عناية جابر(لبنان)
السفير2006/09/23
(أبعدوه 2003 عن مصر فغدت بالنسبة له فلسطين أخرى)
تميم البرغوثي:
أصبح الشعر فرديا منغلقا على نفسه
تميم البرغوثي ابن شاعر معروف "مريد البرغوثي"، وروائية وناقدة معروفة "رضوى عاشور"، لا عجب ان يبكر تميم للشعر والأدب وأن ينافس أباه على ذلك، فيسعى، وهو الذي يكتب العامية المصرية والفصحى ويتفنن في أنواع الشعر كلها، إلى ان يشق طريقه الخاص ويذهب أبعد من سالفيه.
*إلى أي مدى تأثير والدتك الكاتبة والروائية رضوى عاشور ووالدك الشاعر مريد البرغوثي في نتاجك الشعري؟
نعم إن لهما تأثيرا كبيرا عليّ. علاقتي بوالدي كانت أولا علاقتي بالشعر عموماً. ففي طفولتي قبل ان أدرك معاني الكلام، كنت أسمعه يلقي شعره على والدتي وعليّ، فأدرك أن كلامه هذا الذي يلقيه مختلف عن بقية الكلام. إن له إيقاعاً خاصاً به. وطقساً في قراءته. كان هذا ظاهراً حتى لابن الخامسة او الست الذي كنته. ثم إن أبي لم يكن مسموحاً له ان يقيم في مصر، حيث كان مُبعداً عنها في طفولتي. فكنت في صغري أقلده حتى في طريقة جلستي. ففي عمر الثانية عشرة سألته ما الفرق بين الشعر وباقي الكلام، غير الطقس والإيقاع، فبدأ تعليمي أول أوزان العروض، المتقارب والوافر، ثم قال لي لن تعرف الفرق حتى تقرأ الشعر، ومنذ ذلك الحين لا أكف عن قراءة الحديث والقديم.
بدأت بكتابة الشعر بالعامية. كانت القصيدة الأولى التي كتبتها ونشرتها، قصيدة بالدارجة الفلسطينية، ثم واليت الكتابة بالدارجة المصرية والفلسطينية، وكنت أكتب بهما وأنشر، كما وأكتب بالفصحى من دون ان أنشر لإدراكي ان الشعر قول، وأنه لا يجدر بالمرء ان يقول ما قيل، وما قيل من الشعر بالدارجتين قليل إذا ما قيس بما قيل بالشعر بالدارجة الفصحى فيسهل عليك ان تزعم ان قولك جديد، وعليه فهو جدير. ولذلك تأخر نشري بالفصحى عن نشري بهاتين الدارجتين. في 9 نيسان 2003 عند دخول القوات الأميركية إلى بغداد، أحسست بتهديد بالفصحى وما تحويه. إن ثقافة كاملة مهددة. وانكسر ترددي وخوفي من القول بالفصحى فتردد في بالي أول شطر من قصيدة أمضيت سنة ونصف سنة في كتابتها هي "مقام عراق" وهي كتاب كامل فيه من أشكال كتابة الشعر العربي قديمها وحديثها، من العمودي إلى التخميس، إلى التوشيح، إلى التفعيل، إلى النثر، إلى السرد، إلى الموال، ولم أعد بعدها أخشى ان أقول ما قيل.
لا تضاد
*أشعر أنني لا في حضرة شاعر في مقتبل العمر، بل في حضرة رجل مكتمل الحكمة والمعرفة، أين الحب في مطولاتك الوطنية، ولماذا هذا الانصراف الكلي عن مشاغل الحياة الدنيوية؟
في سؤالك افتراضان أستغربهما. أولهما المقابلة على التضاد بين الحب والحكمة. وثانيهما افتراض المقابلة على التضاد أيضا بين الوطني والدنيوي. أزعم ان المرء لا يقسّم شعوره بالمسطرة ويصفّ أحاسيسه صفوفا كصفوف أولاد المدارس صباحاً. فحين أكتب قصيدة، لا أرسم لها خارطة طريق. بل هي ما أهمني مكتوبا. فإن أهمني حب كان حبا وإن أهمني سواه كانت القصيدة سواه. ولكن همي، أظن الناس يشتركون معي في هذا، هم مختلط فيه الحب وغير الحب. أما بشأن العمر، فقد قلت من قبل "وهل ثم من جيل سيقبل أو مضى/ يبادلنا أعمارنا فنبادله. أزعم ان ما يمر به جيلنا، يجعل الكثير من ردود الأفعال المتوقعة من حزن وفرح وحب وندم ترفاً وتخرج نفس هذه الأحاسيس في غير أشكالها وغير أسمائها، كالأطفال الذين يكبرون في وقت الحرب تكون تصرفاتهم ولغتهم وردود أفعالهم غير متوقعة وغير عادية ولا يمكن فصل سلوك واحد او شعور واحد منها عن سواه.
