من كتاب وجوه وملامح

محسـن عبد ربه خمســـون ســنة .. فلـــوت

مولود في دمياط، عام 1948؛ وكانت الإسكندرية محلَّه المُختَـار للإقامة، يخرجُ منها للدراسة، أو لإحياء حفلات الريسيتال هنا وهناك، ولكنه لا يلبثُ أن يعود إلي شاطئها. لم يستسلم لغواية القاهرة، لأن الإسكندرية هي التي سبقت بإغوائه، فلم تبخل عليه بأضوائها الهادئة، التي وجد فيها الملاذ بعيداً عن أضواء العاصمة المبهرة وصراعاتها المستنفدة للجهد والطاقة فتفرغ لفنه، واستولت عليه آلته المحببة : (الفلـوت)، وفتحت له خزائن أسرارها، ونجح في أن يجتذب إليها قطاعات عريضة من متذوقي الموسيقى الرفيعة، التي لم يفتر حماسه لها منذ أن شـقَّ طريقه إليها؛ فأصبح ظاهرة فنية فريدة في المحافل الثقافية بالثغر، بصفة خاصة، وفي مصر بعامة.
     بدأت علاقة محسن عبد ربه بالفلوت منذ بداية ستينيات القرن الماضي، وكان والده يصحبه في زيارات للقاهرة، وحضر معه في واحدة منها حفلاً موسيقياً بدار الأوبرا، ووجد نفسه ينجذب لآلة الفلوت من بين كل آلات الأوركسترا، وكان سوليست الفلوت بالفرقة الموسيقية  متميزاً، فاستولى على أذن الطفل محسن عبد ربه. وعادت آلة الفلوت لتدهشه وهو واقف مع أبيه يتابعان فرقة موسيقية تشيكية تعزف بكشك الموسيقى في حديقة بالجزيرة، وفي هذه المرة تقابل الطفل المفتون بالفلوت من العازف الذي قدم له تعريفاً سريعة بالآلة، فازداد تعلقه بها. ويقول عازف الفلوت القدير محسن عبد ربه، فيما بعد انتبهت إلى أن علاقتى بالفلوت ذات جذور ضاربة في التاريخ، وأن شغفي به ربما يكون انتقل إليَّ في الشفرة الوراثية من جد قديم كان ينفخ في الناي فيشجي مستمعيه؛ والناي هو الجد الكبير للفلوت !. ويقول أيضاً، إنني أعيش للفلوت، وبالفلوت، وأمرض إن توقفت عن العزف يوماً واحداً !. وقد مرض محسن عبد ربه، فعلاً، عاماً كاملاً بعد أن فقد فلوته الأثير، وكان مصنوعاً من الذهب الأبيض، في حادث سرقة مؤسفة، ولم ينقذه من المرض غير قرار حضاري راق من وزير ثقافة مصر، الفنان فاروق حسني، الذي أمر بشراء فلوت جديد لعاشق الفلوت محسن عبد ربه، الذي يذكر هذه اللفتة الإنسانية للوزير الفنان بكل عرفان وتقدير، ويقول إنه موقف غير مسبوق في تاريخ الموسيقى.
     إن الفلوت آلة نفخ، عبارة عن قصبة جوفاء يتذبذب فيها الهواءُ المحبوسُ، متضاغطاً متخلخلاً بصورة منتظمة وبسرعة محددة، فتصدر النغمات. وهي آلة قديمة العهد، ظهرت قبل الميلاد في الممالك القديمة، حيث كانت الطبول تصاحبها لإنتاج إيقاع منتظم يسيرُ وفقاً له الجنود؛ ولما انتقلت إلى أوربا في العصور الوسطى طرأت عليها تطورات كثيرة انتهت بها إلى صورتها الحالية. وتصنع آلة الفلوت، بصفة عامة، من الخشب الثمين – الأبنوس في الغالب – كما استخدمت الفضة وسبائكها في صناعتها؛ وثمة آلات نادرة مصنوعة من الذهب والزجاج. وهي من الآلات الرئيسية في تكوين الفرق الموسيقية الكبرى، ولها أهمية خاصة في  فرق الجـاز؛ وقد آثرها كثيرٌ من المؤلفين الموسيقيين بمقطوعات كتبت خصيصاً لها؛ وهي تتميز بصوت هادئ ليِّـن، رقيق المشاعر، حتى ليعتبر أرق أصوات الآلات الموسيقية كلها.
وقد بدأ محسن عبد ربه دراسته للموسيقى في معهد موسيقى الإسكندرية عام 1965، وتخصص بآلة الفلوت، وبدا واضحاً لأساتذته وزملائه نبوغه في العزف عليها. ثم استكمل دراسته بالأكاديمية الملكية للموسيقى بلندن (79-1980)، جيث حصل على درجة الامتياز كعازف فلوت. وفي عام 1985، حصل على منحة من الحكومة الفرنسية ليواصل دراسته العليا والتخصصية للفلوت وموسيقى الحجرة؛ فنال دبلوم الدراسات العليا في تعليم الفلوت، ودبلوم موسيقى الحجرة، ودبلوم العازف المنفرد، المعادل لدرجة الدكتوراه المصرية.
