مي زيادة المفترى عليها

مقال بعنوان " الجبار الذي أذله الحب.. العقاد عاشقًا " بقلم الأستاذ صلاح البيلي، في ملحق جريدة الأهرام، عدد الجمعة  ٢٨ يونيو ٢٠١٩، احتفالًا بمرور ١٣٠ عامًا على ميلاد العقاد (١٨٨٩ – ١٩٦٤).

وكعادتنا في إحياء ذكرى الأدباء والمشهورين؛ جاء الاحتفاء بالأديب بالكشف عن أسرار عشقه لسيدة القلم وفريدة العصر ونادرة الدهر والدرة اليتيمة وأميرة النهضة الشرقية وأميرة البيان النابغة الأديبة الأنسة مي. لست أنا من اخترعهذه الألقاب وإنما تُوِجَت بهم ماري إلياس زيادة وشهرتها ميّ (١٨٨٦ – ١٩٤١) من رجالات الفكر والأدب إبان عصر النهضة المصرية.
جاء مع العنوان الرئيس للمقال عنوانًا آخر " أحبته وبكت بالدموع يوم جفاها ولكن كبرياءه أبي أن يقبل القسمة في الحب"! وأسرد الكاتب كمًا من المغالطات التاريخية والأدبية والأخلاقية ألزمتني التصدي لها، لا لصلات دم أو نسب بيني وبين ميّ والعقاد، فإن أول من خان ميًا كان ابن عمها د. جوزيف زيادة وأول من تاجر بأسرار العقاد بعد وفاته هو ابن أخيه عامر العقاد في كتابيه "لمحات من حياة العقاد المجهولة" عام ١٩٦٨، وكتاب "غراميات العقاد" عام ١٩٧١!
إنما الدافع أدبي محض وروحي صرف، فأنا من عشاق مي، وقرأت "كل كتبها وما كُتِب عنها"، والسيَّر الذاتية لأهم الشخصيات التي أحاطت بها كأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد (١٨٧٢ – ١٩٦٣) والعقاد وطه حسين (١٨٨٩ – ١٩٧٣) ومصطفى صادق الرافعي (١٨٨٠ – ١٩٣٧) ومؤلفاته رسائل الأحزان ١٩٢٤والسحاب الأحمر ١٩٢٥ وأوراق الورد ١٩٣١. ورأيت أن كُتابًا لهم حظٌ وفيرٌ من الشهرة لكنهم أرادوا التربح مستغلين مأساة سيدة قدمت الكثير للأدب العربي، مع حضور طاغٍ لها منذ أوائل القرن العشرين وحتى نهاية الثلاثينيات. لا المأساة التي مرت بها ولا الموت استطاعا أن يمحيا أثرها منذ ما يقرب من ثمانين عامًا. ماتت ميّ وحيدة حزينة ناقمة على الشرق وعلى الأصدقاء الذين تخلوا عنها وقت أزمتها.
تقول مي: " أنا امرأة من حيرة، وانتظار لا أعرف مؤداه، وخوف من مُبهَمٍ يُسَطِرهُ الآخرون لي" وتتحدث عن نفسها من بعيد وعن كل من ظلمها وآذاها فتقول: " إنهم يكرهونها لأنها امرأة شرقية غادرت نهائيًا شرنقة اليقين والاستسلام"، وتقول: " أنا ميّ؛ أشهد أنني لم أكن سهلة، ولست سهلة ولن أكون سهلة حتى الموت". ولأن مأساتها تكمن في نبوغها وعبقريتها، ولأنها تعلم نفوس البشر فقد قالت: " أتمنى أن يأتي من بعد موتي مَنْ ينصِفُني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شئ حسن وصالح وجميل، لأنه كذلك؛ لا رغبة في الانتفاع به"!
