سمعت من وسائل الإعلام عن عرض فيلم (نابليون) للمخرج "ريدلى سكوت"..بالطبع لفت نظرى الخبر..واتصلت بالسينما القريبة منى فعلمت أنه لم يتبق للفيلم سوى يوم واحد فى أغلب دور العرض رغم اطلاقه منذ أقل من شهر..ما دل على أن العمل لم يلق رواجا من قبل المشاهد المصرى..لماذا!
قطعا لا تأتى الإجابة إلا بعد المشاهدة، فعمل سينمائى عن نابليون كان ولا يزال يستهوى الجمهور المصرى لارتباطه بالحملة الفرنسية على مصر ودورها فى وضع خريطة تطوير البلاد التى قام بتنفذها محمد على الكبير فيما بعد. وما زاد من فضولى لم يكن غير متابعتى حاليا لمسلسل (نابليون والمحروسة) الذى يذاع حاليا على قناة (روتانا دراما) حيث أنه سرد مفصل لأحداث الحملة الفرنسية لم يسبقه غير مسلسل تلفزيونى تم إخراجه منذ التسعينيات من بطولة الفنان سمير حسنى..ثم أتى مؤخرا مسلسل (سره الباتع) من إخرج خالد يوسف.. شاهدت قبل كل هذا وذاك "البست سيلر" الفيلمى (نابليون وجوزفين) فى أربع أجزاء.
وربما يكون هناك أعمال درامية عن القائد الفرنسى التى لا أعرفها من زمن الابيض والأسود..المهم ذهبت لأشاهد إبداع سكوت وكلى فضول: فما الذى يقدمه فيلمه(نابليون) بعد كل ذلك! الحق أن الفيلم يعرض رؤية مختلفة تماما عما سبقه رغم ضمور شعبيته..على مدى ساعتين ونصف الساعة دارت أحداث العمل فى جو معتم تسوده أضواء الشموع الخافتة وغيوم أوروبا الشتوية.. بوقع بطىء يتأرجح بين الملل والإثارة تتطلب المشاهدة عين يقظة وذهن متقد لأنه ليس ككل الأعمال التى عرفناها عن الجنرال الشهير..فلو قدم "سكوت" الحملة الفرنسية على الذوق المصرى أو الحروب النابليونية كما فى الدراميات السالفة لم لفت نظرى، فلقد عمد المخرج الإنجليزى إلى أن يقدم تحليلا سيكولوجيا لشخص القائد الفرنسى والذى يعتبر إحدى الشخصيات التاريخية فى العصر الحديث الأكثر قابلية للجدل: مزيج من البطولة والتفوق العسكرى، الطموح المفرط والأنانية المدمرة والضعف العاطفى والتحول من الغرور إلى الإنكسار..ثم من الإنسكار إلى القوة..شخصية لا تعرف الهزيمة وتتحدى الفشل حتى ولو كانت نتائجه كوارث لا تغتفر.
طبعا لم يهمل المعارك، فلقد شاهدنا مواقع حربية لم نكن نعرف عنها الكثير مثل موقعة "اوستراليتز" أو "الأمبراطوريات الثلاثة": فرنسا وروسيا والنمسا حيث خاضت الأخيرتان الحرب ضد نابليون الذى قتل أعدادا كبيرة من جنودهم وأمر عسكره بتكسير جليد البحيرات عند انسحابهم فرأينا مشاهد مروعة عندما انكسر الجليد وغرق الجنود فى مياه قارسة البرودة..ثم جاء غزو روسيا وحصار موسكو التى هجرها أهلها عند دخول الفرنسيين فغدت مدينة أشباح، فلم يجد القائد من يقاتله واضطر إلى العودة مع حلول الشتاء ليدهم البرد القارس جيشه وتهلك أعداد كبيرة فى صحراء جليدية شاسعة.. وأخيرا معركة "واترلو" التى شنها بعد أن فر من منفاه فى جزيرة "ألبا" وعادت شعبيته بالتفاف مؤيديه حوله ليواجهوا الائتلاف السابع والأخير الذى نفى بعده إلى جزيرة "سانتا هيلينا" ومات هناك عام 1821.
