الذات الشاعرة بين شجن الغربة وعنفوان الأمل

قراءة في تجربة الشاعر محمد الشحات

    تثير تجربة الشاعر محمد الشحات، بكل امتداداتها ومحطاتها وعمق زمنها، أسئلة متعددة، تتصل بجوهر التجربة، التي تعبر عن رحلة شاعر، يُحسَب على جيل السبعينيات في تكوينه الأولي وتأثر به بشكل كبير، وسعى للاستفادة من تجارب الأجيال الشعرية التالية له في الثمانينيات والتسعينيات وما بعد الألفية الثانية.

    ومن شأن قراءة تجربته الشعرية أن تسلط الضوء على أهمية القراءة ذات المنظور التتبعي والكلي وآثار هذه مثل هذه القراءة، في التعرف على عالم الشاعر، وجمالياته ورؤاه، وأيضا ثباته وتبدلاته وتطوره الفني والرؤيوي والفكري.

   ولعل الاستراتيجية الأنسب في قراءة مثل هذه التجارب تتأسس على تفعيل الذائقة والدربة النقدية، لفهم التجربة ضمن سياقاتها الزمنية، والظروف التي ألمّت بالوطن، بجانب خبرات الشاعر الإبداعية، وأيضا الاستفادة من بعض المنهجيات النقدية بوصفها سبيلا للوقوف على المعطيات الجمالية، وتتخذ من العقل والوجدان طريقين للتعرف على الطرح الفكري. فالشعر ليس وجدانا أو صورا أو تراكيب فقط، وإنما هو كل جامع، يشبع الذائقة بأخيلته، والذهن بأفكاره، والقلب بما يبثه من أحاسيس.

  نقول هذا، لأن كثيرا من الدراسات النقدية تتوقف عند ديوان ما، وفي أحسن الأحوال ترصد ملامح من عناصر التجربة الشعرية، فتتبع مظاهرها وملامحها، في عدة دواوين. وتظل الرؤية الكلية غائبة، بكل ما فيها من ملامح ومعالم، وأيضا معرفة توجهات الشاعر طيلة مسيرته الإبداعية، وهو ما يفيد الشاعر في مسيرته القادمة، كما يدعو مجايليه وقرّاءه إلى تأمل التجربة وفق محاور ومداخل جديدة، أساسها النظر إلى مجمل التجربة، وهو ما يفسر حرص بعض المبدعين على أعمالهم الكاملة في مجلدات تحت اسم الأعمال الكاملة أو غير الكاملة، والتي عادة ما تنشر في الخريف العمري للشاعر، أو بعد وفاته، فتكون المسألة أقرب إلى الاحتفاء به، وليس قراءته بعيون جديدة. بمعنى أن دراسة التجربة الإبداعية بوصفها كلا، لا جزءا؛ وبشكل دائم من قبل أجيال عدة من النقاد والمبدعين والشباب؛ مما يسلط الضوء على الجديد فيها، ويجعل الشاعر في حالة تفاعل دائمة مع متلقيه؛ ومن ثم النظر إلى ما يميزها وما يمكن أن يعيد النظر فيه، وتلك من أهم ثمار الرؤية الكلية من المحطات الأولى إلى اللحظة الراهنة. فالإبداع لا يعرف انتهاء، وإنما يعرف أن يكون المبدع في حالة استثارة دائمة، بنفس الروح الإبداعية التي استهل بها تجربته في شبابه، ولكنه سيضيف عليها من رحيق خبراته المتراكمة في الكتابة، وعصارة حكمته وحنكته في الحياة، وتتبعه لشأن الوطن وحال الأمة.

  ومن خلال استقرائنا لتجارب العديد من المبدعين الشعراء، نجد أنهم يسلكون دروبا مختلفة، فبعضهم يتغير فكريا، فتتسع أو تضيق رؤاه، من ديوان إلى آخر، إذا نظرنا إلى الديوان بوصفه علامة مميزة في مسيرته، ليؤرخ ويوثق ثمار تجربته. وهناك من يلتزم مسارا يكاد يكون واحدا في ملمحه العام، ولكنه يتعمق كلما تدفق نهر إبداعه، لنكتشف في النهاية أن البداية كانت بذرة، وأن الثمار قُطِفت أثناء أو في ختام التجربة. وفي جميع الأحوال، تظل هناك علامات دالة على تميز المسيرة بشكل عام، لأنها ببساطة صادرة من ذات شاعرة واحدة، ربما تتطور، وتتعرج بها المسارات، ولكن النفس تظل مهمومة برؤاها الخاصة التي تلازمها.