صدق حدس ميّ؛ فكم خاض من الكتاب في عرض ميّ وفي عقلها وهما أثمن ما لديها! وقرأت أكاذيبهم في حياتها، وكان أشدها وقعًا على نفسها كتاب " حياة الرافعي" عام ١٩٣٧ للأستاذ محمد سعيد العريان (١٩٠٥ – ١٩٦٤) ونشره بعد وفاة الرافعي بعدة أشهر، وإدَّعى من الأكاذيب ما دفع الدكتور زكي مبارك (١٨٩٢ - ١٩٥٢) إلى التصدي له، فأرسل إلى فؤاد حبيش صاحب "المكشوف" خطابًا مفتوحًا من بغداد وكان يُدَرِس في جامعتها قائلًا: "أنت تعرف أني لا أبالي المعارك الأدبية، ولكن موقفي من هذه المسألة دقيق لأني قد أتهم الرافعي رحمه الله بالتزيد وسوء الأدب، إن صحت رواية العُريان. لكن القول بأن ميّ أحبته وأُغُرِمت به وتهافتت عليه كلام لا يقول به إلا إنسان مَخبول،.. أعذرني أيها الصديق إذا طَويتُ ما أعرف من شؤون الأنسة ميّ، وقد صحبتُها أربع سنين في الجامعة المصرية يوم كانت أطيبُ من العطر وأرقُ من الآملود المطلول، وغضبة الله على الأدب والأدباء إذا استطاعت الألسنة أن تمضغ ذلك العرض النبيل".
زكي مبارك واحدٌ من الذين أحبوا ميّ، أخبرتنا بذلك كريمته في مجلة "الثقافة" عدد يناير ١٩٧٧: " أحَب والدي ميّاً هو الآخر، لكنه أخفق في حبه لأنها كانت تحب جبران فقط"!
تلقت ميّ طعنة أخرى من صديقٍ وقفت بجانبه ولم يحفظ جميلها، الأستاذ سلامة موسي (١٨٨٧ – ١٩٥٨) الذي أسس عام ١٩١٤ مجلة "المستقبل" وأغلقتها الحكومة المصرية لدعوتها إلى الإلحاد، ففتحت له ميُّ أبواب جريدتها "المحروسة" رغم البون الشاسع بين أفكاره ومُعتقداتها، كما منحته شرف وضع مقدمة لكتابها "بين الجزر والمد" عام ١٩٢٤.
قال سلامة موسى في كتابه " تربية سلامة موسى" عام ١٩٤٧: "قد زاملتني ميّ في الصحافة"، لكنه لم يرع للزمالة حرمة وفضح حقده وغيرته قائلًا: "رأيتها في أحد الأيام متبذلة، بل في رثاثة شاذة، وهي تحمل "كرنبة" كبيرة، وتسير بها نحو بيتها وأنها صامت عن الطعام في أيامها الأخيرة، فكانت تبول وتتغوط في أنحاء المسكن وعلى الفراش والأثاث وماتت جُوعًا، وإن لم تحس أنها ماتت جائعة"! أي صداقة تلك؟ لقد احتفظت مي برجاحة عقلها حتى ماتت، وروايته تتعارض أيضًا مع الذوق والأخلاق!
نأتي إلى مقال الأستاذ صلاح البيلي، وهي تحتاج إلى مراجعات كثيرة لتستقم، إحقاقًا للحق ومُراعاة للأمانة التاريخية.
يقول الأستاذ صلاح:
١) "إن ما يفسر لون بشرة العقاد هو أن والده من دمياط".
وغالبية الشعب المصري تميل بشرته إلى السُّمرة، ولون بشرة العقاد يعود لوالدته. استوطنت عائلتها ديار بكر ثم رحلوا إلى السودان، وفي كتابه "أنا" يقول العقاد: "إن أجداد أمي جميعًا قد تزوجوا في السودان، وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت إلى السودان بعد حادثة إسماعيل ابن محمد علي الكبير".
٢) "إن أسرة مي نَزَحت معها إلي بيروت لتكمل تعليمها".
الصحيح أن ميّ التحقت بمدرسة "الراهبات الداخلية للبنات بعينطورة" في شحتول وليس بيروت كما أشار.
٣) جاءت ميّ إلى مصر في عام ١٩٠٧ وليس ١٩٠٨، وكانت تُجيد الفرنسية والإيطالية ثم تعلمت في مصر الإنجليزية والألمانية واللاتينية والسريانية والإسبانية واليونانية (تسع لغات)!