كان هذا الجزء العسكرى الذى لا نعرف عنه الكثير كجمهور عربى عام ربط نابليون فقط بالحملة على مصر، لكن فى (نابليون) لسكوت لم يتعرض لها إلا فى مشهدين: الأول عندما وقف أمام الأهرامات ونطق عبارته الشهيرة "إن أربعين قرنا ينظرون إليكم من قمة هذه الأهرامات" والثانى حينما دخل على (كليبر) خيمته يخبره بقراره بالعودة إلى فرنسا سرا حينما شعر بقرب فشل الحملة عقب تدمير أسطوله فى موقعة أبى قير البحرية وسماعه بخيانة جوزفين وكأنه تلقى هزيمتين فى آن واحد.
لكن ما خرجت به من الفيلم كان عدة ملاحظات أظنها وجيهة..
أولا: أن الشعب الفرنسى الذى تحول من الملكية إلى الجمهورية لم يستطع تغيير طبيعة الحكم الملكى فى فرنسا بهذه السرعة، خاصة وأنه لم يكن هناك نموذج للجمهورية فى أوروبا وسائر قارات العالم. فى المشهد الأول من الفيلم رأينا الملكة مارى أنطونيت تساق وسط جمع حاشد إلى المقصلة بينما وقف النقيب نابليون يراقب المشهد فى تشف وفرح وكأن بإعدامها زالت الملكية إلى الأبد: غير صحيح على الإطلاق..فهناك من حاولوا فرض الديكتاتورية الملكية دون أن يكونوا ملوكا من أمثال روبسبير الذى أعدم بعد أن راح ينكل بأنصار الملكية تنكيلا عندما انقسمت فرنسا بين الملكيين ونظرائهم الجمهوريين. وبعد شد وجذب شاءت الأقدار أن يصبح النقيب نابليون ليس ملكا فقط بل إمبراطورا! والسبب: لم يكن هناك من يسد فراغ الملك ولم يكن الشعب قد فطم من طبيعة الحكم الملكى.
لقد خشت أوروبا وخاصة بريطانيا أن يمتد تيار الثورة إليها وإلى بقية ملكيات القارة العجوز فراحت تضع الخطط لغزو فرنسا..حاصرت ميناء طولون لتنفذ منه إلى سائر البلاد لكنها هُزمت بفضل عبقرية النقيب نابليون العسكرية وبراعته، إذ نفذ تكتيكا خبيثا تخلص به من الإنجليز فى غمضة عين فرُقى من نقيب إلى جنرال..ثم كُلف بقيادة الحملة على مصر ولما أحس ببوادر الفشل عاد إلى فرنسا فأُتهم بالهروب من الخدمة لكنه علل عودته بتلقيه أنباء عن ائتلافات أوربية شكلت لغزو فرنسا فراح يعوض إخفاقه فى مصر بغزو بلدان أوروبا شرقا وغربا محققا نجاحا أذهل القارة كلها وأخافاها فى آن واحد..ارتفع نجمه فى فرنسا التى كانت ما تزال تعانى من فراغ فى الحكم فلم يكن هناك مرشح خير من البطل الذى توج إمبراطورا وزوجته جوزفين إمبراطورة..مما لا يدع مجالا للشك أن الملكية عادت فى ثوب عسكرى..وما أشبه ذلك بما حدث عندنا فى عالمنا العربى.
ثانيا: ركز الفيلم كما لم تركز الأعمال السابقة على تعلقه السيكولوجى العاطفى بجوزفين التى شعرتُ أنها كانت له الحبيبة والأم فى نفس الوقت..تشاركه أفراح النصر ومرارة الهزائم..يرتمى فى أحضانها وتظل روحه معلقة بها على غرار (كاترين) و(هيث كليف) فى رواية (مرتفعات وازنج)..سكنت روحها كيانه وغدا يناجيها حتى أخر لحظات حياته..كانت جوزفين من أنصار الملكية..أرملة قتل زوجها بيد الغوغاء الجمهوريين وصودر سلاحه..فارسلت إليه ابنها يطلب سيف أبيه لأنه كان أخر ذكرى منه..فلما أجاب طلبه صحبه إلى منزله فرأى جوزفين، فتن بها ووقع فى غرامها وتزوجها. علاقته بها تستحوذ على كثير من قراراته وسلوكياته من خلال الأحداث..فخيانتها كانت سببا مستترا وراء عودته من مصر ولم يخف ذلك فلقد برر للمجلس الحاكم رجوعه بأنك: "الحملة على مصر مصيرها الفشل..وفرنسا أصبحت مستهدفة من أوروبا دون أن تجد من يدافع عنها واكتشفت أن زوجتى عاهرة..."
