عرض فاطمة المحسن جريدة الرياض3 ابريل 2003
يعاود محمد البساطي في روايته الجديدة (فردوس) العمل علي شخصية المرأة المكتملة الجمال، المصنوعة من مادة التأملات الحسية والروحية، وكان قد بدأها في (ليال أخرى) الصادرة قبل سنوات قليلة. لأول وهلة تبدو هذه الرواية وكأنها تنتسب إلى اعمال مديح النساء، وهي موجة او اتجاه فيه من الحساسية الاجتماعية قدر ما فيه من رومانسية المثال الجمالي الذي يغترف من منابع الشعر. بيد ان للبساطي خصوصية في هذا الشأن تجعل شغله غير قابل للتعميم، وتركنه الى نمط من الكتابة يعود على صاحبه في تمايز الانتماء وفرادته. فهو يشتغل على المخيلة من حيث هي مادة تتقدم على وعي صاحبها، وسيخسر النقد بعض منطقه عندما يصنفها ضمن نهج الدرس السايكولوجي او الاجتماعي، مع ان المؤلف يفعل هنا كما فعل في روايته (ليال اخرى) إذ وجد لشخصياته مسارب تفضي في النهاية الى هذين التأويلين. خيال البساطي الصوفي التأملي يأخذه الى مديات غامضة وشائكة في صنع الاجواء والشخصيات فهناك مناطق مجهولة يتبعها في احاسيس الشخصيات والاجواء التي تتحرك فيها، وهي تتطلب مسارا يمنع التورط الكامل في العلاقة المبسطة مع الظرف والمحيط، بفعل هذه المخيلة تفلت الشخصيات من اجراء الربط بواقعها الاجتماعي لتعيش كينونة انفصالها ليس عن مجتمعها فحسب، بل عن فعل التمرد او الاكتراث به، فهي تبقى معلقة في مجراتها الخاصة، وهذا سر السحر الخفي الذي يسكنها، سحر الانتماء الى ما وراء الوعي والادراك، الانتماء الى عالم الاشياء في ذاتها( المتعالي) لذا يكون بمقدور السرد في استخدامه العفوي للغة- وهي احد شيفرات البساطي المهمة- النفاذ الى الطبيعة الجوهرية وليست العارضة لشخصياته. ولكنه في الغالب، وهنا يدخل وعي المؤلف، يهبط بسقف الرؤى في انعطافه الحديث عن الفعل الاضطراري الذي يحجم خيارات اللامبالاة ذاتها او الموقف الصامت من الحياة فكأن المؤلف ملزم بايضاح اسباب غربة ابطاله وانفصالهم عن الواقع. اول ما يكتشفه القارئ في هذه الرواية، العلاقة المباشرة بين المثال وصانعه، بين صورة المرأة وصوت السارد الذي نستشعر نبرته وهي تمر على خفايا الجمال لتكشف عنه بتدرج واناة والتذاذ. ومع انه يصنع من شخصية اخرى وهي شخصية المراهق ابن الزوج مجسا للتلامس بين هذه المرأة والعالم الخارجي، وهي شخصية في غيابها وحضورها الموارب تكاد تضارع قوة حضور المرأة، إلا انها تبدو صدى لصوت المؤلف، او هي تؤكد وجوده كمراقب خلف الابواب. سعادة رسم شخصية البطلة تمنح انا الكاتب القدرة على التوغل الى مديات ابعد من واقع تعيشه امرأة بائسة ومعزولة فالرواية كحدوتة تنقل معاناة امرأة جميلة قدمت من المدينة بعد ان تخلص منها اخوها بتزويجها من فلاح له عائلة واطفال كثار. يحتفي الفلاح بجمالها وتميزها في السنة الاولى، ثم يهجرها في بيت مقابل لبيته، ليعود الى ام عياله بعد ان يكتشف عقمها اوربما بعد ان يتعب من مجاراتها يشب ابنه ويباغتها باحتلامه على ابوابها، ويبدأ حصاره حولها وقدر ما تتحرك حساسية المؤلف لتصوغ من تلك العلاقة مسافة للمسة المغامرة الحلمية، مغامرة مراهق ينقل شهوة القرية الي بيت امرأة ابيه، غير ان القارئ يبقى الى النهاية غير قادر على التحقق من تلك الاختراقات الممكنة للمرأة المثال. ان وحدتها تشع حولها جمالا يفسره حوار الصبي وهو حوار من طرف واحد، تستكمله حركة المرأة المرصودة بعين الراوي يستخدم السرد العامية في ترادف مع الفصحى كي يستثير القيم المزدوجة لغبطة الكلمات وفرحها باكتشاف الجمال وهو يتحرك بين مخياله الشعبي والاخر السامي فالعالم الذي تتشكل منه الشخصية المرصودة يكتمل بالاحساس بالكلمة وهي تستقر في الزوايا المعتمة التي تستظل باسرارها الشديدة الخصوصية، وتهرب من المواجهة والافصاح، ذلك النداء الغنج المتوسل الذي يرميه الصبي على مبعدة:( يا خالة يقولون