مدونة شاشة وقلم 2010
لو كان عندى بقية من القدرة على الخيال فأنا مدين بها للسينما ، وقبل ذلك بكثير أنا مدين بها للإذاعة المصرية . والذين عاشوا طفولتهم فى السبعينات يعرفون تماما فضل الراديو ، ويعرفون أن العلاقة كانت وثيقة جدا بينه ويبن السينما على عكس ما يعتقد البعض !
كان الراديو حاضراً بقوة فى تلك الأيام حتى بعد منافسة التليفزيون . ربما ساعد على هذا الحضور أن البث التليفزيونى لم يكن قد (توحش ) بعد ، وإنما كان يتم من خلال قناتين فقط هما الأولى والثانية ولساعات محدودة يعزف بعدها السلام الجمهورى وبدأ (الوش) بظهور هذه الخطوط المتحركة ، بل أتذكر أنه فى أحد الرمضانات صدر قرار بكثيرةأن يتوقف البث التليفزيونى لمدة ساعتين بعد أذان المغرب لإتاحة الفرصة لجمهور الراديو لمتابعة برامجه ومسلسلاته .
ورغم روعة اشياء كثيرة قدمها الراديو وأستطيع الحديث عنها من أبلة فضيلة العظيمة الى الغلط فين برنامج المسابقات الأشهر الذى كانت جائزة الإجابة عن أى سؤال فيه لا تزيد عن خمسة وسبعين قرشا فقط لاغير ، ومن همسة عتاب الى البرنامج الأسطورى (على الناصية ) للكبيرة آمال فهمى । رغم كل هذه العلامات ، إلا أن الأثر الأكبر للإذاعة علينا كان من خلال الأعمال الدرامية التى أفرزت مجموعة من أبرز كتاب السينما ربما كان أشهرهم :(وحيد حامد ) و( سمير عبد العظيم ) । وأصبح من المألوف من وقت بعيد أن ينجح المسلسل الإذاعى فيتحول الى فيلم ناجح . فيلم ( سمارة ) مثلا كان مسلسلا تخلو الشوارع عند إذاعته ، وكانت بطلته (سميحة أيوب ) ، واسندت بطولة الفيلم الى تحية كاريوكا ، وفيلم هذا هو الحب الذى قام ببطولته يحى شاهين ولبنى عبد العزيزوأخرجه (صلاح أبو سيف ) كان فى الأصل مسلسلا ناجحا فى الإذاعة فى الخمسينات . وفيلم ( شئ من العذاب ) الذى أخرجه أيضا صلاح أبوسيف وقام ببطولته يحى شاهين وسعاد حسنى وحسن يوسف ، فى الأصل مسلسل كتبه ( أحمد رجب ) فى الستينات ، وقام ببطولته (محمد عبد الوهاب ) شخصيا ، والممثلة الناشئة وقتها (نيللى ).
طبعا لم استمع الى هذه المسلسلات الأقدم وقت إذاعتها ، ولكنى استمعت اليها بعد إعادتها فى راديو السبعينات العظيم . ولكن أقدم ما فى ذاكرتى عن علاقتى بالدراما الإذاعية يرتبط بمسلسل الخامسة والربع فى البرنامج العام الذى كان يوقف الحياة تقريبا فى مدينتى الصعيدية الصغيرة . لم أكن أعرف شيئا عن هذا المسلسل لأننى كنت مشغولا باكتشاف هذا الصندوق السحرى الذى أحضره أبى لنشاهد مباريات الكرة بعد انبهارى بهذه اللعبة إثر مشاهدتى -عند الجيران - مباراة الأهلى وسانتوس البرازيلى الشهيرة . ولكن حدثا رائعا غير الأمور على نحو غير متوقع . كنت -ربما - فى الصف الثالث الإبتدائى عندما دخل الأستاذ (عدلى ) الفصل ، وأخذ يتبادل معنا حديثا وديا قاده أن يتساءل عن (قفلة ) الأمس من مسلسل الخامسة والربع . أدهشنى أن كل الفصل تقريبا يتابع المسلسل ، وهكذا دفعنى الفضول الى اكتشاف الدراما الإذاعية . كان المسلسل المذاع وقتها بعنوان (الفتى الذى عاد ) للمؤلف الشاب (وحيد حامد ) . وكانت تلك المرة الأولى التى أسمع فيها اسمه الموسيقى الجميل لا تتخيلوا مدى تعلق الناس بهذا العمل الذى عرفت فيما بعد طبعا أنه مأخوذ عن مسرحية ( مهاجر برسبان ) التى كتبها ( جورج شحادة ) ، وقد حول ( وحيد حامد ) المسلسل فيما بعد الى فيلم سينمائى أقل شهرة هو ( بنات إبليس ) مثلما فعل مع مسلسلاته المدهشة التى تحولت الى أفلام أو مسلسلات تلفزيونية . الدنيا على جناح يمامة كان مسلسلا ناجحا فى الشرق الأوسط من بطولة محمود عبد العزيز نجلاء فتحى كنا لا نستطيع أن نفوت منه حلقة ، ثم تحول الى فيلم بطولة محمود عبد العزيز وميرفت أمين ، وفيلم كل هذا الحب كان أيضا مسلسلا إذاعيا لوحيد حامد أخرجه الراحل حسين كمال ، ثم أخرجه من جديد للسينما فى فيلم بطولة نور الشريف و ليلى علوى ، وأتذكر أن فيلم الغول الشهير كان أصلا مسلسلا ناجحا لوحيد حامد بعنوان ( قانون ساكسونيا ) من بطولة نور الشريف ونيللى ، وعندما تحول الى فيلم أسندت بطولته الى عادل امام ونيللى ،بل اننى استمعت فى سنوات الطفولة الى مسلسل لوحيد حامد أيضا بعنوان بلد المحبوب هو أصل الحلقات التليفزيونية الشهيرة (أحلام الفتى الطائر ) ، وكان أبى مندهشا وأنا أقول له إن دور ( ابراهيم الطاير ) لوفيعبه ( توفيق الدقن ) . كانت تجارب عجيبة لطفل صغير ينطلق خياله أثناء الإستماع الى العمل فى الراديو ثم يقيد من جديد عندما يراه على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة . أظن أيضا أن ولعى الشديد بالمقارنات بين الأعمال الدرامية أو ألأدبية وضعت بذورها خلال تلك السنوات المبكرة .