٤) التحقت ميّ بالجامعة الأهلية في الفترة بين (١٩١٤ - ١٩١٨) ودرست تاريخ الفلسفة العامة وتاريخ الفلسفة العربية وعلم الأخلاق وتاريخ الأداب العربية، وليس تاريخ الأدب فقط كما أشار، ولقد عشقت ميّ العلم، وتلقت دروسًا في الأدب والفن والتاريخ أعدتها جامعة لندن في الأجازة الصيفية عام ١٩٣٢، عام وفاة أمها "نزهة خليل معمر"، ومن قبلها فقدت والدها عام ١٩٢٩ ثم فقدت جبران خليل جبران عام ١٩٣١، كما درست تاريخ روما وآدابها وفنونها ولغتها بشكل أكاديمي في جامعة بيروجيا عام ١٩٣٣.
٥) " كانت ميّ تنادي يعقوب صروف بتوت المستبد".
قد يوحي هذا للقارئ أنها كانت تستخف به! دكتور يعقوب صروف (١٨٥٢ – ١٩٢٧) صاحب المقتطف كانت مي تجله وتخاطبه بقولها: "أستاذي قيصر القياصرة"، و"ياذا التاج والصولجان" و"أستاذي الفرعون" وتوقع رسائلها باسم "توت عنخ أمون" تحببًا ومداعبة.
٦) جاء الكاتب على سيرة جبران فلم يُشِر سوى بأنها: "كانت تراسله ويراسلها وبينهما محبة"!
الصحيح أن ميّ عشقته عشقًا، واستمرت المراسلة بينهماعشرين عامًا!
٧) ذكر صالون مي على لسان العقاد فقال: " كان يشعر كل واحد منهم أنها لا تحب سواه".
المؤكد والموثق قول العقاد: " وما تتحدث به مي ممتع كالذي تكتبه بعد رَوِيّة وتفكير، فقد وُهِبت مَلَكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجَلاء، ووُهِبت ما هو أدل على القدرة من مَلكة الحديث، ونعني به مَلكة التوَجُه، وإدارة الأحاديث بين الجُلساء المختلفين في الرأي والمزاج والمقام، فيكون في مجلسها عشرة منهم الوزير والموظف الصغير، والمحافظ ، والمُغالي بالتجديد، والمرح الثرثار والوقور المتزمت، فإذا دار الحديث بينهم أخذ كل منهم حصته على سنة المساواة والكرامة، وانفسح مجال القول لرأيه وللرأي الذي ينقضه وانتظم كل ذلك في رفق ومودة ولباقة، ولم يشعر أحد بتوجيهها وهي تنقل الأحاديث من متكلم إلى متكلم وموضوع إلى موضوع، كإنها تتوجه بغير موجه، وتتنقل بغير ناقل، وتلك غاية البراعة في هذا المقام". انتهى كلام العقاد!
٨) ذكر أن العقاد كتب مقدمة كتابها " ظلمات وآشعة". ونقول أن العلاقة بينهما بدأت عام ١٩٢٥، والكتاب صدر عن دار الهلال عام ١٩٢٣!
٩) ذكر "أن ابن عمها نجح في استدراجها لبيروت عام ١٩٣٨ بعد رحيل والديها". والحقيقة أن ميّ ذهبت إلى بيروت مع ابن عمها عام ١٩٣٦ وعادت عام ١٩٣٩.
١٠) ذكر "أن العقاد كان يؤم صالون ميّ سنة ١٩١٥ وما بعدها كأصغر رواده وكان عمره ٢٧ عامًا وعمرها ٢١ عامًا". هذا الكلام منقول حرفيًا من كُتيب الأستاذ طاهر الطناحي " أطياف من حياة ميّ" الذي يضم مغالطات فادحة، والحق أن ميّ تَكبُر العقاد بثلاث سنوات!  
