كل زمن له عباقرته ونجومه .. فرغم مرور السنين مازلنا نقرأ في زماننا كتب عباس العقاد.. ود. طه حسين وتوفيق الحكيم ..ومي زيادة .. وفي مجال الصحافة نتحدث عن مصطفى وعلى أمين .. وحسنين هيكل وصلاح حافظ ..وأمينة السعيد .. وفي الفن نشاهد يوسف وهبي وأمينة رزق .. واسماعيل يسين
وهناك مئات غيرهم عاشوا في زمن كانت وسائل التواصل مع الجماهير متمثلة في الصحف الورقية والكتب والسينما والإذاعة .. لم يكن لديهم هذا الزخم الإعلامي من الإنترنت والتليفزيون وشبكات التواصل الإجتماعي .. كانت الدنيا غيرالدنيا .. وكان الموهوب في الأدب والصحافة والفن يعتمد على قراءاته ووسائل الإعلام التي كانت محدودة في ذاك الوقت .. الآن يحتاج من يسعى إلى النجاح والشهرة إلى مجهود إضافي .. لأن عدد البشر تضاعف بشكل كبير وصارت الإنترنت تربط العالم في لحظات .. وبعد أن كان (خير جليس في الزمان كتاب ).. وآية هذا الزمان الكتب .. (وما الدنيا إلا مسرح كبير) .. صارت الشهرة الأوسع للمؤثرين من اليوتيوبر والسوشيالجي والبلوجر ومنشئ المحتوى ..وصار الموبايل ساحر العصر الذي لايستغني عنه البشر في كل مكان والذي يغنيه في أحوال كثيرة عن الكتاب والصحيفة والتليفزيون والسينما .. صرنا في زمن من الصعب فيه أن نجد أديباً شهيراً كالعقاد وطه حسين بل صار كتاب السيناريو أشهر مؤلفي زماننا .. وأصبح مذيعو القنوات الفضائية والمدونون أكثر شهرة من رؤساء التحرير وكتاب الصحافة .. وصرنا نتذكر عدداً محدوداً من مشاهير الفن من بين عشرات الآلاف يطلون علينا كل دقيقة من المنصات الاليكترونية و(التيك توك) و(الريلز)
هانحن في زمن الموبايل الذي فرض قواعده في الإبداع والشهرة والنجاح المادي والأدبي .. الموبايل الذي جمع كل شيئ في يدك وجعل كل ماتريد بين أصابعك.. ولكن الزمن الذي ولدت فيه الجمهورية كان مختلفاً.. ففي عام 1953 لم تكن شبكة الإنترنت قد ظهرت..
كانت فترة الخمسينيات من القرن العشرين عقداً مختلفاً. استمرت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي طوال العقد بأكمله. . وبدأت أفريقيا في التخلص من الاستعمار كما بدأت حرب فيتنام.ودارت حرب أزمة السويس على الأراضي المصرية. وأطاح فيدل كاسترو ..وتشي جيفارا وآخرون بالسلطات لإنشاء حكومة شيوعية في كوبا.
ثورة 23 يوليو عام 1952 أيقظت العالم العربي.. ومن القاهرة بدأت حركات التحرير في العالم العربي وظهرت أولي معالم الديمقراطية.. لكن القوي الاستعمارية لم تترك الفرصة لمصر.. حاولت اجهاض مسيرتها نحو النهضة.. وجاء العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 حيث خرج منه الزعيم جمال عبدالناصر أكثر قوة. والتف الشعب حول ثورته يحميها ويحلم معها بالعدل والمساواة والحرية.
ويوم 20 أكتوبر أوقفت الولايات المتحدة مساعدة مالية قدرها ستين مليون دولار لإسرائيل بعد أن رفضت الحكومة الاسرائيلية توصيات كبير مراقبي الأمم المتحدة بوقف أعمال تحويل مجري نهر الأردن.. وزار المبعوث الأمريكي أريك جونستون منطقة الشرق الأوسط حاملاً مشروعاً يتعلق بتقسيم مياه الأردن بهدف تنظيم وصول حصة إسرائيل من المياه إلي بحيرتي طبريا والحولة تمهيداً لجرها إلي المستوطنات في صحراء النقب..ويوم2 نوفمبر فاز في الانتخابات التشريعية بالسودان الحزب الوحدوي الوطني المؤيد للوحدة مع مصر.. ورئيسه إسماعيل الأزهري يشكل الحكومة..ويوم9 نوفمبر توفي الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية وتولى شقيقه سعود عرش المملكة.