ويقولون) وفي ترديد الصبي المفردتين يثير الراوي حساسية التأمل في التسمية، فهي تبقى خالته ولا يلفظ اسمها مجردا، كما ان في كلمة (يقولون) بعض تحايل ينفذ من خلاله الى عالم القرية المبهم عليها البراءة المخادعة في استخدام تلك الكلمات تبقي القارئ في منطقة بين الفضيحة التي يترقبها كل لحظة، حتى تتحول مهمة القص الى فعل مراودة لارتكاب الخطيئة، وبين الصد عنها او النفور منها بما يملك المثال النسوي المتسامي من اكتفاء بذاته وتعاليه عن هذه الخطيئة. هناك مجموعة من القرائن التي تدل على ان سهو الشخصية المرصودة عن ذاتها هي استراتيجية القص في التأكيد على حضورها الطاغي، فالسرد بحد ذاته هو عملية انتهاك لسرها الذي تجهله هي، لانها تقف في منطقة عازلة تقيها التفاعل مع محيطها او معرفة موقعها فيه وعندما تتواجه مع الاختراق الخارجي الذي يمثله المراهق، لاتقوى سوى على المقاومة السلبية التي تبغي احتواء تلك الاندفاعات وتخفيف غلوائها ولكنها تجد نفسها في النهاية سادرة في مجارات تلك الانتهاكات بعد ان وضعتها على مبعدة منها يصبح الطعام احد اهم الشيفرات في حكاية الانتهاك ذاك، فالصبي يمارس يوميا طقس الاستيلاء على طعامها، وهو طقس تعويضي، ولكنها لا تعترض عليه بل تسايره في النهاية وتفتقد حكايات الولد وهذياناته بعد ان يرحل للزواج من قريبته. الحلم هو المستوى الثاني الذي يطرحه الفعل السردي كمقترح لتأكيد جهل البطالة بذاتها، فهي تستيقظ في الليل وتمضي الى النهر وتقترب بعين الحلم من اولئك العشاق الذين يهيمون بها وخلال رحلة اكتشاف اهواء الجسد داخل الماء وبين الصخور، يصبح الطابع المتخيلي لمعرفة المخفي من اسرار الذات، مجرد انتقال في مستويات الافصاح في القصة فهناك ما توحي الحكاية بجهله ويعرفه القارئ بالقرينة وهي شهوة المرأة، وهناك ما توحي بمعرفته الحكاية ويجهله القارئ الى النهاية، وهو فعل الخطيئة الممتنع ومن هنا يمكن ان ندرك تلك المساحة الرحبة التي يتحرك فيها خيال البساطي حين يرسم شخصياته وعوالمها، ليس في هذه الرواية وحسب بل في الكثير من اعماله القصصية فهو يمزج الواقعي بالغرائبي عندما يبدل مواقع الازمنة والامكنة ليضع شخصياته بين وجودها المتحقق ضمن بيئة معينة، وتساميها على هذا الواقع او تفردها وغربتها عنه. انها تعيش مكانها الخاص وزمانها اي مجرتها الساهية عن هذا الوجود صورة التوأمين في رواية (ليال اخرى) مرسومة بريشة شديدة البراعة يندر ان تتوفر عند من لايملك موهبة ودقة البساطي في تكوينهما، فهما حراس اختهما والعين الساهرة التي تتجاوب مع رغبات النفور داخلها وف ي غرابة العلاقة التي تربطهما بالعالم وبالاخت، تبدو موتيفات الافصاح عن هاتين الشخصيتين، اقل بكثير من حضورهما المبهم السري الذي يهجس القارئ به ويمسكه بين السطور لانجد في الشخصية الثانية في رواية (فردوس)، ما تدلنا على ابتعادها عن فجاجة صبي فلاح يندفع الى احتلال موقع الاب قبل اوان اكتمال عقله، غير ان الفراغات التي تتركها تلك الشخصية في لعبة الكر والفر مع المرأة هي التي ترشدنا الى ما يمكن ان نسميه تفهم لعبة الموازنة في صراع الشخصيات فهي تستكمل صورة المرأة وتستظل بها ولكنها تبقى على مبعدة منها، تدير منطقها الخاص وعالمها الذي لا تملأ فراغه افصحات اللغة الوصفية ولا الحوارات المبتسرة، ولا اندفاعات الافعال الفجة. فالصراع الاساسي يتشكل في عقل القارئ الذي يتلمس قوة المرأة الضعيفة المستلبة التي تؤكد استمرار الحياة في العزلة والتوحد، مع الاستجابة الى خيارات شحيحة تبقيها خارج الميلودراما التي يمكن ان توحي بها حكاية اللامساواة الحياد هو الفعل الوحيد الممكن ازاء عالم يقايض المرأة بجسدها وبما له من قوة على الاخصاب، لانه حيلة الحياة الوحيدة على الاستمرار، في حين يؤكد منطق القص على الغياب والتلاشي، غروب شمس المرأة التي تمضي الى غربتها السديمية.