شريف الشافعي المصدر: جريدة المدن 14 نوفمبر 2017
الكتاب: "نجيب الريحاني – المذكرات المجهولة"، للكاتب والباحث شعبان يوسف، في 340 صفحة، عن مؤسسة "بتانة" في القاهرة، 2017
مثلما جاء رحيل الفنان نجيب الريحاني مثيرًا، فإن قصة كتابته ونشره مذكراته تبدو بالغة الإثارة، فضلًا عما ورد في المذكرات نفسها من اعترافات وأسرار.
اتفق المؤرخون على تاريخ رحيل الريحاني في الثامن من يونيو 1949، إثر إصابته بمرض التيفوئيد، وتبقى تفاصيل الوفاة غامضة، على أن رواية أحد الأطباء تُرجع موته المباغت في أثناء تلقيه العلاج في المستشفى اليوناني بالقاهرة إلى "جرعة زائدة من عقار الأكرومايسين" أعطتها له ممرضة مهملة، فمات الريحاني بعدها بلحظات قليلة.
ويبدو أن كل ما يتعلق بنجيب الريحاني، غير تاريخ وفاته، يبقى خلافيّاً، بدءاً بتاريخ ميلاده، الذي يحدده بعض مؤرخي السينما بالعام 1890، ويحدده آخرون بالعام 1889، في حين يذهب فريق ثالث، وعلى رأسهم الناقد كمال رمزي، إلى أن الريحاني من مواليد 1887، معولين على أن ملامح وجهه في فيلمه الأخير "غزل البنات"، الذي صور وعرض في العام 1949، توحي بأنه تجاوز الستين بعامين على الأقل، وقد عُرض الفيلم في أعقاب وفاة الريحاني.
مات نجيب الريحاني، "كشكش بك"؛ الرائد المسرحي ذو الأصول العراقية؛ وصاحب عشرات المسرحيات والأفلام الخالدة، بعدما نعى نفسه حينما استشعر دنو الأجل. إذ كتب راثيًا ذاته بأسلوبه الساخر الذي يفيض ألماً: "مات نجيب. مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب. مات نجيب الذي لا يُعجبه العجب ولا الصيام في رجب. مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق، ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح. مات الريحاني، في 60 ألف سلامة!".
كتب الرجل مذكرات عريضة، هذا لا شك فيه. لكن الخلاف الأبدي حول كل متعلقات الريحاني يطاول تلك المذكرات أيضًا. فثمة نسختان من مذكرات الريحاني: الأولى، مذكرات مجهولة، صدرت على استحياء في العام 1949 عقب رحيله، عن دار نشر مغمورة هي دار الجيب، ولم تلق تلك المذكرات أي رواج يُذكر، ولم يعد للنسخ القليلة المطبوعة منها أثر. أما المذكرات الثانية، فقد صدرت في العام 1959، عن دار "الهلال" ذائعة الصيت في القاهرة، في طبعة رسمية كبيرة، وبتقديم صديق عمره الشاعر والكاتب بديع خيري، وقد راجت رواجًا كبيرًا، وصارت مرجعًا للباحثين.
وتأتي الأيام الأخيرة من العام الحالي 2017، لتشهد إلقاء الضوء على مذكرات الريحاني المجهولة، إذ يزيح الكاتب والباحث، شعبان يوسف، الغبار عن صفحاتها المتلاشية، ويصدرها محققة وكاملة في كتاب جديد .
يتضمن الكاتب تحقيقًا لـ"مذكرات نجيب الريحاني، زعيم المسرح الفكاهي" كاملة في ستة فصول، ودراسة وافية حول تلك المذكرات المجهولة، وتفنيدًا تفصيليًّا للمذكرات الأخرى الرائجة، فضلًا عن ملحق يضم أبرز الآراء والمقالات المكتوبة عن الريحاني ومسرحه، بأقلام كل من: محمد تيمور، عباس العقاد، محمد عبد الوهاب، زكي طليمات، نعمان عاشور، دريني خشبة، ألفريد فرج، صلاح عبد الصبور، يحيى حقي، سعد الدين وهبة، فتوح نشاطي، سعد أردش، وغيرهم.