١١) يقول:" إن العقاد كان وسيمًا معتدلًا برأيه وكرامته -يقصد مُعْتَدّاً برأيه- وهي جميلة الجميلات لا تضع مساحيق التجميل وتصلي بالكنيسة إسبوعيًا وتمارس اليوجا ومفكرة تتحدث أكثر من لغة، وجمع بينهما الشعر والأدب والفكر وحب الشباب الذي صار غرامًا فهيامًا وكانا يلتقيان سرًا بحديقة إحدى كنائس حي الظاهر". انتهى كلامه وأعتقد أنه يليق بأي امرأة إلا ميّ؛ مي لم تكن جميلة، لكنها تميزت بشخصيتها ونبوغها.
لقد قدم الكاتب مزيجًا جمع ما تخيله العقاد في رواية "سارة" وما اختلقه ابن أخيه "عامر العقاد" وما شاهده هو في مسلسل "العملاق"! وللأستاذ توفيق الحكيم (١٨٩٨ – ١٩٨٧) حديث مع كمال الملاخ في ٦ فبراير ١٩٨١بجريدة الأهرام قال: "إن مسلسل العملاق زيف التاريخ وتجنى على أعلامه"!
١٢) قال الكاتب: "انتهت القصتان بالدموع لأن كرامة العقاد تأبى أن تذبح على مذبح الحب أو يشاركه آخر في هواه"، يقصد سارة وميّ!
ما وجه الشبه بين مي الأديبة العظيمة وبين سارة الخائنة اللعوب؟ العقاد قد وضح الفرق بينهما في رواية "سارة" فكفانا عبء الجدال!
ما أحبت ميّ سوى جبران، ولم تَبُح بحبها! إلا إذا أراد الكاتب ما أراده الأساتذة كامل الشناوي والعُريان والطَناحي وأنيس الدغيدي في كتابه "غرام الكبار في صالون ميّ" وغيرهم كثر!
ويتَّبع الكاتب خياله الخصب فيقول: "وتجَرَعَ كؤوس الخيانة المُرة، وهو الحامل لكرامته فوق رأسه، ولا يسمح ولا يقبل من محبوبته إلا الإخلاص التام والكامل".
أراه يتحدث عن امرأة من محترفي شارع "كلود بك"! ولا يقصد "ميّ" الراهبة في تدينها وتربيتها، وعندما برر جبران الخيانة في "الأجنحة المتكسرة"، انتقدته وأنكرت على بطلة روايته "سلمى كرامة" اجتماعِها بصديق لها غير زوجها، ولم تجد مبررًا حتى وإن اجتمعا للصلاة عند فتى الأجيال المصلوب!
وهي تصف نفسها: "أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، فقد انصرفت بكل تفكيري إلى المَثَل الأعلى" ، وتقول: " على المرأة أن تكون وردة تحيط بها الأشواك، وما أشواك المرأة إلا التكتم والحشمة والطهارة كما قال ذلك القس".
١٣) قال عن رسالة ميّ الأولى للعقاد "من المؤكد أنها كُتبَت بالقلم الحبر" وأشار إلى "تشديد باء عباس وقاف العقاد" كأنهما من علامات حب ميّ! لم تستعمل ميّ سوى الغاب والمحبرة في الكتابة، وكانت تكتب بخط فارسي أنيق!
١٤) قال عن الرسالة الثانية من ميّ إلى العقاد مساء ٢٩ يونية ١٩٢٥، وسماها انفراد.
الرسالة كسائر رسائل مي إلى أصدقائها، تحمل لطف ورقة وجمال تعبير وأخلاق مىّ.
١٥) أخبرنا أن أسرة العقاد في أسوان أفصحوا له عن رسالة ثالثة بعث بها العقاد إلى ميّ في ١٩ أغسطس ١٩٢٥ من رأس البر وعدَّ نشرها انفرادًا.
ميّ في هذا الوقيت كانت في برلين! والسؤال هو "كيف حصلت أسرة العقاد على رسالةٍ من العقاد أرسلها لميّ؟ ألم تكن في حوذة ميّ ثم آلت إلى ورثتها؟ أم أن العقاد كان يراسل ميًا على عنوان أسرته في أسوان؟!
١٦) قال عن الرسالة الرابعة التي أرسلها العقاد للأنسة ميّ: "أنها عبارة عن قصيدة من ستة عشر بيتًا، وليست تقليدية، بل اعتراف صريح من العقاد بحبه".