في عام 1953... تم اختيار نيكيتا خروتشوف كسكرتير أول للحزب الشيوعي السوفييتي. وتم اختيار المارشال جوزيب بروز تيتو رئيسًا ليوغوسلافيا
قبل وجود أقراص DVD وقبل أن يكون هناك VHS كان الناس يشاهدون الأفلام في السينما، ولا يقومون بتنزيلها عبر الإنترنت. .وفي عام 1951 ظهر التلفزيون الملون في الولايات المتحدة .. وفي عام 1953تم عرض أول فيلم بتقنية سينما سكوب، فيلم "القميص" (ذي روب) الفيلم الذي أثار اهتمام العالم كان ( كوكب القرود) والأغنية الأشهر كانت "مرحبا
كانت الكتب لا تزال تُقرأ على الورق، وليس على الأجهزة الرقمية. . ونشر إيان فليمنج روايته الأولى لجيمس بوند Casino Royale .. وفي المملكة المتحدة تساعد وكالة المخابرات المركزية في الإطاحة بحكومة محمد مصدق في إيران، والإبقاء على الشاه محمد رضا بهلوي على العرش.
ذهبت جائزة نوبل للآداب في ذلك العام إلى ونستون تشرشل. و جائزة نوبل للسلام إلى جورج كاتليت مارشال و الفيزياء إلى فريتس زيرنيكي من هولندا
وفي ظل كل هذه الأحداث كانت مصر مشغولة بثورتها وكان جمال عبد الناصر يفكر في وسائل الإعلام التي تنقل نبض الشعب للقادة ويخاطب من خلالهاعبد الناصر شعب مصر وشعوب العالم أجمع .. وقرر إصدار صحيفة تنطق بلسان ثورة 23 يوليو 1952 .. وكانت الجمهورية
بداية المتاعب
صباح يوم السبت 4 يوليو عام 1953 .. ذهب البكباشي أنور السادات إلي مستشفي الدكتور مظهر حيث كان الزعيم جمال عبدالناصر هناك بعد أن أجريت له عملية المصران الأعور.. جلس إلي جواره وبدأ الحديث عن صحافة الثورة!..
قال له جمال إن "الثورة" يجب أن يكون لها صحافتها..ومن الضروري إصدار جريدة يومية.. ثم كانت المفاجأة عندما قال له :إيه رأيك المسألة دي عايز أحطها في رقبتك..؟
قال السادات علي الفور:
- إستني عليه شويه لما أفكر
وخرج يومها من مستشفي الدكتور مظهر ليفكر.. ومرت ساعات.. وكلما فكر كبرت المسألة في نظره أكثر وتعقدت وظهرت مشكلة كبري جديدة حين سأل نفسه : ماذا أستطيع أن أصنع؟! ..إن المسألة ليست هينة علي الإطلاق. فإصدار جريدة يومية يتطلب استعداداً ضخماً
لم يكن يرى أمامه في تلك الأيام أملاً واحداً يجعله يبدأ في إعداد "الجهاز" الضخم الذي يريده ليلعب دوره في الجريدة ولم تكن تحت يده الإمكانيات لإصدار الجريدة اليومية. فقد عمل صحفياً في فترة ما من حياته.. كان محرراً في دار الهلال وعرف من تجربته تلك كيف تصدر الصحف الأسبوعية أما اليومية فمصيبتها أكبر!! وجلس يتصور "الأجهزة" التي لابد من وجودها والاطمئنان إليها لتتحول في النهاية إلي "جهاز" واحد كبير.. يصنع جريدة يومية تصدر كلما أشرقت شمس يوم جديد..
وتلك الأجهزة هي: المطابع وعمالها وأسرة التحرير. والإدارة.. والمشكلة الكبري "التوزيع" فلابد من تنظيم عملية التوزيع حتي يمكن أن تصل "الجريدة" إلي أيدي أفراد الشعب ثم المشكلة الأكبر وهي الإعلانات.. وأية جريدة تعتمد أساساً علي الإعلانات لكي يمكنها أن تصدر بصفة مستمرة!!..
