حوار بين أرنولد توينبي و دايساكو إيكيدا جزء من كتاب "اختر الحياة" والذي نشر إثر حواراتهم بلندن عام 1976 وترجم الى عدة لغات
إكيدا: في دراسة الذهن البشري، كانت العمليات الذهنية الواعية – وهي الإدراك الحسي، والتفكير، والإرادة – موضوعات للتأمل الفلسفي مدة طويلة. وبرأيي أن كل الفلسفات الغربية مبنية على دراسة الوعي. إلا أن الوعي هو مجرد جزء من الحياة الإنسانية.
توينبي: أجل، أوافقك؛ فالوعي ليس إلا السطح الظاهر للنفس. إنه كالقمة المرئية من جبل جليدي جسمه محجوب.
إكيدا: ولهذا أعتقد أن الصورة الكاملة للنفس الإنسانية متعذرة ما لم ينصرف الانتباه إلى عالم ما تحت الوعي الكامن وراء الأعمال والأفكار والرغائب البشرية.
توينبي: إن ما تحت الوعي هو مصدر الحدوس التي بوسعها أن توحي بالفكر العقلي، ولكن لا يمكن الوصول إليها بالعقل مادام العقل يقيد نشاطه بالمستوى الواعي. ومن الملاحظ أن بعض المكتشفات التي يمكن أن تتم، والتي تمت أخيراً، وعُبِّر عنها بالمصطلحات المنطقية وأثبتتها التجربة قد أحدثتْها أصلاً الحدوس غير المنطقية وغير المبرهَن عليها التي تدفقت إلى الوعي من "ما تحت الوعي".
إكيدا: أجل، إن المكتشفات العلمية العظيمة، كمبدَعات الفنانين العظام، هي في أغلب الأحيان نتيجة الحدس الروحي.
توينبي: مما لاشك فيه أن ما تحت الوعي هو ينبوع الشعر والبصيرة الدينية. وهو إلى ذلك مصدر كل الانفعالات والدوافع. والأحكام الأخلاقية التي نصدرها على مستوى الوعي تميز بين الانفعالات والدوافع الطيبة والشريرة. وكلما أفلحنا في التعمق في ما تحت الوعي الذي ننقله إلى وعينا اتسع مدى سيطرتنا الواعية على انفعالاتنا ودوافعنا. والسيطرة الواعية تتيح لنا التغلب على منتجات ما تحت الوعي التي قررنا أنها شريرة وتشجيع منتجات الوعي التي قررنا أنها طيبة.
وأنا لذلك أعتقد أنه من الأهمية بمكان للخير الإنساني أن نستكشف أعماق ما تحت الوعي في النفس البشرية لنُخضِع الكثير من هذه الانفعالات والدوافع للسيطرة الواعية ما أمكننا ذلك. إن هذا نشاط روحي مُجْزٍ، ولكنه إلى ذلك نشاط صعب. فما تحت الوعي يشبه ربَّ البحر الأسطوري الإغريقي بروتيوس. إنه يحاول أن يتملص من السيطرة، ويستاء من السيطرة عندما يخضع لها، ويملك وسيلة بارعة لأخذ ثأره من الوعي لأنه تحكَّم به ولفكِّ ارتباطه به حين تتم السيطرة عليه.
إكيدا: إن أول من استخدم مناهج العلم الطبيعي لاستكشاف ما تحت الوعي هو عالِم نفس الأعماق تسغموند فرويد. ومن الطبيعي أنني أقدر تقديراً كبيراً عمله وعمل الآخرين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. ولكن حتى في الأزمان القديمة، كان العلماء البوذيون قد بحثوا في عمق النفس الإنسانية دون مستوى الوعي.