ولمحسن عبد ربه حضور ملحوظ على المسرح، اكتسبه على مدى تجربته الطويلة مع الحفلات الموسيقية، التي بدأت بحفل للفلوت بمصاحبة البيانو بالمعهد الثقافي الألماني (جوته)، في الإسكندرية، بالعام 1976. وله سجل أعمال حافل بعشرات الحفلات التي أسهمت في بعث نهضة موسيقية في الإسكندرية، التي كانت الأنشطة الموسيقية قد بدأت تتقلص فيها عند منتصف السبعينيات. ولم يقتصر نشاطه على المراكز الثقافية الأجنبية بالمدينة، وإنما امتد إلى عدد كبير من المنتديات الثقافية والأندية الاجتماعية. وفي عام 1987 قام بجولة موسيقية شملت أوربا وأمريكا واليابان، وتضمنت حفلاً موسيقياً بمسرح (أندريه مالرو) في باريس؛ وفي عام 1995 أحيا حفلاً موسيقيا كبيرا بمناسبة فوز مصر بالجائزة الكبرى في بينالي فينيسيا الدولي؛ ثم قدم حفلين بالأكاديمية المصرية بروما في عامي 1996 و 2001.
ولمحسن عبد ربه رؤيته الخاصة في تنفيذ وتقديم الأعمال الموسيقية لكبار المؤلفين، من عصر الباروك إلى العصر الحديث؛ وإلى جانب مهارات الأداء الفني، فهو على معرفة واسعة ومتعمقة بتاريخ وتقنيات باخ وهاندل وتليمان وهايدن وموتسارت وبيتهوفن، وغيرهم؛ كما أن له تجربته الخاصة في إعادة صياغة بعض المؤلفات الموسيقية الشرقية القديمة لآلة الفلوت، بعد إجراء معالجات هارمونية لها وكتابتها للفلوت والبيانو على وجه خاص، أو للفلوت مع الرباعي الوتري. كما أعد للفلوت بعض ألحان سيد درويش، ومنها (إيه العبارة؟) و (زوروني كل سنه مره)، وقد طوعها لأسلوب العزف الغربي. وكتب المؤلف الموسيقي المصري عطية شرارة بعض المؤلفات خصيصاً ليؤديها محسن عبد ربه، الذي أضاف إليها (قفلات) بأسلوب وتقنيات غربية ساعدت على إظهار براعة الأداء، دون أن تفقد الموسيقى مذاقها وروحها الشرقية الخالصة.
ويغطي برنامج (ريبرتوار) محسن عبد ربه مؤلفات عدد كبير من الموسيقيين العالميين والمصريين، قدمها من واقع المدونات الأصلية لأعمالهم؛ كما قام بإعادة صياغة بعض هذه المؤلفات من أجل الفلوت.
ولم يتخل محسن عبد ربه عن مهامه التعليمية، فهو يواظب على تدريس العزف على الفلوت منذ عقدين من الزمان في كونسرفاتوار الإسكندرية، وفي الأتيلييه (جماعة الفنانين والكتّاب) بالإسكندرية. وقد تتلمذ على يديه عشرات من عازفي الفلوت المصريين والأجانب، يبرز من بينهم "نيكولا فاليت"، سوليست الفلوت الفرنسي وعازف الفلوت الأول بالأوركسترا الأوربي، وعازف الفلوت اليوناني "مارك راموس"، عازف الفلوت الأول بأوركسترا أثينا السيمفوني.
وقد لفتت ظاهرة (محسن عبد ربه) نظر المخرج الدكتور محمد كامل القليوبي، فأخرج فيلماً وثائقياً عنوانه (فلـوت)، عن المسيرة الفنية لعاشق الفلوت، أنتجه المركز القومي للسينما بالعام 2000. كما ضم المعجم الشامل للموسيقى العالمية، الذي وضعه الباحث والمؤرخ الموسيقي حسام الدين زكريا، اسم محسن عبد ربه في قائمة أعلام الموسيقى الرفيعة حول العالم، باعتباره أحد أعلام الموسيقى المصرية المتطورة في عصرنا الحالي. وحظي محسن عبد ربه بالتكريم في مناسبات عديدة، منها عيد الفن والثقافة بالإسكندرية عام 1985؛ وفي عام 1992 نال الميدالية التذكارية في الاحتفال باليوبيل الذهبي لكلية الطب، جامعة الإسكندرية، لدوره المهم والمؤثر في الحركة الثقافية بالمدينة. وفي ديسمبر 2007، رشحه أتيلييه الإسكندرية لجائزة الدولة للتفوق في الفنون؛ كما رشحته السفارة الفرنسية بالقاهرة وقنصلية فرنسا بالإسكندرية، عام 2008، للحصول على وسام فارس في الفنون والآداب من الجمهورية الفرنسية. ويعتبر محسن عبد ربه أن إقبال متذوقي الموسيقى على حفلاته هو أبلغ تكريم يتجدد في كل حفلة يعزف فيها على الفلوت، آلته الموسيقية الساحرة التي وهبها كل عمره.