"إن الموت الذي يأتي ممن يلقي بنفسه من ناطحة سحاب، أي موت؟"
ديفيد فوستر والس
"لن نعترف بالحب الذي في قلوبنا حتى لا نغتاله"
A.J
الدنيا ريشة في هواء
( 1 )
تَموّجت الطائرة معانقةً المدرج، تلاشت الطيور في الهواء هاربة لدى هدير المحركات، شقت الغيوم وأصبح "سفيان تقي المرجاني" سامقاً فوق السحاب، خافقاً القلب وهو يعلو على الجرح، كان ذلك إيذاناً بعبور سلم الشمس محاطاً بغابة المطر، قفز للفضاء مصطحباً سجائره الرطبة وأقراصه المنومة ورغبته المحمومة في اقتناء الرواية التي زجت به في مغامرة عبور الريح حتى رصيف القراءة المتأنية، وهي لِشدة ما لامست أحداثها شغف القلب فامتد الشعور بالرفقة الفطرية مع الآخر القادم من خلف الزمن، كانت الدنيا في البداية رجلاً وامرأة وفردوساً سرعان ما انشطر إلى ضفتين، الجنة والجحيم، الرجل والمرأة، الليل والنهار، والسماء والأرض، الماء والنار والشمس والمطر ثم قوس المطر.
على عتبة صباح ضبابي والدنيا كريشة ضالة في مهب الكون، عبر الجزيزة مخترقاً البحر وخلفه شراعٌ على قارب صغير، غادر اليابسة للتو وصعد السماء وسيعود لأرض أخرى تزهر بالنوافذ المفتوحة على الأكوان السبعة! لا رقباء ولا آباء يرتدون العفة ويكبحون الشهوات ثم يرقصون على الجسد المحطم بعد أن ينثروا أناشيدهم الإلهية وقد وقفوا على الجثة وحطموا الروح الهائمة كما تُحَطم الأصنام، انسحب بعيداً إلى أرض يستطيع فيها قراءة رواية لا يمكنه قراءتها في ظل الأقاصي من الغابة، اختار الوحدة والعزلة واتخاذ القرار ثم بعدها تبدأ الحياة دورةً جديدة، حين يتحول الجسد من هورومون لآخر ومن أقواس إلى سهام ومن ماء إلى نار، وأخيراً من رجل معلق في الهواء لامرأة تسبح في الغيوم، اختار أن يركب السحاب ويسبح فوق الغيوم لساعات معلقاً نظره على دنيا لا تحكم على الجسد حين يولد وهو خاطئ، لا يد له في هذا الخطأ، وحين تزف لحظة تعديله تمتد السكين لتقطيع أوصاله، اختار الرحيل لبلاد لا تدقق في خريطة الجسد، بل تسهر على إعادة تشكيله.
****
"الدنيا ريشة في الهواء"عنوان لأُغنية قديمة ترد بين فينة وأُخرى على لسان والده المدعو تقي عبدالرحيم المرجاني، أضْحَت مع الوقت رواية أَغْرَته أن يسافر لها حتى لو كانت فوق قمة إيفيريست؟ فلابد من قراءتها، سمع عنها إشاعات لامست جرحه النازف وحرضته على التجاسر والسفر فوق الغيوم، وعلى رؤوس أصابع القدم، عَبَرَ فوق الجمر كأنه حقيبة سفر تلوح بالتحية، وقف بالطابق التاسع والأربعين من البرج، فتح الستارة البيضاء فأطل وجه من السُحب رأى فيه الريشة الطائرة ما زالت تحلق، تساءل في سره وهو يلوح للغيوم، لولا الحاجز الزجاجي لأمسك بقطع السُحب العابرة. سرح وهو يعبر سطح الأرض متنهداً من نشوة الحشيشة التي سكبت أشباحها من هذا الارتفاع، شهق من فرط حركة الغيوم الراقصة كأنها فراشات محلقة تقرع الأجراس إيذاناً بالدخول في الجسد الآخر القادم من الغابات الزجاجية، ظل يتطلع لبرهة في الغيوم تمر من أمامه كأنها ستخطفه من عبر النافذة الواسعة المغلقة أبداً خشية الانتحارات من هذا البعد الشاهق عن الشارع.