توينبي: أوافق على أن اكتشاف الأعماق ما تحت الواعية للنفس وسبرها، اللذين لم يبدآ في الغرب إلا حديثاً في زمن فرويد، كانت الهند السبَّاقة فيهما على الأقل في زمن البوذا ومعاصريه الهندوس؛ أي قبل فرويد بـ 2400 سنة على الأقل. والمحاولة الغربية الحديثة لاستكشاف ما تحت الوعي والسيطرة عليه لم تتخطَّ المرحلة القديمة الساذجة والفجة. وقد تابع الهندوس والبوذيون هذا البحث مدة أطول وقطعوا شوطاً أكبر. وينبغي للغربيين أن يتعلموا الكثير في هذا المجال من التجربة الهندية والآسيوية المشرقية. وفي الكتب والمقالات التي نشرتُها، جذبت انتباه قرائي الغربيين إلى هذه الحقيقة التاريخية، بوصفها جزءاً من محاولتي المستمرة مدى الحياة أن أساعد الإنسان الغربي الحديث على التخلص من اعتقاده الخاطئ المضحك أن الحضارة الغربية قد تفوقت على كل الحضارات الأخرى ببزِّها لها.
إكيدا: إنني أفهم هذا بوضوح وأحترم جهودك المخلصة في هذا الاتجاه. فهناك مفكران بارزان في المدرسة الهندية الفيجانافادية Vijanavada للفلسفة، وهما أسانغا Asanga وفاسوبندهو Vasubandhu (وكلاهما من القرن الرابع الميلادي) أضافا مفهومات جديدة إلى الحواس الست المعروفة حتى ذلك الحين. فقد كانت الحواس الست التقليدية هي البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس، والحاسة السادسة هي التي تضبط الحواس الخمس الأخرى بالتفكير العميق (مَنَس–فيجنانا manas-vijnana) والقدرة على التبصُّر العميق في طبيعة الحياة (ألايا–فيجنانا alaya-vijnana). والحاسة السابعة، وهي القدرة على الاستنباط، تتضمن التفكر العميق؛ وفي هذه المقولة يقع قول ديكارت: "أنا أفكر؛ فأنا موجود." وقد تابع المفكرون الغربيون هذه المقولة إلى نقاط بعيدة. أما فاسوبندهو فقد مضى أبعد من ذلك ليكتشف الحاسة الثامنة التي بها كان قادراً على أن ينظر بعمق أشد، ومن غير وهم، في طبيعة الحياة الإنسانية. وتشيهي Chih-I من الصين (من القرن السادس للميلاد)، بتطويره فكر فاسوبندهو، استنبط حاسة تاسعة هي (أمالا–فيجنانا amala-vijnana) التي تصل إلى الفكر الروحي الجوهري الذي ينشِّط كل العمليات البسيكولوجية الأخرى. وأصبح فكره البذرة التي نمت منها بوذية تيين–تاي T’ien-t’ai. لقد ألمعت باختصار إلى هؤلاء الرجال لأظهِر أن المفكرين البوذيين حاولوا منذ الأزمان القديمة أن يفهموا المناطق العميقة في الحياة وراء عالم الوعي.
توينبي: لا شك أن جهود هؤلاء الرجال قد أدت إلى أهم النتائج، ولكنني أعتقد أنه حتى السطح الواعي للنفس، الذي هو نسبياً ممكن الفهم، ليس بالمقدور فهمه فهماً كاملاً وصحيحاً ما لم نره كمجرد جزء لا يُجتزأ من النفس الكلِّية التي تهيمن فيها الأعماق ما تحت الواعية على السطح الواعي بمقدار ما تكون هذه الأعماق ما تحت الواعية غير مفهومة أو مجهولة. والفائدة في نقل هذه الأعماق ما تحت الواعية، أو على الأقل الطبقات العليا منها، إلى الوعي هي في أننا حين نغدو واعين لها، نتمكن من السيطرة عليها، بدلاً من أن تسيطر علينا من حيث لا ندري.
وأنا أعتقد أن الفيلسوف البوذي الهندي فاسوبندهو والفيلسوف البوذي الصيني تشيهي قد اخترقا، بوعيهما، الطبقات الدنيا لما تحت الوعي (إن الكلمة المكانية – "الدنيا" – غير وافية، وقد تكون مضلِّلة، ولكن المفردات المكانية، المستخدمة استعارياً، هي المفردات الوحيدة التي بحوزتنا لوصف الظواهر النفسية). وأعتقد كذلك أن الطبقة الجوهرية في الأغوار ما تحت الواعية في النفس الإنسانية تتماثل مع الحقيقة الجوهرية الكامنة تحت الكون برمَّته.