أسبح في البحر وحدى. مساحات المياه من حولي ألمحها عندما ألقى رأسي، فستقية اللون عند الشاطئ ، فيروزية الزرقة كلما أوغلت فيه، بنفسجية عند الأفق حيث يلتقي بالسماء.
أنا في الكون وحدى. أشعر بالرهبة كلما اتسعت المسافة بيني وبين الأرض. لكنها لذة المغامرة. لذة الاقتراب من الخطر ثم العودة منه. وامتحان أثبت به ، أنني لم أفقد القدرة التي وُلدت، ونمت في جسمي، ووالامتزاج بجمال المساحات والزرقة، والهواء المحمل برائحة اليـود والملح، وأشعات الشمس على الأمواج.
أنا عاشق للبحر. ربما في حياة أخرى كنت سمكة ، ثم خرجت منه لأسير بخطواتي على البر. أو هي الوراثة اختزنت شفراتها خلال عصور التطور، أو مرحلة من المراحل مررت بها كجنين في بطن أمي. فأطرافي كالزعانف تجعلني أشق المياه والأمواج التي تقفزعلى وجهي، أو تحملنى فوق ظهرها. لا أخاف منها حتى إن علت، وغضبت، وأطلقت الرذاذ من حولی. عرفتها منذ زمن، والمعرفة فيها حب واطمئنان.
السباحة انطلاق يدعم الثقة في النفس، وقدراتها. لذلك عندما وُلد ابني وهو لايزال طفلا ، سنه لم يتعد السنة ونصف السنة ، كنت أحمله على ظهري ، وأسبح به مسافات في البحر. أتركه قليلا يطفو وحده ، ثم ألتقطه قبل أن يغطس تحت السطح. أصل به إلى البراميل، وندور حـولهـا. يمد أصابعه للطحالب والأسماك، ويحاول الإمساك بها قبل أن تفلت منه.كنت أريد أن يتآلف مع المياه منذ أول خطوات العمر. أن أشعر بذراعيه حول عنقي ، وأنا أسبح. بصدغه الناعم قرب رأسى . بجسمه الصغير ملتصقا بجسمى و كأنه جزء من عظامي ولحمى، بدفء الأحاسيس والطمأنية نتبادلها باللمس. تعلمت الحب، وأنا أعلمه السباحة حتى يستقل، وينفصل عنى ، حتى لا يظل معتمدا علىّ، حتى يصبح حرا يجتاز المسافات وحده .
البحر كالإنسانية حركة دائبة لا تتوقف. قوة تغيير غيرت وتغير، وكل واحد فينا جزء منها. يبنى وبين البحر التجربة، والمعرفة، واتساع الأفق، فبحثت لنفسي عن مكان بالقرب منه ، إلى أن وجدته. مكان صغير على الشاطئ الشمالي على بعد قليل من قرية العلمين ، ومدافن القتلى في الحرب العالمية الثانية .
هنا قضيت شهرا بعد أن رحل صخب المصيفون. أصبحت وحدي في المساحات الخالية أستمع إلى صوت البحر وأمواجه. في الصباح أفتح نافذتي ، فأفاجأ به عميق الزرقة ، وفي الليل تجيئني همساته وأنا راقد في فراشي.
أذهب مرتين في الأسبوع إلى قرية " سيدى عـبـد الرحمن " لأبتاع احتياجاتي. أمتطي دراجتي البنفسجية، أحضرتها معى عندما عدت من نورث كارولينا وأنطلق على الطريق الساحلي مسافة أربعة كيلومترات. أصعد شارعها الرئيسي حيث الحوانيت. أتجول في حواريها الضيقة بين البيوت المختفية خلف الأسوار، تحيطها الحدائق المزروعة بأشجار التين، والرمان، والجوافة، والنخيل تتمايل سيقانه الطويلة في الريح. البيوت كلها مبنية بالطوب الأبيض، صغيرة نظيفة فيها ذلك الطابع المميز للقرى الساحلية، ما عدا فيلل الأثرياء الوافدين أقيمت على الأطراف خارج القرية على مساحات كبيرة. أتوجه إلى مخبز القرية. أجلس عند بابه فوق دكة من الخشب مع " بلبل " الأخ الصغير لصاحب المخبز. أنتظر حتى تخرج أرغفة الخبز المنفوشة ، الساخنة من الفرن ليختار لي منها بعض الأرغفة المحمصة.