" يا لها من نزهة آخر الليل فوق السحاب"
سافر بعيداً وحيداً ليقرأ كتاباً، تأبط الكتاب ووقف على أرجوحة المساء، تناول الرواية التي سافر خصيصاً لقراءتها قبل الانقلاب الجسدي، قلبها بين يديه كأنه يزن محتواها، أعد فنجان قهوته المريعة وبجانبها زجاجة الويسكي وأقراص الزناكس للاسترخاء، فتح الصفحة الأولى من الرواية ليفاجأ بان مؤلفها كان والده في الحلم، أيْقِن بأن الأرض تهتز كلما تأرجح الكون، لا شيء يحد الدنيا سوى هذا الليل الساطع بالحنين للآخر، فالجسد اليتيم المنكسر على عتبة الثمالة يبحث عن مأوى بين السطور، تقوده في ذلك حالة من العبث الجيني، تسطع نجوم من نافذة البناية الشاهقة العلو، في الطبقات العليا مع الغيوم، تراءى له حالة الأنثى القادمة مع التركيب الكروموسومي XX والتركيب الكروموسومي X ، هذا المزيج من الألوان حتى لتبدو روحه يسكنها قوس قزح لا يظهر إلا في أواخر الخريف مع هبوب نسيم الليل المشبع برذاذ المطر، فيستيقظ الصباح مع خيوط هذا القوس الملون بتراتيل الشوق للجسد الغامض المشحون بكهرباء الشوق للحب، ظل لحن الكلمات التي صبغت بداية أوراق الكتاب تبدو كمكعبات ثجلية تفقده التوازن حتى خيل إليه وهو على هذا النحو من العلو بانعدام الجاذبية، تصفح الكتاب ورقة ورقة كأن الرواية شجرة تتساقط أوراقها صفراء خريفية.
"سأقرأ حتى الموت، سأقرأ حتى ما بعد الحياة، سأصنع من اللون الأحمر والبرتقالي والأصفر فالأخضر والأزرق ثم الأزرق الداكن والبنفسجي، قوس المطر الخاص بي، سأدخل عالم الفيزياء وألمس كهرباء الجسد حتى أُصَوب خطأ الطبيعة.
احْتَسى من الكأس سائله الذهبي، وأشعل لفة السيجارة الخضراء، نفث الدخان من فمه ثم اعتلى الكرسي وسط الغرفة وغطى جهاز اطلاق إنذار الدخان بشريط التيب وعاد يسترسل بالتدخين.
"سأخضع لانكسار ضوء الشمس وتحلله ثم انعكاسه على قطرات المطر.
عميقاً سار في الطريق الصحراوي الليلي بدون مصباح يدوي إلا من ضوء القمر، قال وهو يقترب من ميناء الحب.
" أنا في الجسد الخاطئ، سأخرج منه ولكن بعد الانتهاء من قراءة هذه الرواية ذات العلاقة الأزلية.
"الدنيا ريشة في الهواء" إنها أغنية تقي المرجاني، روايته الغامضة الآتية من الغيب.
هنا في صحراء لندن الضبابية، وعلى انكسار ضوء الشمس الخريفية طرق أبواب العيادات وتنزه مع الأطباء، واجه المصير المحتوم مع العلم والطب خريطة الجسد التي حان وقت تعديلها.
"لماذا وُلِدت رجلاً؟ كان بالإمكان اختزال المسافة لكوني في الأصل امرأة، سأخرج منه مع انحسار الجليد عن جسدي الذي أشتم فيه رائحة جسد امرأة.
كل صباح يبدد من حوله الكآبة، يخرج بعدها يشتم هواء الشارع الملبس برائحة الأوراق الصفراء على الأرصفة المبلطة بالطابوق الأحمر المتعرج، ومع كل مساء يعود أدراجه مستبعداً تعب الجسد وإنهاك الروح بفنجان قهوة انجليزية تسبق الويسكي المسائي مع القراءة الليلية التي سرعان ما تنتهي وتبدأ عربدة تجريبية توشك على الانتهاء بعد أيام أو أسابيع حين تُجْرى عملية التحويل الفيسيولوجي، الكروموسومي.
" قَبل ذاتك للمرة الأخيرة، حتى لو كان في المرآة المكسورة"
قال العبارة وبلع قرص الزناكس، توجه نحو مرآة الحمام، نظر في وجهه الذي بدا له كحبة الفراولة الطازجة، ابتسم وهو يتأمل بشرته النضرة وملامح وجهه المتوردة، رأى شبح امرأة يعجز عن وصف سحرها، انبثقت ابتسامة زاهية من ثغرها وقال مخاطباً الشبح في المرآة.
