في مهرجان تونس أيام قرطاج المسرحية ثمة عرض شاهدته مسبقا وهو بأم عيني ١٩٤٨ للفنان الفلسطيني الأردني غنام صابر غنام وثمة عرض لم أشاهد منه إلا فيديو فقط وهو "كتاب الغابة" Jungle book للأمريكي روبرت ويلسون، وقد لاحظت من خلالهما الصراع بين قوى الرأسمالية البنيوية التي يمثلها روبرت ويلسون والقوى الاشتراكية المنتصرة للفقراء وللذات الإنسانية وهذا ما يمثله عرض بأم عيني لغنام غنام، كتاب الغابة ينتصر للشكل والمظهر وبأم عيني ينتصر للقيمة والمعنى والجدوى والقضية، وهو ذاته ما أراد غروتوفسكي التعبير والافصاح عنه بنظرية المسرح الفقير الذي كان يدرك جيدا أن الرأسمالية ستقضي على المسرح ذات يوم حين تذهب للاهتمام بالشكل والمظهر في العروض المسرحية وعلى حسابهما ستقتل القيمة والموهبة الفنية وتقتل القضية الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية وقد أراد الدفاع عن نظريته بالقول "إن المسارح لا تتشابه في أشكالها ولكن في مبادئها " كما لو أنه كان يعرف جيدا ما ستصير إليه الأحوال في أصقاع العالم عندما تتسيد القوى الرأسمالية والبنيوية عليه فمعظم المجتمعات ستتحول إلى عاجزة فقيرة ولن يختلف حال الفنان المسرحي عن حال مجتمعه لكن لأن الرأسمالية البنيوية ستفرض عليه تكاليف باهضة تجاه الاهتمام بالشكل والمظهر فإنه سيستقيل حينها عن المسرح لعجزه عن تلبية تلك المتطلبات، لولا أن نظرية المسرح الفقير قد تكون بديلا حيويا وملاذا آمنا لأهل المسرح فبها يمكن أن يحافظ المجتمع على قيمه وينتصر من خلالها لقضاياه ويحافظ الفنان على موهبته ومعاني المسرح وقيمه وجدواه...
أود الإشارة أيضا إلى أن نظرية المسرح الفقير مرنة جدا بحيث تشترط وجود عنصران رئيسيان ليكون هناك مسرح وهما الموهبة الفنية والقيمة الاخلاقية والإنسانية والاجتماعية وهي من المرونة بما يكفي ليضاف إلى وجود ذانك العنصرين اي شكليات أخرى ان كان بالمقدور توفيرها والا فبهما يمكن أن يكون هناك مسرح ويمكن أن يكون هناك حراك مسرحي..
كما ينبغي الإشارة إلى نماذج جليلة في المنطقة العربية تمثل ذات السياق من نظرية المسرح الفقير مثل مسرح بلا إنتاج الذي يتبنى حضوره الفنان جمال ياقوت، وغير ذلك من التوجهات التي ترفع لها القبعة لإنها تمثل المقاومة الفنية ضد تيارات البنيوية الرأسمالية التي تريد انهاك المسارح والنيل منها بافراغها من مبادئها وقيمها ومعانيها..
لقد جاء العرض الأمريكي" كتاب الغابة" بشكل مستخف جدا، فهو عرض لا يمكن تقديم إلا للأطفال المقعدين كما هو واضح وضوح الشمس من شكله ومضمونه وقبل كل ذلك عنوانه.. أو كما قال شكسبير "من يتخذ أجمل المظاهر ينوي أكبر خديعة ".. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يمتلك المسرح العربي نقادا؟
أخيراً أقول من علامات آخر الزمان أن تتسلط البنيوية الرأسمالية ويصبح المسرح مثل "الحج" لمن استطاع إليه سبيلا..