طلبت منى أن أعطيه رواية من رواياتى ، وأن أكتب له سطورا فى كراسة تعود أن يسجل فيها مختلف الأشياء. فى إحدى الأمسيات فوجئت بالباب يدق ، فلما فتحته وجدته واقفا أمامى وفى يده لفة قال لى : " أحضرت لك بورى مشوى وجنبرى من الإسكندرية ".
صيدلية القرية الوحيدة تقع إلى جوار الفرن. وفي إحدى الأيام احتجت إلى مسكن لأخفف به الآلام التي أعاني منها في الظهر من كثرة الجلوس خلف المكتب. فذهبت إليها بعد أن قمت بفرش الخبز الساخن على فرخ من ورق اللف في حقيبة السيارة. دفعت بابها فدق جرس صغير في الداخل. وجدت صاحب الصيدلية جالسا خلف مكتبه يدون حساباته. ينحني على أوراقه بوجهه المربع، وحول رأسه هالة من الشعر الأبيض .
بعد هذه الزيارة الأولى تعودت أن أزوره كلمـا ذهبت إلى المخبز ، لأتحدث مع هذا الصديق الجديد ، اسمه الدكتور محروس عطية. يشد على يدي في حماس، ويناولني صحف الأسبوع. أتصفحها بسرعة، ثم استغرق معه في الحديث عن أحوال الدنيا. يتدفق حيوية، تلقائي الطبع، يفاجئني بأن في هذه البقعة البعيدة ، رجلا مازال يتذكر ما حققته ثورة يوليو من إنجازات رغم انه قادر على نقدها بوعي المتأمل .
أبتاع خضرواتي واقفا في ظل شادر من الخشب والخيش. المرأة التي تتولى تعبئتها في الأكياس وميزانها ، تنظر في وجهي بنظرة مباشرة من عينيها الصافيين. العيون هنا كلها صافية، ونظراتها مباشرة كأنها تعودت أن تخترق المساحات. لاحظت جلبابها الفلاحي والمنديل تنسدل من تحته ضفائر الشعر، ولاحظت أنها المرأة الوحيدة التي تبيع في الأسواق. لكنتها فلاحية تختلف عن اللكنة البدوية لأغلبية السكان،فسألتها من أين جاءت.
كان زوجها يضع حبات من الطماطم على كفة الميزان. أسمر الوجه ، خشن التقاطيع، ممزق الثياب، يبدو أكبر سنا من المرأة الشابة المعتنية بنفسها . تطل بـوجـهـهـا الصبوح. بعد ان سمعنی أنطق باسمى ردا على سؤالها اقترب مني وقال " أنا من القضاية وهي من قرانشو". ابتهجت بهذه الصدفة، فهو من قريتى ، وهى من قرانشو فى مركز بسيون بالقرب من قريتى ، محافظة الغربية ، كأن لي أهلا حتى في هذا المكان النائي. اننا في عصر يتحرك فيه الناس دون انقطاع. سألته وما الذي جاء بكما من هناك؟ . فأجاب بلهجة حزينة: " أكل العيش يا دكـتـور. أكل العيش ". ثم أضاف : " قبل كده كنت باشتغل في مصنع في 6 أكتوبر ".
عدت بعد أيام. لم أجد النصبة التي كانا يضعان تحتها الخضروات، ولم أجد أحدا منهما. أختفى الرجل بقامته المحنية، ووجهه الذي يعكس إرهاق الحياة، والمرأة الشابة ذات العينين العسليين، والحواجب الرفيعة المنتوفة. لم يبق لهما أثر. ترى أين ذهبا بحثا عن لقمة العيش؟ .
في أحد الأيام كنت أبتاع بعض الأشياء من محل للبقالة يقع في صدر القرية. صاحبه رجل أشيب الشعر يطلقون عليه سيدي الحاج. عرفت منه فيما بعد أنه تعدى سن الستين. شارك في بعض عمليات الاستكشاف أثناء الحرب العالمية الثانية لحساب القوات البريطانية. كان يتحدث في التليفون فوقفت أنتظر أمامه حتى ينتهي لأدفع الحساب. سمعته يقول بلهجته البدوية: " يا أخي أنا زعلان جدا جدا( بتعطيش الجيم) على الست ديانا. هذه الطيبة الجميلة تموت؟! لا أصدق ".