  وسيكون نهجنا في قراءة تجربة محمد الشحات جامعا ما بين الجمالي بكل ما يحمله من أخيلة وتراكيب ورموز وإشارات، وبين الرؤيوي المعني بنظرة الشاعر لذاته وللحياة والوطن، مبحرين في غمار تجربته الممتدة لأكثر من أربعين عاما، نتهادى مع أمواجها، وهي تتنقل بنا بين هواجس الذات وهمومها، وتحولات المجتمع والوطن.

*****

تبدو رسالة الشاعر جلية، ويعلنها الشاعر في واحد من أحدث دواوينه، عندما يقول في قصيدة حملت عنوان "أنا والشعر"، معبرا عن فلسفته الإبداعية:

لو كان لي/ أن أنتقي بعضا من الأشعار

ثم ألوكها / وأعيدها /

 لأبث في أوصالها

ما قد يحركنى /

وأخرج منشدا

ما قد يعيد براءتى/ للشعر رائحة

نتوه بها /

ونظل نلهث خلفه

إنه مقطع شديد الشفافية مع الذات الشاعرة، ويوضح كيف أنها في حالة من التوحد بعد مضي عقود على تجربته، وكيف أنه يرى الشعر مثل المادة الخام، التي يتعامل معها الفنان التشكيلي، فيشكلها كما يشاء. والمفارقة هنا، أن شاعرنا يتخذ من الشعر وسيلة للتعبير عن براءته، وما أجمل تعبيره " للشعر رائحة، نتوه بها؛ ونظل نلهث خلفه". فأن يكون للشعر رائحة، فذلك معنى جديد، فعهدُنا بالشعر أن يكون له مذاقا في النفس والأذن والذهن والفؤاد، ولكن لا رائحة للشعر، إلا أن شاعرنا يجعل منه رائحة؛ يركض وراءها الشاعر، باحثا عن نكهتها المتميزة، ويظل يركض. وهذه سمة المبدع الحقيقي، الذي يظل في حالة بحث دائم عن الجديد والمدهش، كأنه فنان موسيقي لا ينتهي إبداعه إلا باكتشاف نغمة جديدة، مع كل لحن جديد. وهو ما يؤكده في المقطع التالي، ناظرا إلى الشعر كغناء وطرب، وإلى نفسه كمغرّد شجي:

إني انتهيت من الغناء

وما سمعتك/ حينما تشدو

كما لو أننى أشدو على وتر النهار

فافتح مسامعك التى ضاقت / بما سمعت

وارسم بوجهك هالة حول المدار/

ما قد يستقى الأمل البعيد/

وافتح عيونك في غمار الضوء

إن الجراح تذوب إذا ما فارق الألم

فلو ملكت بحور الشعر قاطبة/

فسوف تصفو

وجرح الجرح يندمل([1])

تحول الخطاب من ضمير المتكلم إلى المخاطب، وكأنه ينزع ذاته الشاعرة ليجعلها ماثلة أمامه، ومن ثم يتوجه إليها بالحوار والبوح، مؤكدا أنه أنهى شدوه، ولكن ذاته لم تسمع ما تغنى به، ويدعوها إلى السماع والإنصات. فهو يؤنسن شعريته، ويعود بها إلى جذور الشعر الأولى في فجر البشرية، عندما كان الشعر غناء، والأبيات يتغنى بها القوم في مسامراتهم الليلية، ويتناقلونها حفظا وشفاهة في لقاءاتهم النهارية.

ويقول: " فلو ملكت بحور الشعر قاطبة/ فسوف تصفو/ وجرح الجرح يندمل"، فالشعر غناء وهو أيضا دواء، والشعر بوح وهو أيضا نقاء، وكلما أمعن الشاعر في العزف على بحور الشعر، فإنه يدخل في حالة الاصطفاء الشعري، التي تجعل جراحه مهما تكاثرت؛ تندمل، وتكون سببا في شفاء آلام الذات، التي تنعكس على الجسد، فتؤلمه. وهنا ندخل في صراع الذات مع الجسد، الذات بوصفها معبرة عن شفافية الشعر، والجسد بوصفه علامة على الواقع بكل ما فيه من مادية وصراعات وله أيضا مطالبه الحياتية، التي قد تجبر الذات على النزول من عليائها الإبداعي، لتتأمل واقعا مرًّا، مما يدفعها إلى التمرد على الجسد، ومحاولة الانعتاق منه، فيقول:

ان لم تقدر ان ترفض شيئا تكرهه / فانزع رأسك

وابحث عن رأس تحمله كي تحيا حرا أبديا

فأنا أبحث كل مساء عن وجهى .. أو عن كفي

أخشى أن يأتيني يوم ألبس وجها لا أعرفه

أو أملك كفا تصنع أشياء لا أرغبها

أو تمشى قدمى ارغاما / من أشباح الخوف المزروعة فى عالمنا

تلك الأسطر الشعرية نقرأها في قصيدة "برقية دورانية"، التي يفتتح بها محمد الشحات في ديوانه الأول([2])، لتشكل علامة مهمة لفهم محور تجربة الشحات، والتي أرى أنها تمثل الاغتراب بدلالته الإيجابية، التي تجعل الشاعر يرتفع فوق ترهات وتفاهات الواقع، ويلوذ بقلعته الإبداعية، محافظا على نقاء ذاته، متطلعا دوما إلى حالة من المثالية، لا تهتم بالتفاصيل، ولا تنغمس مع المشكلات الحياتية، وستظل تلك السمة ملازمة للشاعر طيلة تجربته، يعزف على ما هو كوني ووطني وذاتي، غير حافل بالتفاصيل، ولا مهتم بالواقع، فهو في عليائه، يرنو لكل هذا دون السقوط فيه.

   ربما يكون شاعرنا متأثرا بالتيار السائد في حقبة السبعينيات، حيث صعود موجة الحداثة الشعرية، وما صاحبها من نزعة اغترابية، امتزجت بالسيريالية.

   والمقطع السابق دال على ذلك، وتتضح فيه روحه الشعرية التخييلية، فهو يخاطب ذاته بأن تنزع الرأس بكل ما فيها من فكر استسلامي دنيوي انهزامي، ويدعو نفسه إلى  البحث عن رأس أخرى مترعة بالحرية والتميز، لأنه يخشى من الانجراف يوما، فيرتدي وجها غير وجهه ويؤمن بفكر غير فكره، وروحا غير روحه.

   البنية الجمالية أساسها الصورة الكلية، بكل ما فيها من حركية وسردية، حيث المقطع الشعري يُقرأ كاملا، وتتأسس الدلالة على فكرة رفض الجسد الحالي: الرأس والوجه والقدم والكف، والبحث عن جسد جديد، فيما يعني كينونة ومظهر وملامح جديدة، هربا من الزيف، أو فقدان الصفاء، وإضاعة النقاء. الصورة سيرالية الطابع، ولكنها سهلة، تنأى عن الغموض والافتعال اللذين ميّزا شعر السيرالية.

  وهو ما يؤكده بقوله في ديوانه "ترنيمات شاعر قبل الرحيل":

حين انتبهت بأن وجهي،

عندما عاينته،

ما عاد وجهي

فاحتميت ببعض أيام مضت / وأردت أن أنجو بها

وتركت فيها كل ما قد عشته / علّى أعيد له ملامحه

أو قد يراني مرة/ من دونما شكوى.

فوجدت وجهي هائما

لم ينتبه حين استجرت به([3])

 نلتقي مع الوجه مرة ثانية، وقد انتبهت إليه الذات الشاعرة، وتفاجأت بأنه ليس الوجه الذي ألفته، فلم تجد ملاذا إلا بالفرار إلى الزمن الجميل، في أيام قد مضت. أي أنه لجأ إلى ما هو زمني أملا في أن يعود إليه وجهه الأصيل، الذي هام ضائعا، وأيضا لم تجد الذات من الزمن إلا هروبا منه. والمعنى الإجمالي دال على فقدان الثقة في كل ما هو جميل، وتجلّى باللاجدوى في الزمن، واللافائدة في الوجه والحياة.

   وتلك قمة الاغتراب الشعري، حينما تستشعر الذات أنها متلاشية: روحا وجسدا، وزمنا ومكانا، وتلك من المآخذ على تجربة الشعر الحداثي السبعيني وأيضا الثمانيني، فإغراق الذات في الغربة، أنتج حزنا دائما، ويأسا مستمرا، وتشاؤما وكراهية للحياة والأحياء، وصارت المعزوفة كلها هروبا من الواقع، لا توجها إليه للإصلاح.