أصبحت مجنونا بالدراما الإذاعية خاصة فى شهر رمضان فى محطة الشرق الأوسط . كان مسلسلها عادة من تأليف الراحل سمير عبد العظيم ومن أخراجه أيضا . كان موهوبا وحساسا لحياةوتغيرات الطبقة الفقيرة والمتوسطة ، وأظن أنه كان يستطيع أن يقدم أعمالا أقوى ألف مرة مما قدمه بالفعل لولا أنه دخل فى عجلة السينما التجارية والمسرح الصيفى السياحى . كانت مسلسلات سمير عبد العظيم بدون فواصل موسيقية مثل مسلسلات الرائد الراحل محمد علون ، وكنت أراها كفيلم مسموع من براعة أداء ممثليها وقدرتهم على التعبير وخلق الجومدعومين بمؤثرات صوتية مدهشة . ومن هذه المسلسلات التى كانت توقف البلد حلقات أفواه وأرانب التى تحولت الى فيلم شهير قامت بطولته فى المرتين فاتن حمامة ، وأتبعته بحلقات لم تتحول الى السينما هى الجزء التانى من أفواه وأرانب بعنوان كفر نعمت ، وكانت بالطبع أقل نجاحا . وتحولت الكثير من مسلسلات سمير عبد العظيم الى أفلام مثل على باب الوزير ، عمل هام يرصد التحولات التى أصابت المجتمع وشبابه فى زمن الإنفتاح ،و فيلم لست شيطانا ولاملاكا المأخوذ عن حلقات رمضانية بنفس الإسم ،وأظن أنه المسلسل الذى غنت الرائعة ليلى مراد مقدمته ونهايته من تلحين بليغ حمدى ، وكانت الأغنية التى مازلت أذكرها بعنوان ( ويا عينى ع الدنيا ) ، وهناك أيضا فيلم (الشك ياحبيى ) عن حلقات بنفس الإسم قامت ببطولتها شادية فى الإذاعة ثم فى السينما ، ولعل فيلم الصبر فى الملاحات من الأعمال الأخيرة التى نقلها سمير عبد العظيم الى السينما بعد نجاحها فى الإذاعة .
لا استطيع ايضا أن أنسى مسلسلات الثنائى الشهير (فؤاد المهندس ) وشويكار . بعضها استمعت اليها فى وقت إذاعتهامثل مسلسل رمضانى أذيعت منه عدة حلقات بعنوان ( سها هانم رقصت على السلالم ) ، ثم أصدر وزير الإعلام وقتها ( عبد المنعم الصاوى ) قرارا بوقف الإذاعة لأن المسلسل اتهم بالإسفاف ، وكانت تلك المرة الأولى التى أسمع فيها هذه الكلمة ! وأعتقد أن شويكار والمهندس لم يقدما بعد هذا المنع أى مسلسل إذاعى مشترك . ولكن مسلسلاتهما الأشهر والأقدم ، والتى تحولت الى أفلام استمعت إليها بعد أعادة إذاعة بعض حلقاتها فى مناسبات مختلفة . من هذه الأعمال مثلا إنت اللى قتلت بابايا, وشنبو فى المصيدة والعتبة جزاز ، ويبدو أن هذه المسلسلات كانت تستهدف الترفيه عن الشعب البائس بعد كارثة يونيو.
ولكن الراديو لم يقم فقط بتغذية الخيال عن طريق مسلسلاته الدرامية المدهشة ولكن أيضا من خلال نقل السينما الى الإذاعة . كان هناك برنامج إذاعى شهير اسمه ( من الشاشة الى الميكروفون ) تعده وتقدمه ثريا عبد المجيد يهتم بتقديم مسامع من الآفلام الجديدة خاصة الكوميدية . التجربة غريبة فعلا ولكنها مثيرة للخيال لأننى عن طريق هذا البرنامج استمعت الى أفلام شاهدتها فيما بعد كملة ، أى أننى رايتها بعين الخيال قبل أن أراها بالفعل .. ويالها من تجربة .. ويالها من أيام .
فى رأيي أن الأجيال الجديدة لا تنقصها الثقافة المرئية لأنهم ولدوا فى عصر الصورة ، ولكن ينقصهم الخيال وهو أمر لا يمكن أن تغذيه إلا بأن تغمض عينيك لتسمع وتتأمل .تحتاج تلك الأجيال أن تريح عيونها لتطلق خيالها . تحتاج أن تعى ما قاله جورج جرداق فى قصيدة هذه ليلتى :
فادن منى وخذ إليك حنانى
ثم أغمض عينيك حتى ترانى
وليس هناك وسيلة مثل الراديو تجعلك تغمض عينيك حتى ترى مثل الراديو ..وأيام الراديو !