التـفـت للحـديث ولما انتهى منه سألته: " أنت حزين على الأميرة ديانا؟ " قال:
" نعم. يوم أن ماتت بكيت بالدموع ". قلت: " لماذا؟ " قال: " ست طيبة، قلبها كبير. كانت تفعل الخير وتريد أن تدخل الإسلام ". قلت بخبث: " لكنها كانت تدور مع رجال كثيرين. ثم فعل الخير يمكن أن يكون نوعا من الدعاية سهل بالنسبة لامرأة مالها كثير". فسألني: " رأيك إذن ألا أحزن عليها؟ قلت: أنت حر. ربما توجد أشياء في حياتنا، أو ناس أجدى بهـذا الحزن الكبير الذي عبرت عنه" .
قلت لنفسى وأنا ابتعد فوق الطريق. هذا الشيخ البدوي حزين على ديانا رغم الفجوة الواسعة التي توجد بين حياته وحياتها. إنها شهادة على ما يستطيع الإعلام في هذا العصر أن يصنعه بالعقول. أو ربما هو رجل عجوز ، في هذه البقعة النائية من بلادنا مازال يحلم بالإمبراطورية البريطانية وأمجادها .
عند مطلع القرية، تحت عمارة من ثلاث طوابق، بوحد محل جرارة يديره شاب من البدو اسمه سيد قال لي: " لا تحضر اللحم معك من القاهرة . أشتريه من هنا ، فلا يوجد مثله في أي مكان آخر سوى الواحات. الجو السائد عندنا، وعلف الصحراء يجعله شيئا مختلفا تماما ". اكتشفت أن كلامه صادق. هنا لا يذبحون سوى الماعز والخراف لحمها كالشهد والدهن فيها شفاف سهل الهضم. عندما أذهب إليه يفتح باب الحوش الصغير الملحق بالجزارة لأطل على الأغنام. صغيرة السن، ممتلئة الجسم، صوفها أبيض ناعم كأنها خارجة على إلتو من حمام بالصابون، والماء الساخن.
عندما تأهبت للعودة إلى القاهرة أعد لي ربع خروف وسبتا من التين أنضجته أشعات الشمس. وقبل أن أسافر باع لي ثلاثة أزواج من طيور السمان تأتي في الخريف أفواجا ، أثناء الشهر الممتد من نصف سبتمبر إلى نصف أكتوبر. تجتاز الساحل آتية من فوق البحر بالآلاف في رحلة طويلة هارية من برد الشمال إلى الدفء.
تذكرت أول مرة تناولت فيها لحم السمان ، كان في سجن " الحضرة " بالإسكندرية سنة 1948 . كانت شقة الأسرة في القاهرة ، فأتفق أبي مع متعهد اسمه مصطفى درويش (لا علاقة له طبعا بالناقد السينمائي) على إرسال عامود للطعام إلى حيث كنت لا أزال في الاحتياطي لم يصدر علىّ حكم . وفي أحد الأيام وجدنا زوجين من الطيور الصغيرة في إحدى الطاسات. كنا خمسة في الزنزانة ، فكان نصيب كل منا قطعة من اللحم أصغر من عقلة الأصبع . تكرر هذا الحدث المهم مرة ثانية ، ثم كف السمان عن الوصول إلينا .
*****
كنت جالساً على شاطئ البحر عندما قرأت نبأ وفاة الدكتور" أبو شادي الروبى " وما كتب عنه، فقمت من جلستي وسبحت. سرت مسافة أفكر فيه وأنا معلق هكذا في فضاء الكون. تذكرت أنه تخرج فى كلية الطب في الدفعة التي سبقتني بسنة واحدة. ثم بعد سنين طويلة جمعتني به صداقة ، من ذلك النوع الذي يظل قائما رغم السنين الطويلة التي تفصل بين اللقاءات. كان الطبيب المعالج لأمى حتى وفاتها. أذهب معها أحيانا إلى عيادته في ميدان التحرير، وبعد أن ينتهي الكشف يسألني عن كتاب قرأه، وأعجب ببعض أفكاره فنتناقش قبل أن نغادر العيادة .
كنت أحـول إليه بعض أصدقائي عندما يمرضـون ، فـيـستـقبلهم دائما بترحاب. بين الحين والحين نقضي ساعات في منزلي. يحضر معه بعض الأسطوانات، أو بحثا في تاريخ الطب المصري القديم، أو عند الأعراب. أو نجلس في كازينو على شاطئ النيل. عندما مرض وأصيب بجلطات متتالية ، حكى لى كـيـف قـاوم الموت ودرب نفسه من جديد على التـذكـر والكلام، والنطق الصحيح، كيف خاض المعركة يوما بعد يوم ، ليعود إلي النشاط المهني، والعلمي والفكري الذي ملأ به حياته .