  إنها البكائية التي لا آخر لها، وكما يصرح في نفس ديوانه:

حين انتهيت من البكاء/ تركت وجهي يستحم بما بكيت

وجلست أبحث عن دموع/ كنت قد أخفيتها

علَّى إذا ما ضاق صدري

انتحى جنبا /وأفرغها

فهل نضبت بحار الدمع/ أم عادت دموعي تستسيغ

بكاء عين ؟([4])

فالبكاء هو المعادل الموضوعي للهروب، والمقطع السابق يجعل من البكاء عالما مكتملا، يغوص فيه الشاعر، بل إن الدموع تحتويه، فيستحم فيه وجهه، وتتعاظم الدموع فتتحول إلى بحار، بل إن الدموع تنأى عن العين، وتفترق عنها، مما يستدعي تساؤلا من الذات الشاعرة؛ دلالته عبثية، فالدموع ليست منجاة ولا ملاذا.

وفي ديوانه الأول يشير إلى القلب بوصفه حاملا للذات والهم، فيقول:

هذى أصوات القلب الحامل ألم العالم/  فانتزعينى

وانتزعى هذا الجسد الممتد على أسوار الغربة / وانتشلينى

أعواد الزمن الراحل من أيام العمر

تهد بنائى.. فاحتملينى([5])

هنا يصرّح بأن قلبه -الذي هو محور ذاته الشاعرة- يحمل ألم العالم، ولذا، يدعو محبوبته أن تنتزعه، وأن تنتشله، فجسده مسيج بأسوار الغربة. سنلاحظ أن توحد الذات مع الجسد، والروح مع الأعضاء، سمة أساسية في تجربة الشحات، وهذا قمة الانسجام والتناغم، فلم يسقط في ثنائية الذات والجسد، بكل ما تعنيه من انفصالية أو ازدواجية، مثلما يفعل بعض الشعراء، حين يبثون في قصائدهم ما يضاد سلوكهم.

   ونرصد في المقطع السابق: الكلمات المفتاحية للتجربة: الغربة، وأيام العمر، والجسد الممتد، والقلب الحامل، وسيتأبطها كلها الشاعر في رحلته الممتدة، وربما يتخفف من بعضها، ولكنها يعود إليها، فقد أسسَ كينونته الشعرية على غربة الذات، ومخاطبة الجسد، والمزج ما بين الوطن والكون، والمشاعر والأفكار.

وتتحول الغربة إلى خوف على الوطن، وتظل معه إلى ديوانه الأحدث صدورا "سيعود من بلد بعيد"، حيث يغرد:

هو ذا غريب سوف يلقاه الغريبْ

فأخاف حين يزيد ضيقكَ

أن تحن لغربة أخرى،

وتمضي/ ما الذى يثنيك أن تبقى معي ،

وتعاود التذكار في وطني([6])

الخطاب موجه إلى الذات، بكل شفافية وصراحة، ومفاده الهروب من غربة إلى غربة، ذلك الفكر والإحساس الذي هو محور تجربة الشحات، وقد تكررت مفردة الغربة بتصريفها: غريب، الغريب، غربة، وأيضا المشاعر المرتبطة بها: الضيق، الخوف، التذكار للوطن، وكل هذا يدفع الذات إلى التقوقع في انزوائها ووحدتها. وهذا كله ناتج عن إحساس المثقف الخاص بأنه مهمش في الوطن، ولا صوت له، أمام ضجيج الإعلام والفنون الهابطة، بل إن الوطن طارد لأبنائه، إما بالهجرة إلى الخارج، بحثا عن عمل لتدني الأحوال الاقتصادية، أو إلى الداخل حيث الانطواء.

رغم اجتزاز حروف سطرِكْ

أخشى عليك من اغترابٍ

قد يبدلُ دفء صوتكْ

يا غربةَ الأيامِ/ لا تقسي على ولدى

دعيه/ فأنا ارتضيتُ

بأن أعيش بمحبسي([7])

الضمائر بصيغة المخاطب وموجه للذات الشاعرة، وفيه إمعان واضح على الإحساس بالغربة، الذي يتكرر كثيرا، وربما يلاحظ المتلقي أن الشاعر يكرر نفسه فيه، وهذا قائم دون شك، ولكن يبدو أن الذات الشاعرة ممعنة في تعميق هذا الإحساس، وأن تكراره فيه دلالة أن الشاعر راغب في التأكيد على هذا المنحى، وتعميقه في نصوصه ودواوينه، فكأنه لحن واحد، يعزفه الشاعر على آلات موسيقية متعددة، ومع كل آلة يأتي اللحن مختلفا في أثره ومذاقه. وفي المقطع السابق، يناجي الأيام/ السنين/ العمر، أن تحمي ولده من الاغتراب، لأن الغربة تعني حزنا وضيقا دائما، وتعني أيضا عزلة، لا تنسجم مع ابن محب للحياة وراغب في الطموح.