ومن عجب أن مآل "القصيدة" كمآل الرسالة السابقة، استقرت في بيت أسرة العقاد ولم تصل ليد ميّ!
١٧) يقول عن العقاد: "أنه الكاتب الجبار.. المحارب الصلب المعتز بكرامته.. العاشق الذي يذوب صبابة في محبوبة في لحظة صدق إنسانية عالية جدًا، ثم يجلس كالمراهق يعد الساعات وهي تمضي والأيام حتى يأتي يوم الثلاثاء موعد صالونها فيلقاها"!
كيف خَبُرَ بهُيام العقاد؟ وهل صالون مي صالون عشق ومجون؟!
يصف لنا العقاد صالون ميّ فيقول: "لو جمع ما ذكر فيه لكون مكتبة كبيرة تشبه ما جاء في الأغاني للأصفهاني أو العقد الفريد". ولم يقُل تشبه ما جاء في أشعار النواسيّ!
١٨) يقول: "إن العقاد انصرف بقلبه رويدًا رويدًا عن ميّ بسبب كثرة عشاقها ولأنها ليست له وحده".
لهج بذكر ميّ وعظمتها كل ساعٍ إلى صالونها العريق وإمامهم الشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر (١٨٨٥ – ١٩٤٥) والأب سَليم سركيس (١٨٦٩ – ١٩٢٦) وأمير الشعراء (١٨٦٨ – ١٩٣٢) وكل رجال الفكر والأدب في مصر والشرق، لهذا أكرر السؤال على كاتب المقال "هل قصدت نابغة الشرق في صالونها أم راقصة في كازينو بديعة؟!
١٩) قال: " زارته يومًا وهي باكية بمكتبه في جريدة البلاغ وعاتبته وبكت بدموع حارة وحَزِن العقاد ولكنه لم يغفل كبرياءه وتسلى عنها بحب جديد وكانت سارة".
لقد اختلق هذه الرواية! يقول العقاد في رواية "سارة": "لو أن همام اكتشف حب هند قبل أن يعشق سارة لترك سارة، لكن هذا الحب جاء متأخرًا بعد أن وقع في شباك سارة". يقول كامل الشناوي (١٩٠٨ – ١٩٦٥) في كُتيب " الذين أحبوا ميّ" صفحة ٢٥: "ورجعت إلى صديق العقاد، وكان يلازمه ٣٠ عامًا ـ يقصد الأستاذ المازني (١٨٨٩ – ١٩٤٩) - فذكر لي أن العفة كانت علاقة مميزة لميّ الأديبة وميّ الأنثى، وهذه العفة (الكبت) هي التي أورثتها الجنون ـ مع التحفظ الشديد لما قاله المازني والكُتيب ذاته، فلم نعرف يومًا أن العفة تورث الجنون!
وفي الكُتيب يقول كامل الشناوي على لسان المازني:" أخبرت العقاد أني رأيته يدخل مع ميّ كنيسة في حي الظاهر بالأمس، فضحك العقاد ملء حنجرته.. وقال لقد دعوتها إلى السينما، فقبلت الدعوة، واشترطَتْ أن تذهب إلى سينما الكنيسة، فقلت لمحدثي (كامل الشناوي للمازني) وهل في الكنائس أماكن معدة لمشاهدة أفلام السينما؟ فقال المازني: عندما طغت السينما بأفلامها المغرية، خشيت الكنائس أن تؤثر الأفلام في الأخلاق الفاضلة والعاطفة الدينية، فأعدت في أبنيتها أماكن لعرض الأفلام، وكانت تتخير منها ما لا يتنافى مع الآداب المرعية وبذلك لا تحرم المتدينين من مشاهدة الأفلام القيمة ".