" وداعاً سفيان"
كان في بداية الصفحات الأولى من الرواية، أحب العاهرة رغم كونها في الجسد الخاطئ ولكن بعكسه هو، اثنان كل منهما في الجسد الخاطئ، كل منهما في عصر مغاير، وكل منهما في كروموسوم XX ،X
ترك المرآة وعاد لاحتساء شرابه، لمح وردة حمراء على السرير مع قطعة شوكولاتة، عرج نحو السرير، أمسك بالوردة ووضعها في كأسه مع قطعتي ثلج فقط ورشف جرعة مميتة، صرخ بشدة وقال عبارته النهائية وهو يحتفل مع الفتاة اللعوب ذات العلاقة مع جنود الاحتلال البريطاني، كما رواها له ذات لحظة طائشة تقي المرجاني الذي وحده تفهم الخطأ ووافق على تصويبه، وجميلة الشقيقة الساحرة ذات الحب الأبدي له، وساحرة والدها تقي من غير منازع في العائلة.
"الدنيا وردة في كأس"
( 2 )
إنْزَلقَت تترنح من نسمة هواء أعلى السماء تتنفس مع خيوط الضوء الصفراء المشبعة بالهواء الساخن المحمل بالغبار، ريشة وحيدة رمادية اللون هائمة على وجهها الواهن، قد تكون لطائر حمام برونزي تاه ينعي متاهته، أو لطائر سمان هائم على وجهه خرج عن السرب عند الغروب وحملته إحدى البواخر التجارية القادمة من شرق المتوسط لجهة الخليج، تراقصت تلك الريشة التائهة برشاقة على ضوء المساء الداكن تتحدى السقوط على الأرض كأنها ريشة بجناحين يتخللها الهواء من جهة الشمال لتظل تسابق الريح، في ذات اللحظة الساكنة بالصمت المطبق على الطريق الرملي الباعث على الغبار البني الخانق، احتضن الممر المتفرع عن الطريق ذاته المشوب بالحفر والمطبات وروائح البهارات الخارجة من فتحات النوافذ الخشبية للبيوت القديمة المتصدعة، فتاة آتية بدت للوهلة الأولى كعابرة سبيل، اختلطت روائح العرق المتسللة من أجساد المارة بعبق الطبخ المسائي وفاحت أبخرته في الفلاء معلنةً وقت العشاء الليلي الذي دأب سكان الحي عليه كل ليلة عند هذا التوقيت الزوالي، الصمت والهدوء والعتمة تطبع المكان بسكونٍ شامل يعلن كأنه نهاية الكون.
أقدام صغيرة يدب وقعها على الأرض، لصبية شابة تقارب السابعة عشر شتاءً، ذات بشرة خمرية اللون طرية المظهر، وقوام متناسق الطول يميل للنحافة، ولكنه مكتنز عند الردفين والفخذين، وعينين واسعتين رماديتين تفوح منهما نكهة البحر، ظلت تسير على إيقاع ضوء المساء الأصفر الساطع من بقايا الشمس المستسلمة للأُفول، بينما ظلت الريشة المحلقة في الفضاء يداعبها التيار الساخن لهواء الشمال القادم من جهة الساحل البحري لجنوب المحرق يسابق ظلها وتحوم في دوائر حلزونية تتمرغ في الهواء ليسكبها على رأس الفتاة، لمحتها تطير فوقها كأنها تدعوها للتحدي فيما شذرات من تراب باقٍ على أطراف ضفائرها البنية اللون، بدت وهي تقطع الطريق ينتابها قلق شرس انْعكس على خطواتها المتلاطمة كموج يضطره التيار للانحراف والتلوي، لا وجود لبشر على الطريق وكأنه وقت الاخْتباء، لا إنس ولا جن إلا من بضعة عصافير صغيرة كالحة اللون تسبح في الفضاء، يقتحمها طائر الخطاف الرشيق وهو يشق الخلاء بانسيابية فجة تميزه عن بقية العصافير، كانت هذه الطيور وحدها في هذا التوقيت ما قبل العتمة تكسر رتابة اللحظة التي تشبه توقف الأشياء عن الحركة من دون أن يتوقف الزمن في هذا الحي الذي يشبه رقعة مقتطعة من مساحة القمر، عندما يتسع قرصه المضيء في بعض الليالي المقمرة.