   وما أروع اشتباك الشاعر مع الأمل، بطريقة نوعية ومختلفة، وتلك من أهم سمات تجربته الإبداعية، أن يجعل الأمل حاضرا، على طريقته الخاصة، فلم يسقط في المباشرة ولا الخطابية، وإنما نظر إليه من بوابة عالم الشجر. يقول:

كنتُ أظنكَ

حينَ تطاولُ أغصانَ اللبلابِ

ستمنحني ظلاً

أغفو فى مملكةٍ

أشعر أنِّ حاكمها

لكنِّي حينَ صحوتُ

رأيتكَ ترحل

كيفَ سأملأ ذاكرتي

والأيَّامُ تعاندني([8])

فالأمل يتبدى من تأسيس عالما شعريا، يتفرد فيها الشاعر بالحكم وحده، ويرى أن بداية هذا العالم سيكون من أغصان اللبلاب، التي تمتد فتنشر ظلالا، والظلال تصنع عالما من البرودة الحامية من سعير الشمس. فالعالم الشعري عنده بسيط: شجر وظلال، ربما نجد تحديا وتشككا منه في ختام المقطع، ولكنه نجح في التمهيد لصنع هذا العالم الفريد، فإذا كنا نتوق- ويتوق معنا آخرون- إلى قصر منيف في جزيرة خضراء، تجري جداول المياه فيها بعذوبة وصفاء، فإن حلم شاعرنا بسيط، يقتصر على شجرة لبلاب، يجلس في فيئها، مكتفيا بها عن كل العالم. الغريب أن المقطع السابق فيه الطابع الحلمي" لكني حين صحوت"، والذي يعني أن هذه الأمنية كانت حلما، ولكنه حلم جميل، قابل للتحقق، وإن عاندته الأيام. فما أجمل أن تتواضع أحلامنا، ونعود إلى جذور الريف والبساطة فينا، تحت ظلال اللبلاب.

ومن قصائده المترعة بالإبداع، قصيدة "أغنية للخبز"، وفيها يواصل علاقته الدافئة والشجية مع الأشجار، وهي ليست علاقة تقليدية، بمعنى أنه لا ينظر إلى الشجر واصفا ما فيه من خضرة وجمال، وإنما يقيم علاقة من نوع خاص، تنطق برغبته في الخروج من تيه المدينة، بكل صخبها وضجيجها، وهو ما نقرأه في هذا المقطع:

واستند لجذع

جفت كل منابته

ظل يهز .. فلا يساقط

ما بقي من الرطب

فاستنصح حين أستجمع كل قواه

وعلا فوق النخلة

امسك بالعرجون

فلم يتبق سوى الشيصاء ....

بداية العلاقة: الاتكاء إلى جذع نخلة جافة، ثم يحضر التناص مع القرآن الكريم، حيث موقف السيدة مريم عند ولادتها للمسيح (عليه السلام)، فقد أوحى الله لها أن تهز النخلة، فيسّاقط عليها الرطب، لتأكله هنيئا مريئا، بعدما اجتازت آلام المخاض، ووضعت مولودها وحيدة، بعيدة عن قريتها، فكانت النخلة طعاما وظلالا لها.

  أما نخلة شاعرنا فهي جافة، هزّها، فلم يسقط عليه رطب، مما دفعه إلى ارتقائها، واصلا إلى العرجون في أعلى النخلة، ليكتشف أن نخلته تحمل الشيصاء، الذي هو رديء التمر، وكما ورد في المعاجم، فإنه يقال للتمر الذي لا يشتدُّ نواه ويَقْوَى وقد لا يكون له نوى أَصلاً، لعدم تلقيح النخيل. والدلالة هنا واضحة، أن الملاذ الذي اختاره الشاعر بأن يرتكن إلى نخلة هو عبثي، في إدانة واضحة للواقع، الذي فسد في المدينة، وجفّ في الريف. وهي دلالة تميل للسواد، لأنها نابعة من الإحساس بالغربة واللاجدوى الذي هو محور تجربة الشاعر، فكل ما يفعله أو يفكر فيه أو يحلم به إنما هو مثل النخلة التي تحمل شيصاء، تنتصب واقفة؛ جافٌ جذعُها وعرجونُها، وفاسدٌ تمرها.