يبني المحقق طعنه في مصداقية مذكرات الريحاني الرسمية الصادرة عن دار الهلال، على أمور عديدة؛ منها: أن الدار لم تنشر في متن الكتاب شذرات من خط نجيب الريحاني، مكتفية بما وصفته بأنه مقدمة كتبها الريحاني للمذكرات، وبالمقدمة التي كتبها بديع خيري، وأنها لم تتبع الطريقة العلمية لنشر المذكرات والسير الذاتية، وأنها تتضمن مبالغات وخيالات وأحداثًا من الصعب أن يسردها فنان أو أديب عن نفسه، فضلًا عن أن أسلوب كتابتها يختلف جذرياً عن طبيعة ما كان يكتبه الريحاني من مقالات في حياته.
الأسلوب السائد في "المذكرات الملفقة"، كما يسميها شعبان يوسف، يختلف تمامًا عن أسلوب نجيب الريحاني. فالمحرر "يحاول طوال السرد أن يستظرف، ويتفكه، من دون حاجة إلى ذلك، ويفتعل النكات السخيفة، ويتعرض لموضوعات ثقافية لم يكن الريحاني معنيّاً بها، ولا موقع لها في المذكرات، وغالبًا هي موضوعات تشغل المحرر فقط".
كذلك، فثمة "ارتباكات تحريرية" يجدها المحقق وازعًا للطعن في المذكرات الملفقة، ويقول: "هي مبالغات صيغت من أخبار قديمة عن الريحاني، وتم توسيع وتضييق بعض الأحداث التي ذُكرت في المذكرات الأصلية، ونجد كأن هناك قصدية في إهانة الريحاني نفسه، وإظهاره في ثوب ليس ثوبه، ولا يمكن أن يخبر به عن حياته، مثل حكاية غرامياته التي تظهره كرجل خائن لأصدقائه أو معارفه، وهي غراميات خائبة، ولا يصلح ذكرها في أي مجال، ولا تؤدي إلا إلى إهانة الريحاني نفسه".
في الجانب الآخر، يرى الباحث شعبان يوسف أن المصداقية تتحقق في مذكرات الريحاني المجهولة، التي نشرها دار الجيب في العام 1949، وذلك لأسباب كثيرة، منها: تصدرها كلمة لنجيب الريحاني يقول فيها "هذه سطور، بحلوها ومرها، بهنائها وشقائها، بكأسها المترعة وكأسها الفارغة، ..، الخ"، بأسلوب الريحاني المعروف، وختامها بكلمة أخرى توثيقية.
ويرى شعبان يوسف أن الناشر "أحاط المذكرات ببعض الضمانات المقنعة، لتأكيد مصداقيتها، بخاصة أن بعضًا من هذه المذكرات كان قد نُشر في حياة الريحاني نفسه، وتاريخ نشر المذكرات هو العام نفسه الذي رحل فيه الريحاني، أي أنه لم يكن هناك وقت لإدخال أحداث وظواهر غير صادقة، كما أن أحدًا من رفاق الريحاني الذين كانوا أحياء وقتها، لم يتناول تلك المذكرات بأي ملاحظات سلبية أو تكذيب، رغم انتقاد الريحاني ليوسف وهبي وبديعة مصابني وغيرهما، وكان من الممكن أن يرد أولئك الذين انتقدهم الريحاني". ويصف الريحاني سطور حياته المجهولة، المكتشفة حديثًا، بأنها "تسلية للذين أحبوني، وشاقهم أن يروا صورتي بغير ماكياج، وتذكرة للذين سيحيون من بعدي، حينما يروق لهم أن يطالعوا قصة دراما ضاحكة، عذابها أعذب من راحتها".
من بين ما تكشف عنه مذكرات الريحاني المجهولة، التي عرفت الأضواء أخيرًا بعد 68 عامًا من كتابتها، أنه بدأت صلته بالمسرح في العام 1914، حين كان موظفًا بشركة السكر في نجع حمادي بصعيد مصر، وأن أصدقاءه في هذا العهد من "الفنانين المفلسين" هم: الخواجة سليم أبيض، عزيز عيد، استيفان رستي. ويقول: "لم أشعر بأي أسف حينما قدمت استقالتي من وظيفتي بشركة السُّكر، وبدأت أواجه الحياة وفي جيبي 25 جنيهًا لا غير، مكافأة نهاية الخدمة في الوظيفة".
ويعترف الريحاني بأنه كان "ممثلًا فاشلًا" في بداية عمله في الأدوار البسيطة مع سليم وجورج أبيض، لأن الجمهور كان يضحك من تمثيله أدوار الدراما التي تبكي الناس، أو المفترض أنها تبكيهم! ويقول الريحاني عن أجره وقتها: "كان الممثلون في الفرقة لا يتقاضون أجورًا ولا مرتبات، بل كنا نعمل بالأسهم، إذا دخل الشبّاك إيراد وزعوه علينا، وكان أكبر مبلغ يقبضه أحدنا لا يزيد على ستة أو سبعة قروش".