في حياة " أبو شادي الروبي " كثير من الأشياء ولكني في البـحـر تذكرت شيئا ربما لا يعرفه غيرى . أنه في يوم من الأيام في الأربعينيات من هذا القرن ارتبط لفتـرة بتنظيم يساري كان اسمه " القلعة " ، وهو تنظيم سرى كان المحرك الأساسي فيه شاب يدعى على ما أذكر " مصطفى هيكل " هاجر من مصر، وعاش في ألمانيا الشرقية. كان يطلق عليه " الباشا "، ربما بسب لقبه ، ولا أعرف إن كان رحل عن الدنيا أو مازال فيها حتى اليوم.
حكى لى " أبو شادي الروبي " هذه الحقيقة في إحدى جلساتنا. وصف تجربته مع اليسار التي لم تدم طويلا. ولأنه كان أبو شادي الروبي لم يكتف بالنقد أو يتلفظ بالنعوت والشتائم. قال لي إن الماركسية (وهي تسمية لم أعد أميل إليها لأنها توعز كل شيء مرتبط بها إلى شخص) كانت بالنسبة إليه في ذلك الوقت مفتاحا للحلم، لكن الحلم لم يدم طويلا. ومع ذلك تعلم منها الكثير في نظرته إلى المجتمع والحياة . كشفت له عن أدوات للتفكير ظل يستخدمها في التحليل، والتدريس. قال إن اليسار ترك بصمته على التاريخ ، وعلى تطور المجتمع المصرى، وعلى فكر المثقفين حتى وإن كانت هذه الظاهرة محل تجاهل، وإنكار منهم.
تذكرت هذه الأحاديث، فـبـحـكم الِسن أعـرف أن مئات بل آلافا من المثقفين في بلادنا ارتبطوا بالحركة اليسارية، لفترات طويلة، أو قصيرة من حياتهم، أو نهلوا منها في تكوينهم، ثم ابتعدوا عنهـا واحتلوا مناصب في السياسة، أو السلطة، أو التدريس، أو البحث، أو الفكر، أو الإعلام، أو العمل الاجتماعي، أو تقلبوا على أوضاع أو تيارات مختلفة بحثا عن وضع يتوافقون معه، أو يحقق مصالحهم، أو ظلوا في تلك المناطق الهلامية التي يسبح فيها قطاع من اليسار خصوصا في السنين الأخيرة. مع ذلك فالكثيرون منهم لا يكفون عن الهـجـوم على اليسار وكـأنهم يعـوضـون عن ذنب، أو يجـارون موضة من الموضات، أو ينكرون تأثرهم بفكر لم يعد رابحا في هذه الأيام، وقد يمثل خطرا على المواقع التي وصلوا إليها .
وفي رأيي أن اليسار في العالم وفي بلادنا شـابتـه عـيـوب فكرية، وخلقية، وسلوكية يجب دراستها، وتحليلها . ولكن رأيي أيضا أن اليسار ساهم مساهمة مهمة في تاريخ العالم وتاريخ بلادنا، في تطور الفكر والمجتمع. فكر نحن الخاسرون إذا لم ندرسه ونقيمه، وعندما أستخدم كلمة نحن لا أقصد اليسار ، وحده لكني أقصد كل التيارات التي تدعى المساهمة في العمل الفكرى والاجتماعي في بلادنا .
في قديم الزمان كان كل فرعون يتخلص من آثار الفرعون الذي سبقه في اعتلاء العرش. وهكذا فعل عبد الناصر مع الوفد ، وفعل السادات وأنصار الانفتاح مع عبد الناصر ، والعـهـد الذي ارتبط بحركة الضباط الأحرار وسلطتهم .
عندنا مثل يقول " لما تقع البـقـرة تكثر سكاكينهـا ". لكن ليس بهذه الطريقة تُبنى المجتمعات .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
من كتاب في الأصل كانت الذاكرة للدكتور شريف حتاتة
عندما تكلم البحر
By: Sherif Hetata - on: Thursday 12 May 2022 - Genre: Excerpts
Upcoming Events
Online discussion of The Vegetarian by Han Kang Nobel Prize winner 2024
November 08, 2024
This discussion of Han Kang’s The Vegetarian...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
October 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
Book discussion:Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow Sun
September 28, 2024
Chimamanda Ngozi Adichie 's Half of a Yellow S...
Edward Said – Culture and Imperialism
July 27, 2024
Discussion of Edward Said's Culture and Imperi...