ويواصل شدوه في نفس القصيدة( أغنية للخبز)، لسيلوذ بالطفولة، وهذا شأن الشعراء الرومانسيين، حينما يجدون في الطبيعة والطفولة براءة، يفرون إليها من واقع شديد الزيف، ولكن فرارهم في النهاية إيجابي، بمعنى أنهم يعيشون في الطبيعة، ويتذكرون الطفولة، دون أن ينخلعوا من واقعهم، بل سيعودون إليه، ويدعون الآخرين إلى أن يحذوا حذوهم، فالطبيعة عنوان على الراحة والهدوء والسكينة، ومثلها أيضا الطفولة بكل شغبها وأحاسيسها البريئة، وهنا نجد شاعرنا يلوذ بطفولته فيقول:

استرجعَ أيام طفولته

وتذكر سنبلة

كان يحاول أن يزرعها

خلف حدود النهر

فاذا بالحبة ألف سنابل

ما إن طالعها حتى اصفرت ....

استحضر الطفل فيه، بموقف واحد: زرع سنبلة، وراء النهر، وبالفعل أثمرت السنبلة ألف سنابل، ولكنها اصفرت، لتنتج قمحا، فالاصفرار هنا علامة على نضج القمح، وعلى استوائه، وأوان حصده، وليس بالمعنى السلبي الذي نألفه، وهو الضعف والوهن والمرض، إنه اصفرار معبر عن الأمل، فلم تمت السنبلة بل أنتجت وأثمرت، ويقول:

وكانت اغنية للقمح

واشتمَّ دخان الافران

وخرجت أرغفة الخبز

فغنى الجوعى

هز بجذع النخلة

فاسَّاقط رطبا

ومضى يبحث عن سنبلة

كي يسكنها

خلف حدود النهر

لتكون أغنية للخبز([9])

ما أجمل هذا المقطع، وهو ما ندعو الشاعر إليه في تجاربه القادمة، بأن يتوحد مع الحياة، ويقرأها جماليا، ويعزز مشاعر الدفء، وأحاسيس الانتماء، والنظر إلى ما هو إيجابي ومتفائل، خروجا من عبثية الاغتراب، الذي دار فيه مع جيله السبعيني، حيث لاذوا بالكوني والاغترابي، هاربين من واقعهم، ولكن المحصلة كانت نصوصا غارقة في القتامة، والأخيلة المركبة، المائلة إلى الإلغاز، مما أرهق المتلقي في قراءتها وفهمها، وعندما أتم فهمه لها، اكتشف أنها تحمل الكثير من الدلالات الكابية.

وفي المقطع السابق، فإننا نجد رؤية مختلفة، القمح يغني بعد حصاده، وغناؤه أن يستوي في أرغفة ساخنة، في أفران الريف البلدية ذات الرائحة المعطرة لأنوفنا، فتطعم الجوعى. وتكون البشرى والتفاؤل، فقد أثمرت نخلته الجافة، وتساقط رطبها، بينما هو سيعود إلى فعل طفولته، بأن يغرس السنبلة من جديد وراء النهر، ويغني لها.

وقد تألقت شاعريته، وفارق غربته، وتعاظم أمله مع ثورة يناير، عندما وقف الوطن كله على قدم واحدة، وقد رأى التغيير بأيدي الشعب، وليس من أعلى السلطة، وأن الميادين التي حفلت بالملايين فوارة الحماس، كانت علامة على نهج جديد، سيكون سمة أساسية لدى شعوب العالم العربي، في إرادتها الحرة وسعيها للتغيير.

يقول في قصيدة حملت عنوان الثورة، وفي ديوان حمل عنوانا مفارقا " المترو لا يقف في ميدان التحرير":

دعوتك

  كي ما تشاركني صرختي

دعوتك

كي ما نعيد إلى الأرض/  طميا

بعد أن جرفتها/  نواطيرهم 

وأكلت غرابينهم

قلوب العصافير....

