذي البراكسيس غير الشخصي؟ ألم يسقط لوكاتش في المفارقة عندما رفض أن يعتبر البرجوازية فاعلاً تاريخياً لأنها تنظر إلى نفسها وتهتم بمصالحها لا بعقلانية التطور التاريخي كما هو الحال مع البروليتاريا؟ وفي المقابل هل يمكن أن نعتبر العميل المالي أو الرأسمالي الذي يستطيع أن يتعامل مع الظروف ويقرأ مؤشرات السوق فاعلاً؟ بالنسبة للفكر الحديث يعتبر الوعي دائماً وعياً زائفاً. وقد حبذت المدرسة العامة في فرنسا، التي تمثل تعبيراً متأخراً ومتطرفاً للأيديولوجيا الحداثية المعروفة العلمية، تشكيل الشخصية. ينطوي اليوم جزء من العالم على البحث عن هويته القومية أو الجمعية أو الشخصية والدفاع عنها، في حين أن جزءاً آخر على العكس، لا يؤمن بالتغير ولايرى العالم إلا كسوق ضخم تظهر فيه المنتجات الجديدة بلا توقف. ويعتبر العالم بالنسبة للبعض مؤسسة إنتاجية أو مجمع إنتاج، في حين أن البعض الآخر يجذبهم في نهاية الأمر ما هو غير اجتماعي، أي ما يطلق عليه الوجود أو الجنس. في قلب الشذرات المحملة بالقيم المتعارضة للحياة الاجتماعية ينهمك في العمل جماعات كالنمل مقيدة بالعقلانية التقنية: منفذون، موظفون، فنيون، ذوو مراكز عليا أو دنيا... يدور كل شيء حول انشغالهم بغايات عملهم. إن الحداثة الجديدة تجمع ما بين العقل والذات، كل منهما يندمج بالآخر كعنصرين متحدين ضمن العناصر الثقافية للحداثة المنفرطة. إن الحداثة التي كانت قد كتبت وأسقطت نصف حصيلتها بتطابقها مع نموذج غازي وثوري في التحدث، نموذج الصفحة الجديد الذي يلغي الماضي... يمكن لها أخيراً أن تجد نصفها الآخر، والحداثة ليست إلا علاقة وتوتر بين العقلانية والذاتية، بل إن غياب مثل هذا الاندماج بين هذين المبدأين أمر أساسي لتعريف الحداثة ولاستبعاد فكرة المجتمع وهدمها، ويستبدل بها فكرة التغير الاجتماعي. وأخيراً فإن هذا الكتاب من الكتب المهمة. وترجع أهميته إلى أنه لا يتعرض لجانب واحد لهذا الفكر ولكن ينظر إليه من زوايا مختلفة، ولذا نجد أن العرض النقدي الذي يقدمه تورين يشمل الفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة السياسية وفلسفة التاريخ وعلم النفس. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب بالنسبة للقاريء العربي إذ يمكنه أن يلم إلماماً شاملاً بكافة أبعاد أشكال الحداثة المطروحة الآن على الساحة الفكرية، كما أن الكتاب يزود القاريء بنظرة جديدة إلى الفكر الغربي وذلك لأن تورين، في عرضه النقدي الواسع لتطور هذا الفكر، لم ينشغل بالكشف عن صواب فكرة ما وخطأ أخرى، وإنما يتناول الموضوع من خلال مبحث تاريخ الأفكار، وهو المبحث الذي يعنى بالكشف عن سياق ظهور الفكرة وازدهارها وأفولها وعن وظيفتها الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة. وجدير بالذكر أن هذه الأفكار لم يقتصر دورها على المجتمع الغربي وحده وإنما امتد تأثيرها إلى العالم بأسره، ومما لا شك فيه أن هذا المنظور الجديد للفلسفات والنظريات الغربية بالغ الأهمية للقاريء العربي، خاصة أن مجتمعاتنا تضع استكمال عملية التحديث على رأس أولوياتها. ولقد ساهم مترجم هذا الكتاب بالفعل في تزويد المكتبة العربية بكتاب يلقي مزيداً من الضوء على ما يعتري الفكر من مشكلات في بداية الألفية الجديدة