ويحكي الريحاني عن تأسيس فرقته الأولى، بعدما هداه التفكير ورفاقه إلى مسرح الشانزليزيه بالفجالة، الذي لم يكن مسرحًا بالمعنى المفهوم، بل كان أشبه شيء بكراج أو حظيرة للمواشي: "لم يكن أمامنا حل آخر، فرضينا أن نعمل على هذا المسرح، حتى إذا انتعشنا قليلًا انتقلنا إلى مسرح آخر ملائم. وهكذا تكونت فرقتنا الأولى، وعُقد لواؤها للمرحوم عزيز عيد، كما انضمت إلينا السيدة روز اليوسف. وكنا نقدم حينذاك روايات الفودفيل، التي كان يترجمها لنا المرحوم أمين صدقي ترجمة تكاد تكون حرفية، ونحن نتصرف فقط في أسماء الروايات".
عن أجواء المنافسات الفنية في ذلك العهد، يحكي الريحاني أن فرقته قدمت مسرحية "ولو" من ألحان سيد درويش وتأليف صديقه المدرّس بديع خيري (الذي كان يخفي اسمه نظرًا لمركزه كمدرّس)، من أجل الرد على انتقال منافسه علي الكسار إلى مسرح الماجستيك، ومحاولته تقليد مسرح الريحاني، جريًا على سياسة الحرب الباردة. وأرادت فرقة الكسار أن تردّ، فأخرجت رواية "راحت عليك"، فأسرعت فرقة الريحاني إلى الردّ بتقديم رواية "رنّ" لبديع خيري، وهكذا استمرت "حرب الأعصاب" بين الفرقتين في حين كانت المنافسة قد اشتدت وازدادت حرارة.
من لطائف مذكرات الريحاني المجهولة، قصة انفصاله عن زوجته وبطلة فرقته بديعة مصابني، لأسباب تافهة، "لكننا شرقيون، والأعصاب الشرقية متوترة دائمًا، ولا تتحمل التافه من الاتهامات". يصف الريحاني بديعة بأنها "قنزوحة" إلى أقصى حد ممكن، فهي دائمًا تحاول فرض سيطرتها وسلطتها على الجميع.
ويحكي الريحاني واقعة الانفصال قائلًا: "كانت تتهمني دائمًا بأنني كسول وأنني خمول، وأنني لا أصلح لأي عمل، لأن قلبي ميت. هل تدرون لماذا؟! لأن حضرتها كانت تريد مني أن أقدم كل أسبوع رواية جديدة. وفي آخر جلسة لنا، هاجت أعصابنا فأفلت زمام ألسنتنا، فتبادلنا كثيرًا من الكلمات النابية، التي يخجل لساني من ذكرها الآن، وكان من الطبيعي أن تنتهي هذه المشادة باتفاق على الافتراق، ثم على الطلاق".
ويفلسف الريحاني رحلته مع الفن ثم مع المرض في سنواته الأخيرة: "جربتُ الفقر مع الصحة، ثم جربت المرض مع النعمة، وخرجت من هذه التجارب بأن الدنيا كلها (طُظ) في صحة تستطيع أن تهضم الفول المدمس، وأن المال كله خرافة أمام معدة لا تستطيع أن تهضم الديوك الرومي. وكانت حياتي على إثر موسم سنة 1946 من النوع الأخير".
تملكت الريحاني في أعقاب مرضه روح النقمة على الحياة، وعلى الناس، ويكشف في مذكراته المجهولة أنه صار يعتقد أن صحته ذهبت ضحية على مذبح إرضاء هؤلاء الناس، وأن أوقات سعادته كانت رهن مشيئتهم، يأخذونها أو يتركونها له، وكانوا دائمًا يأخذونها، ومن ثم تولاه "قرف" شديد، استمر حتى رحيله: "قلت لنفسي: يا واد سيبك"، وبناء عليه، اعتزم الريحاني ألا يعمل إلا وفق مزاجه، "طالما أن مصر لا تقدّر بَنيها، إلا وفق مزاجها وحده".
وسأل الريحاني طبيبه: - إنت بتقول إني لو اشتغلت يمكن أموت؟ - أيوه. - وهو أنا يعني مش حاموت؟ - كلنا حانموت.. - إذن خليني أموت وأنا بأمثّل أحسن.. أقله أموت وأنا مبسوط!