الجمال في هذه القصيدة أنها لم تنظر إلى الثورة والحشود على نحو ما فعل وتغنى بقية الشعراء، وإنما جعلت الثورة علامة على عودة الخير والنماء للوطن، متخذا من الطمي رمزا وعلامة على هذا، واضعا استعارة ضمنية أساسها أن الطمي معبر عن الخير الضائع من قبل سلطة ما قبل يناير، حيث نهب الثروات، وإفساد البلاد، والإضرار بالعباد. وقوام الاستعارة أن مصر تعرضت للتجريف مثل تجريف طمي الأرض الزراعية من قبل أصحاب مصانع الطوب، الذين يأخذون الطمي لحرقه لصنع الطوب الأحمر. ويزيد الشاعر عليها بأن الغربان أكلت قلوب العصافير، والذين هم وحتما أبناء الوطن المخلصين الشرفاء، هؤلاء من فروا أو هاجروا، لأن أوطانهم باتت لا تطاق، ولا فرصة للتغيير لما هو أجمل فيها. تُعَدُّ هذه القصيدة من أجمل ما أبدع محمد الشحات، لأنها مفعمة بالجمال والتفاؤل، وتسلك مسلكا مغايرا في التناول الشعري، حيث ولج إلى شعرية التفاصيل والمشهدية السردية، على نحو ما نقرأ في هذا المقطع:

هنا جلس الثائرون

أتوا من كل صوب وحدب

فرحت أقسامهم

 رشفة الشاي

وقطع من الخبز

مغموسة

 بالصراخ

كان يلتحف الوجه بالوجه

والصدر بالصدر

وتبقى العيون معلقة

 باتجاه السماء ...

وصف لحال الثائرين في ميدان التحرير: أكواب الشاي، واقتسام الخبز، الذي اختزن في عجينته صراخ الملايين، مطالبين بالحرية. التقى المادي/ الخبز، مع الصوتي/ الصراخ، ليكونا شاهدين على تلاصق الجماهير وتلاحمها: الصدر بالصدر، والوجه بالوجه، والعيون تدعو الله بالنصرة. صورة غاية في الجمال: السرد مع الشعرية، والأماني مع الأدعية، بشعرية فياضة بالخيال والتركيب الرمزي السهل المتدفق.

عشت أحلم بالشمس

تسبح فيه

وتخرج من عينه

هنا أعلن الثائرين دولتهم

فأدركت أن الحياة ستبدأ

وأن الذي عشته

سأرميه خلفي

وأبدأ من أول السطر

دعوتك

كي ما تشاركني صرختي([10])

صورة خيالية غاية في الجمال، تلامس الواقع، وتشرئب إلى الغد، وتجعل الذات المغتربة حاضرة في واقعها، فقد حدث التغيير، ولم يأت فرديا بل جماهيريا، ولم يكن  محل اختلاف بل توافق. أما مفردات الصورة فهي: حلم سابح في الشمس، فالحلم لا مادي ولا حسي، وإنما فكري شعوري، تأنسن ليسبح في الشمس، التي تحول ضياؤها إلى ماء، يستلقي الحلم والحالمون على سطحه، ويبحرون نحو الغد. وفي هذا النص نجد كتابة مختلفة، انتهجها الشاعر، لسبب يتصل بالذات نفسها، التي التحمت مع الجماهير، مدركة أنها ستبدأ من أول السطر، أي بحياة جديدة. الجميل أيضا، أن الصرخة لم تعد معبرة عن ألم، وإنما عن أمل، وكما يقول: " دعوتك كي ما تشاركني صرختي"، فالدعوة موجهة لكل مصري حر كريم؛ إلى المشاركة الفاعلة في الصراخ، الذي يعني: إيمانا وثورة، هتافا وحركة، حلما وهمة، أملا وعملا.

  أرى أن هذه القصيدة وغيرها من القصائد في هذا الديوان تمثل إضافة إبداعية متميزة، يمكن لشاعرنا البناء عليها، في سعيه إلى التميز الإبداعي لأنه جمع فيها ما بين فضح الواقع، ومطارحة الأمل، الالتصاق بالناس، والنظر إلى السماء، تخلى عن غربته، ورأى أن الخوف كان سببا في قمع الذات، وسجن الجماهير، وكما يقول في قصيدة حملت عنوان الخوف:

أرى

ما تراه

وما لا تراه

وحين جلست أقاوم ضعفي

وجدت يداه

وجدتك تجلس في مقلتي

وتجلس بين رقائق وجهي

وتجلس منتصبا في فمي

إذا ما أرادت الحديث

تكون صداه([11])

الذات هنا أضحت مثل زرقاء اليمامة، ترى ما لم يره الناس، عندما تخضع النفوس إلى سلطان الخوف، الذي يتعاظم ويكون أشبه بالجني، يلازم الإنسان في وجهه، ويفترش جلده، وينتصب بين أسنانه، ويهدد ما يتفوه به. ما أجمل هذه الصورة، إنها شعرية فياضة بالخيال المختلف والمتمايز، حينما تحول الخوف إلى شبح وعملاق، يتحكم في الصدور، فإذا باحت فإن الصوت يمتنع عن الخروج، وإن خرج يكون الشبح صدى للصوت، وهذا من أعظم الدلالات عن تمكن الخوف من النفوس. لقد وصلت الذات الشاعرة إلى أوّج رؤيتها، مدركة أن التغيير يصاحبه ثمن، فتقول:

الموت فوز

عندما يأتي وفى عينيه

حلم الثائرين

فهل تدير الآن وجهك

باتجاه الحلم

تنزع عصبة العينين فالموت فوز

والحياة قصيرة([12])

إنه دعوة للفداء، خرجت قوية صارخة عالية من ميدان الفداء، حينما كانت الحشود معرضة للتهديد، فما أعظم التضحية بالحياة من الفرد، للتحقق الحرية للجموع. والأجمل أنه يجعل الواقع أفضل من الحلم، الذي انحاز له كثيرا كما رأينا من قبل، وإن كان حلما عبثيا، يبدأ برغبة وأمنية، وينتهي بسراب وضِعة. أما هنا فإنه يدعو ذاته إلى النظر إلى الواقع، وترك الأحلام، والواقع يعني ميدان الثائرين، تلك الثورة التي شهد لها العالم بالإبداع، وانبهرت الأمم بتلاحم الشعب، وعنفوان أمله.

وهو ما يعلنه، متوحدا مع نفسه، مغيرا من خريطة مسيرته:

أنا لم اعد/ ذاك المشاكس

بعد أن نزعوا

عيون الحلم/ من لغتي

أنا لم اعد ذاك المشاكس

كلما حاولت أن أصحو

تكور في دمى خوفي

أنا إن أردت الآن أن أحيا فلسوف احمل من عيونك ثورتي([13])

إنه الصراع بين الخوف والبوح، والفعل والاغتراب، وكان ليناير عظيم الأثر فيه، وقد اكتسب الحلم دلالة مغايرة، فقد احتل بؤبؤ العين في ذاته، وجعل عينيه نابعة من ثورة الشعب الواحد، فمنها تكون الحياة، وفيها يصبح الحلم واقعا، والواقع مصبوغة بالأمل.

*****

   حملت تجربة محمد الشحات رؤى محورية، تمثلت في غربة وأحلام، عكست عزوفا من ذاته عن الواقع، متأثرا فيها بجيله الشعري، حينما انسحبوا إلى خيالاتهم، وآثروا أن يبني كل واحد منهم قلاعه منفردا، يائسا من التغيير الجمعي، فجاءت نصوصهم فياضة بالحزن والوحدة، والصراخ معبر فيها عن الألم، وقد تغيروا عندما شاهدوا الثورة وفعل الثوار، فنزل بعضهم من عليائه، وظل الآخر مترقبا.

   وهذا ما أدعو إليه شاعرنا، أن تكون محطاته القادمة تغترف من الواقع، وإن كان سوداويا، لأنه إذا تمعن سيجد في تفاصيله الكثير من نقاط البياض، التي إن اقترب منها، وسلّط الضوء عليها، سيدرك حتما أنها نقاط يمكن أن تتحول إلى أقمار وشموس. فقط تحتاج إلى رهافة الشاعر وهو ينظر إليها من زوايا جديدة، تبث الأمل فيكون نورا، وتعرّي السواد فيصبح رمادا، وناظرا أيضا إلى ذاته، ليخلصها من تجربة الاغتراب، وما فيها من عبثية، فالذات حاملة للحكمة التي تحتاج لمن يجلوها، ويصوغها شعرا، ممتزجا بالأخيلة والتراكيب والرموز والمفردات الفياضة بالجمال.

[1]) يكتب في دفتره، دار الأدهم، 2018، ص23، 24.

[2]) الدوران حول الرأس الفارغ ، دار الحرية للطباعة والنشر والتوزيع ، القاهرة، ص3.

[3]) دار الأديب للنشر والتوزيع، القاهرة.

[4]) المصدر السابق، ص5.

[5]) الدوران حول الرأس الفارغ، ص31.

[6]) دار الأدهم للطبع والنشر، القاهرة، 2019، ص14.

[7]) المصدر السابق، ص39.

[8]) المصدر السابق، ص79.

[9]) يكتب في دفتره، ص69-71

[10]) المترو لا يقف في ميدان التحرير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012، ص8- 10.

[11]) المصدر السابق، ص18.

[12]) المصدر السابق، ص31.

[13]) المصدر السابق، ص37.