لو أخذنا بصحة ما سبق، فهل نَصِفُ ميًا على أنها فتاة ماجنة مبتذلة؟ أم أنها فتاة أرستقراطية ثقافتها شرقية محافظة وراقية؟
٢٠) من كُتيب " الذين أحبوا ميّ" صفحة ٢٦ وتحت عنوان "العقاد يتكلم" يقول الشناوي:" وعُدتُ إلى العقاد أسأله عن واقعة زيارة مي له في مكتبه بجريدة البلاغ فقال العقاد: "إن صديقنا ـ يقصد المازني - لم يفهم الوضع على حقيقته، فالواقع أن ميّ كانت تشفق من عنف حملاتي على الحكومة، وكانت تخشى أن تجرني هذه الحملات إلى السجن.. وكنت استغل هذه العاطفة في جعلها تبدأ بمصالحتي كلما وقع بيننا خصام، ولقد حدث بيننا جفوة، وأصررت على ألا أتصل بها، ولكني شعرت بحنين إليها فلم أفكر في زيارتها أو كتابة رسالة لها وكتبت مقالًا عنيفًا هاجمت فيه إسماعيل صدقي، وكان رئيسًا للوزارة، وفي اليوم التالي جاءت ميّ إلى جريدة البلاغ وقابلت المرحوم عبد القادر حمزة، وقالت له: ألم نتفق مع الأستاذ العقاد على أنه يحسن به في هذه الأيام الإقلاع عن هذا الإسلوب العنيف، حتى لا يعرض نفسه لما لا يُحمد عقباه؟ وكانت غرفتي بجوار غرفة الأستاذ عبد القادر، وإذا هذا الباب ينفتح، وتطل منه ميّ، واصطنعت مي الهدوء وتَصَنَعتُ الابتسام وقالت لي: فيم هذا العنف؟ قلت لها أو قلت لنفسي -لا أذكر- وفيم هذا الجفاء؟ وانحدرت من عيني ميّ الدموع وحسبتها دموعي أنا لا دموع مي فقد كان البكاء يخنقني". هل هذا يتفق مع ما ذكره الكاتب؟ وهل لاحظ القارئ ما قاله الشناوي على لسان العقاد: "قلت لها أو قلت لنفسي -لا أذكر- وفيم الجفاء"؟!
٢١) يشير إلى رسالة أرسلتها ميّ للعقاد من روما سنة ١٩٢٥ تؤكد المأساة التي أحاطت بمي من كثرة عشاقها وذكائها الحاد فقالت: "لقد ظننت أن اختلاطي بالزملاء يثير حمية الغضب عندك".
ما العلاقة بين مأساة ميّ وكثرة عشاقها وحدة ذكائها؟! ولو قرأ الرسالة كاملة لأدرك أنها كانت بتاريخ ٣٠ أغسطس ١٩٢٥ وأرسلتها ميّ من مدينة برلين وليس من روما، وكانت ردًا على قصيدة بعث بها العقاد لمي بتاريخ ٢٠ يوليو ١٩٢٥.
وختامًا؛ لم ينل العقاد أو غيره من الآنسة مي سوى الإعجاب الأدبي، ولم يربط العقاد أو غيره من أدباء عصره بمي سوى الأدب.
إن أغلب من يقرؤون عن ميّ لا يقرؤون عنها من مصادر أمينة وإذا كتبوا لا يتحروّن الصدق فيما يكتبون! ويفترون على سيدة قلما يجود الزمان بمثلها، ميّ وعصرها الذهبي لن يتكررا أبدًا، مي كانت متدينة إلى حد الرهبنة، زارت الأرض المقدسة ثلاث مرات متتاليات، الأولى في عام ١٩٢٣، والثانية كانت في ٢٥ أغسطس عام ١٩٢٤، أما رحلتها الأخيرة فكانت في ٦ يونيو عام ١٩٢٥، ومن الجدير بالذكر أن ميًّا قد زارت الفاتيكان وشرفت بلقاء البابا "بيوس الحادي عشر" الذي منحها وسامًا باباويًا تقديرًا لنبوغها وخدماتها الثقافية الجليلة.
امرأة بهذه الثقافة، تتحدث تسع لغات، لها نبوغ وحضور ومتدينة هل نصورها على أنها غانية، متي نعطي لميّ قدرها؟ ومتى نحتفي بها؟ ومتى ونرد لها بعض الجميل؟