*دراساتك الأكاديمية إلى أي مدى تُشبعك وأنت المليء بالشعر؟
درست العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ثم في الجامعة الأميركية فيها، ثم درست الدكتوراه بجامعة بوسطن في الولايات المتحدة. وكان ما دفعني إلى دراسة هذا العلم دون غيره، ارتباط الخاص بالعام في تجربتي الشخصية. فمنذ صغري ومنذ بدأت قراءة التاريخ والشعر معا، كنت أرى في الشعر العربي، صلة بين الفرد والجماعة، لا قطيعة. فحين كانت الجماعة تعرف نفسها بالقبيلة كان الشاعر شاعر قبيلة. وحين عرفت نفسها بالخلافة والإمارة كان الشاعر شاعر الخليفة او الأمير. وحين عرفّت نفسها بالشعب او الأمة، أصبح الشاعر شاعرهما.
وفي حال هزيمتها، وإحباطها وانفراط عقدها، عرفّت نفسها بأنها أفراد منغلقون على أنفسهم أصبح الشعر فرديا منغلقا على نفسه كالمكتئب الذي في وضع الجنين. وكان سقوط بغداد بالنسبة لي على الأقل، اللحظة التي أدركت فيها ان مثل هذا الاكتئاب والانغلاق ترف. وقلت كفوا لسان المراكب إنها ترف عن سائر الموت، هذا الموت يختلف. وعليه فلا أرى قطيعة بين فهم الجماعة وتاريخها ونفسيتها، وهذه هي دراسة السياسة والتاريخ وبين ان يكون المرء شاعرا عربيا في زماننا هذا.
*ثمة رموز شعرية كبيرة، عادت إلى مصالحة الحياة العادية في الشعر، وتكتب في التفاصيل والحب وسواه، ما رأيك؟
لكل امرئ ما أهمه. ولا أظن ان فلسطين او غيرها كانت خارج ذواتهم حين كتبوها، ولا أن ذواتهم كانت خارج فلسطين حين كتبوها. وشعرهم جميل في الحالين.
*خبّرني أكثر، لي وللقارئ اللبناني تحديدا، عن النتاج الشعري الفعلي أي المنشور للشاعر تميم البرغوثي
لي أربعة دواوين منشورة، أولها "ميجانا" بالعامية الفلسطينية عن "بيت الشعر برام الله"، ثم ديوان "المنظر" وهو بالدارجة المصرية، وصادر عن "دار الشروق" بالقاهرة، ثم ديوان "قالوا لي بتحب مصر، قلت مش عارف" أيضا عن دار الشروق بالقاهرة وهو الديوان الذي كتبته عند اضطراري لمغادرة مصر بعد المظاهرات المعترضة على غزو العراق عام .2003 ثم ديوان "مقام عراق" بالقاهرة، وهو بالعربية الفصحى وصدر عن "دار أطلس".
مصر
*مصر، ما الذي تعنيه لك فعلا؟
علاقتي بمصر علاقتان، إحداهما عبر أمي، والثانية مباشرة. للمفارقة كانت علاقتي بمصر عبر أمي تأكيداً على فلسطينيتي بمعنى إنني منذ صغري أمي تؤكد على انتمائي الفلسطيني والمسؤولية المرتبطة بهذا الانتماء وتنقل إليّ شعور المصري بفلسطين. قد يكون شعور العربي غير الفلسطيني بفلسطين فيه تقديس قد يزيد حتى على شعور الفلسطيني بها. وارتبط ذلك حتى بتربيتها الأخلاقية لي. فحتى الأخطاء الصغيرة التي قد يرتكبها الطفل كنت أُنهى عنها لأن أمي تُفهمني ان الفلسطيني لا يملك ان يُخطئ. أما علاقتي أنا بمصر، فقد أعطتني مصر إحساسا بالاستقرار ووطنا مفروغا منه، ليس محل تشكيك او تهديد، وطنا لا يطالب مواطنيه بالبطولة، وطناً يحبه المرء ولا يحتاج إلى تقديسه، وطنا قريبا تبلغ طيبته حد السماح لك بالملل منه والخروج عليه. وهذا محروم منه كثيرا من الفلسطينيين ولهذا كانت تجربة إبعادي من مصر عام, 2003 وهي محاولات مستمرة إلى الآن، برفض السلطات المصرية منحي تصريحا للعمل في مصر، كانت تجربة مزلزلة بالنسبة لي. فقد كادت مصر تتحول إلى فلسطين أخرى، على الصعيد الشخصي على الأقل، فحاولت تلخيص علاقتي بها بقصيدة "قالو لي بتحب مصر..." وهي ديواني الثالث. وبعد إبعادي عن مصر كما ذكرت، عندما سقطت بغداد أحسست ان العراق ومن ورائه العالم العربي كله يتحول إلى فلسطين أخرى فكتبت "مقام العراق".