صفير الريح يختلط بصرير الباب الخشبي الكبير ذي اللون البني الملطخ ببقع بيضاء وصفراء نتيجة القدم وتسرب الرطوبة إليه وهو يفتح في وجه الفتاة المسرعة بالولوج دون حتى إلقاء التحية على المرأة الصدئة التي اسْتقبلتها بفظاظة وهي تغلق الباب خلفها، فينزع لإطلاق صوت كأنه منشار يركض في لوح صلب، يختفي مع هرولة المرأة السمينة البيضاء كالحليب ذات الأربعين عاماً وقد برزت رقعة خضراء على طرف خدها الآسر بمحاذاة فمها، عبارة عن وشم عراقي النكهة، تبعتها الفتاة الصغيرة عبر فناء ترابي يتوزع على جانبيه عددٍ من الغرف تتوسطها صالة كبيرة مفروشة بسجاد أعجمي قديم وتضم كنبة محشوة بالقطن مُدَعمة بأطراف جدارية ذات نقوش اسلامية مطرزة بصورة كبيرة لطائر الطاووس بدا عليها القدم، تهترّأت حوافها بشدة لمضي عدة سنين عليها ولكثرة الاستخدام. وعلى الجانب المقابل ظهر حاجز خشبي يفضي إلى الصالة الوسطى الفاصلة عن بقية الغرف على الجانبين، طُلي باللون الأسود وفي أعلاه ظهرت قطعة قماش وردية اللون تحجب الرؤية عندما تنسدل على الحاجز اللولبي لتسمح برؤية الداخل والخارج من الغرف لدى إسدال القماش، عَبَرَت الفتاة الصغيرة الخمرية اللون الحاجز نحو الغرفة الثالثة الواقعة في الوسط وأُغلق وراءها الباب وظلت المرأة الأربعينية البيضاء تتلفت من حولها كما لو أنها تخشى سقوط نيزكاً فوق رأسها من الأعلى، سرعان ما فُتِح باب الغرفة الأولى في الطرف الآخر من غرف المنزل الواقعة بالطابق الأول ليخرج صبيٌ بدا من وجنته الوردية لم يتجاوز السابعة عشرة، أبيض البشرة، حاد الملامح، شهابي العينين، يرتدي بذلة مخططة بنية اللون وقميصاً أبيض واسعاً، وقد بدا على سماته الوجاهة رغم صغر سنه، راح يتلفت حوله من دون أي حرج أو ارْتباك مما يدل على اعْتياده المكان، وقف عند الحاجز محملقاً في وجه المرأة التي أفاقت على وقع صوته الجهوري قائلاً بنبرة تهديد لا تتناسب مع مظهره الرقيق وعمره.
- لا أُريد أن تكبر المشكلة ويصغر عقلك يا دلال، فالمشكلة لا تكبر إلا إذا كانت عقولنا صغيرة.
أطالت النظر في وجهه المتورد الذي بدا عليه الفجور وبادرته قبل أن يسترسل مرة أخرى بالكلام.
- أُذكرك أن من يصفعك اليوم، سيعشقك غداً، سامحها، من أجلك جلبتها من حُضْن زوجها الذي لم يمر على زواجه منها سوى شهرين لتكون في حضنك الليلة، ماذا تريد أكثر؟
تأمل وجهها المشوب بندوب صغيرة عند حافة الذقن وعينين بارزتين، ورد عليها هذه المرة بنبرة تحمل شكوى ومرارة.
- خانتني العاهرة مع الإنجليزي المحتل، لا تملك حتى شيء من وطنية، فهي تكشف بتعريها له وتركه يغتصبها نيتها على خيانة بلدها.
فوجئ بها تنفجر بنوبة من الضحك، تحولت لقهقهة تدريجياً إلى أن انتهى بابتسامة مقتضبة تلتها قائلة وقد تغير صوتها بعد نوبة الضحك.
- صباح العاهرة تقي أفندي، الإنجليز مصدر رزقنا تقي والكلب الذي في فمه عظمة لا ينبح تقي أفندي، جوري نعم العاشقة، لكنك لم تقدرها وما زال بطنها متورماً مما فعلته بها مع رعونتك الصبيانية، ورغم ذلك جاءت اليوم في طلبك.
نفض عن كتفة الغبار ورفع رأسه للأعلى يتفحص غرف الطابق الأول من الدار ثم عاد موجهاً الكلام نحوها هذه المرة بتمهل ينم عن مجاملة.
- أكره الإنجليز.
ردت مبتسمة رغم ما بدا على ملامحها من نفاد الصبر.
- غداً ستحبهم عندما تتعامل معهم، غير مبادئك تقي حتى تتغير عاداتك مع البنت، لا تذلها من أجل المال.
دنا منها تقي وأخرج من جيبه ورقة نقدية ووضعها في يدها وصاح بصوت أجش محتداً.
- دلال، أَنْتِ خوش قوادة لكن جوري مو خوش عاهرةً.