ولادة رواية، موت رواية!!
الرواية زلزال غير مدمر! A.J
أنار ضوءٌ شمسي أرجواني محيط بنت متوهجة بلونٍ أسود فاحم، مزج سني الشمس بشفقِ جسد ناصع سواد من وراء أسمال شفافة متعرقة، بان كزنبقةٍ تختزل جسد العالم، تعيد تكوينه بالأسود. تأمّلت أبيا الملاك الأسود بذهولٍ مقدس، ظلّت متجلدة، دهِشة، أسيرة، رهينة صدمة كما لو هراوة خسفت عقلها وصلبته أمام تمثال أسطورة السواد، زلزال الجمال الأسود، لون الحزن، لون النحافة والجوع والمرض، لون الزنجية، شعرها القصير، قدميها صغيرتين، حافية ناتئة من ثقوب حذائها المُمزق، حافية رغم حذاءها الثمين! هل هي من أفريقيا؟ لم تُخلق هذه السحنة لا بمملكة ياروبا ولا باقي ولايات الساحل كلها، هذا ما كنت أظنّ، كيف لم يكتشف أحدٌ هذه الفتنة؟ هل أفلت عن تلك الحثالة المتواطئة المُنقِبة في مناجم الإناث لإرواء عطش حاشية وبطانة الإمام، أين صائدي صبايا جنة المومسات لتغذيّة الأوكار؟ كيف غابت عنهم؟ كيف عموا عنها؟ ما أن اقتربت منها خطوة حتى لفظت الأنثى السوداء أنفاسها رعبًا، تكوّمت داخل شرنقتها الفطرية، لفظت نظرة مذعورة، تعوّقت أبيا خطوة، كان حشد غوغاء يحفون بها، وحشد آخر من عسس وجند مزروعين في أسمالٍ بالية يحيقون بدورهم حول الدهماء، لصدهم عنها كلما دنوا منها، "طوال معاشي لم أصادف امرأة سوداء، لقد حرَّرتني من دناءة اعتقاد خاطئ تجاه الأسود، برهنت هذه الجوهرة على رجاحة عقلي" كرّرت تساؤلات وحشية بداخلها، هي مفتونة حتى نخاع الأرض، بلونٍ قشيب. ودّت لو تحتضنها وغنت لها باللون الأسود، "أفقتي شهوتي المكبوتة"
هكذا استيقظتُ من أفق رواية إلى أفق حياة، من ثنايا رؤية للحياة تنسج رواية، بهذه الوسيلة القابضة على مفاصل الكتابة، تُخلق الفكرة، تنمو، تتحدى حتى تبلغ الانتحار، نهاية الرواية.
***
الحياة نسيج حِيك بتوليدٍ متناقض، غُزِلَت خيوطه بقصدِ الإبهار، إنها الصورة لوهلةٍ، يُخْلَق منها العالم وسرعان ما تذوب لصورٍ أخرى جزئية، فتتحول الأشياء إلى خلافِ ما هي عليه، أرى ذلك في فصل الخريف الذي يرمز في غفلةٍ، رمزًا للموت والذبول والأفول، إذ تذوي في نظر المرئي الكسول، إلى أشياءٍ سطحية، وتأفل، وهي نظرة قاصرة مستمدة من تساقط أوراق الشجر ويباس الأرض مع ذوي الأزهار.
أرى الخريف بعيونٍ مختلفة بعكس غيري، فهو ينبوع للنمو وليس رمز للاحتراق والاصفرار الذي يبديه الخريف بلونهِ الجميل الأخاذ... انظر إليه وهو يشكل بساطاً أصفر، أحبذهُ على اللون الأخضر! الخريف زهرة العام فيه بدايات الشتاء، يتسلل الخريف ومن معطفه تزهر الحياة ثانيةً بلون الثلج الأبيض. لا تُحدق للأشجار وهي بلا أوراق ولا ترمق الأوراق بلا لون، تأمّل هذه الأوراق اليابسة إيذاناً لبوادر أوراق جديدة وأشجار خضراء وبرد جميل! كلّ ذلك ينمو من ساقِ الخريف، بعكسِ الربيع الذي يحزنني! لأنه يُذكرني أن هذه الأزهار اليانعة وهذه الأوراق والألوان الزاهية وقوس قزح الشتاء الذي يلمع من شعاع بقايا رذاذ المطر هو زوال لهذه اللوحة التي أحرقتها شمس الصيف السمجة.
هذه الرؤية، هي حياكة بالمُتَخيل والمُتناقض، تستنبط الحياة من الموت وليس العكس، والإشكالية بعيون السطحي المتكاسل أنه يبحث عن الحياة ولكنه يختبئ تحت قشرة الموت! تذكير أن الموت إنما هو الحياة إذ تتدفق الأرواح الملونة بالزهر، حياة تنبض بالتناسل وكأنها تستنخ الأشياء من داخلها!
عندما أنسجُ خيوط رواية جديدة، أحرص أن تكون ذكية بمضمونها، وإتقانها... اعتمد التآلف والتصادم مع شخصيات اخلقها بالكلمات ولكنها بغزلٍ مُتْقَن وخلقٍ حذق تجرني بشغفٍ مفرط لتكوين أرواح حية شبيهة بالأرواح السابحة من حولنا في الحياة. أغلبنا يظن وهو يقرأ الرواية ويتفاعل بشدة مع الشخصيات والوقائع إنها مجرد مضيعة للوقت وتسلية أو تشويق، ولكن حين تقرأ بعيونٍ مختلفة عن عيون القراءة الكسولة المتراخية، الآلية، سترى أرواح بشرية حية، بشر يتحركون حولك، يتألمون ويفرحون ويتقاذفون الشتائم، تُخْلَق الشخصيات في الرواية الذكية، بلا كلمات جاهزة معدة! تنمو من رحم الكتابة وتنسلخ عن الكلمات والحروف لتخلق أرواحاً منتشية بالحياة واليقظة. هذه الرواية تستند للخيال الواقعي المستنبط من جوهر الأشياء، إنها الخريف بأوراقهِ الصفراء، الرواية الذكية معالجة من تكنولوجيا الخيال وتقنية الواقع!!