اعتذرت جوزفين عن خيانتها فشرع يحتضنها قائلا: "إنك لا تساوين شيئا بدونى..اعترفى بذلك.."..ثم نراها فى موقف أخر عندما استبد به الضعف بين أحضانها وهى ترد الصاع صاعين فتقول: "أيها الجنرال..إنك لا تساوى شيئا بدونى..اعترف بذلك.."، وطبعا كانت كلمات مثيرة للدهشة عندما يعترف القائد بضعفه النفسى أمام إمراة..لكنها لم تكن أى إمراة..إنها جوزفين التى ملكته مرة بالحب ومرة بالسخرية و حتى أكثر من مرة بالخيانة..كانت "موتيفا" تكررت طوال الفيلم لتعرى ضعف الجنرال القوى ثم تضجره من سطوتها عليه حتى أنه صفعها فى الكنيسة أمام الناس عندما سخرت منه أثناء مراسم الطلاق..علاقة متشابكة ومعقدة ظلت تسكنه حتى بعد أن ماتت جوزفين بالسل..
لقد حاول إنجاب ولى العهد منها على عادة الملوك..أى ثورة! وأى جمهورية!!..لكنها كانت تكبره بأعوام فلم تستطع فظل الشك يراوده بأن العيب قد يكون منه لكنه قطع الشك باليقين حينما أتت إليه قوادة بعاهرة وأدخلته عليها فحملت بعد فترة قصيرة جدا..جاء بالطفل فأودعه بين يدى جوزفين وكانا قد افترقا للابد! الحق لا أعلم مدى صحة هذه الحادثة وماذا كان مصير هذا الطفل لكن تقول المراجع التاريخية أنه أنجب ولده الأوحد نابليون الثانى من (مارى لويز) ابنه امبراطور النمسا والتى رفضت أن ترافقه إلى منفاه، ولم ير ابنه حتى مات فلم يكن رفيقه فى المنفى غير روح جوزفين..علاقة لم تتعرض لها سائر الأعمال عن نابليون بهذا العمق.
ثالثا: رغم غضب أوروبا على نابليون وإبعاده، إلا أن الملكية استمرت نتنصيب ابنه ملكا على فرنسا وأن الملكيات اللاحقة المتمثلة فى عهدى نابليون الثانى والثالث لم تصلح أحوال العامة فظلوا فريسة للفقر والجوع والمرض حتى أن مفكرين أمثال فيكتور هوجو تسألوا عن فائدة التقدم العلمى والثورة الصناعية إذ لم تنقذ هؤلاء البؤساء ممن هم فيه من ظلم وفقر وعوزة، فلم يكن هناك سبيل لإنقاذهم إلا توجيه العامة إلى المستعمرات بعد أن انتزعت من أهلها على طريقة نابليون الدموية ولعل كان أوضح الأمثلة فى الجزائر التى ظلت ترزح تحت حكم المستعمر لأكثر من قرن، فلقد تبدل حكم التوسع النابليونى داخل أوروبا بنظيره فى أعالى البحار، وبذلك انطوت صفحة الجنرال الأسطورى وبقى صعوده وسقوطه حديث الناس إلى يومنا هذا. لكنه بقى مثلا أعلى لكل ديكتاتور، فحذا حذوه هتلر الذى عشقة وسار على دربه حتى أنه صاحب الفضل فى نقل رفاته بعد أكثر من قرن من (سانتا هيلينا) إلى فرنسا عندما احتلها إبان الحرب العالمية الثانية ليرقد جثمانه إلى جوار عظماء فرنسا.