العملية كلها تحتاج إلي هذه الأجهزة.. ومر يومان.. وتعقدت المسألة أكثر في ذهنه.. وذهب إلي جمال عبدالناصر في يوم 6 يوليو.. ليقول له بكل صراحة:
- مستحيل.. لا يمكننا إصدار جريدة يومية.. المسألة معقدة جدا.. وعايزة وقت طويل وعايزة أخصائيين.... وحتي لو وجدناهم فالمسألة ستكون مجازفة!.
نظر إليه جمال وهو صامت.. ثم قال له: أمال إحنا عملنا "الثورة" إزاي؟!
وساد الصمت لحظة.. ثم مضي يقول: الثورة لازم يكون لها صحافتها.. والجرنال لازم يطلع قبل أخر السنة دي!!..
ومرة ثانية خيم الصمت عليهما ثم وجد السادات نفسه يقول له: خلاص.. أنا اقتنعت!!..
وابتدأت المعركة فعلا .. بعد خروجه من مستشفي الدكتور "مظهر" بدأ الاتصال بالصحفيين.. ليسمع دروساً في الإدارة والتوزيع والإعلانات .. وفي أول أغسطس استأجر شقتين في عمارة جديدة بشارع شريف. وبدأ في إعداد "الجهاز الكبير".. وتم توقيع عقد شراء دار "الزمان" بمطابعها من إدجار جلاد.
كان الوقت يمضي بسرعة.. والاستعداد لإصدار الجريدة يواجه مشكلة تلو أخرى وكان يتغلب عليها .. ودائماً ماكان يتحدث مع نفسه :علينا أن ننشر الحقائق لا الأوهام.. علينا أن نقول في كل صباح للشعب حقيقة جديدة كانت خافية عليه بحكم وضع "الصحافة" في العهود التي مضت.. علينا أن نقف إلي جوار الأحرار في مصر وفي خارج مصر.. كان علينا أن نثور علي صفحات "الجمهورية" مثلما ثرنا في الميادين الأخري.. وأطل الشهر الأخير.. شهر ديسمبر حيث كان لابد ل"الجمهورية" أن تصدر كما وعد جمال.. كان يذهب إلي جمال عبدالناصر يحمل إليه البروفات. وفي يقينه أنه سيأخذه في أحضانه مهنئاً. ولكن يفاجئه بنظرات السخرية فهي لم تعجبه. حيث كان يتوقع أن تكون "الجمهورية" أحسن من تلك التي أمامه.
وقضى أياماً مرهقة في إعداد البروفات حتي وصل في النهاية إلي "الشكل" الذي يريده.. وجاءت اللحظة الحاسمة.. التي ستخرج فيها "الجمهورية" من خلف جدران ذلك المبني الأبيض إلي أيدي الشعب في الشمال والجنوب.
وفي ليلة 7 ديسمبر كان المبني الأبيض يموج بالصخب..وفي المطبعة وقف السادات ومعه حسين فهمي رئيس التحرير بين العمال والمحررين والمصححين. يتابعون عملية إصدار أول عدد من "الجمهورية" في جميع مراحله.. تلاشت فجأة كل المتاعب وشعر في ذلك اليوم أنه أقوي بكثير مما كان عليه في الأيام السابقة.. ومضت الساعات وهو في المطبعة يترقب "المولود" الجديد.. كانت الساعة قد قاربت الثانية صباحاً.. وضغط مهندس المطبعة علي "الزر الكهربائي" ودارت المطبعة
كانت خيوط الصباح البيضاء قد بدأت تزيح عن القاهرة رداء الليل الأسود. وبدأ الناس يخرجون من بيوتهم.. ثم بدأ باعة الصحف يصيحون : "الجمهورية".. "الجمهورية".. ورأى السادات المولود العزيز بين يدي الشعب.. واتجه السادات بالسيارة إلي منزل جمال عبدالناصر.. كان جالساً يتناول طعام الإفطار. ووضع "الجمهورية" علي المائدة .. ويسأل السادات نفسه في مقاله الذي يروي فيه المتاعب التي واجهته حتى صدرت الجمهورية قائلا: هل المعركة إنتهت!!
ويجيب : أبداً.. لقد كانت المعركة في بدايتها.. إن صحافة الرأي معركة لها بداية أما النهاية فلا أحد يدرك متي تكون؟!