"كلٌ مُيسَّر لِما خُلِق له" هكذا خلق الله طه حسين؛ جبارًا في كل شيء، في عناده، جداله، معاركه، ذكائه، أفكاره، مهادنًا حينًا، مغوارًا كثيرًا، لا يلين ولا يستسلم لهزيمة، لكنه يفر ليكر، ليلتقط أنفاسه، ليطور خططه، ثم يستعيد الأرض التي تنازل عنها وانسحب منها! فهو لا يقبل الهزيمة، يأبى التنازل عن أفكاره، لكنه يقبل أن يطورها ويضيف إليها.
صبي؛ فقد البصر في السادسة، بعد أن ألِف النور، وعرف الألوان وعانق ضياء الشمس بمقلتيه، لمس الحقيقة على حقيقتها البكر، وحين ضعف بصره وهَمَّ بالرحيل استعان بسمعه، واتكأ على ذاكرته، لم تخذله أذناه، وما لانت ذاكرته. أذن واعية وذاكرة حاضرة متيقظة، كعدسة تلتقط كل شيء وتحفظه دون عناء.
بهما -الأذن والذاكرة- حطم طه سياج الظلام؛ وبهما خلق الضياء الذي ينشده ويتفق مع عقله وفكره وذاته التواقة إلى نور العلم والحقيقة. بهما أصبح عقل طه عامرًا، وبهما صار ملء الأسماع والأبصار والعقول، لا كما اعتقد أهله ولا كما خشي هو في بادئ الأمر أن يكون شيئًا مهملًا لا قيمة له ولا أثر، يقول في رائعته "الأيام": "كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينًا ورفقًا، وكان يشعر من إخوته بشيء من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له، لكنه كان يجد جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئًا من الإهمال أحيانًا ومن الغلظة أحيانًا أخرى، وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئًا من الإهمال أيضًا، والازورار (الإعراض) من وقت إلى وقت، وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه، لأنه كان يجد فيه شيئًا من الإشفاق، مشوبًا بشيء من الازدراء..... على أنه لم يلبث أن تبين سبب هذا كله، فقد أحس أن لغيره من الناس عليه فضلًا، وأن لإخوته وأخواته يستطيعون مالا يستطيع، وينهضون من الأمر مالا ينهض به، وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يحفظه ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون مالا علم له به، فعلم أنه يرون مالا يرى." الأيام صفحة ٢١- طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة ٢٠٢٣.
لذلك أدمن طه الوحدة؛ عاش طفولته وصباه يساجل عقله ويجادل ذاته، ويطرح عليهما الأسئلة، مهرولًا نحو الحقيقة، غير عابئ بعاهته، لأنه يرى ببصيرته، عقله الفذ الذي ينير له كل سبيل، ويمحو كل عثرة تواجهه، فظل عمره كله، لا يركن إلى حقيقة حتى يختبرها، فلم ينقاد إلا لعقله، ولم يهضم إلا كل سمين نافع، لا شك فيه.
أبعدنا طه بسحر شخصيته عن الخوض في موضوع المقالة، لكن الحديث ما زال عن طه وشخصيته الفذة، نتناولها من جانب ربما لم يلتفت إليه أحد. إن طه بكل عظمته وخلوده ليس إلا أذنًا وعقلًا ووجدانًا جعلوا منه "أعظم شخصية أدبية وثقافية في القرن العشرين" وربما ينطوي القرن الحادي والعشرون قبل أن يرزقنا الله بمثله، أتحدث عن الأمة المصرية، وربما الشرق كله!
"ثم يذكر أنه كان يحب الخروج من الدار إذا غربت الشمس وتعشى الناس، فيعتمد على قصب هذا السياج مفكرًا، مغرقًا في التفكير، حتى يرده إلى ما حوله صوت الشاعر، قد جلس على مسافة من شماله، والتف حوله الناس وأخذ ينشدهم في نغمة عذبة غريبة أخبار أبي زيد وخليفة دياب، وهم سكوت إلا حين يستخفهم الطرب أو تستفزهم الشهوة، فيستعيدون ويتمارون ويختصمون، ويسكت الشاعر حتى يفرغوا من لغطهم، بعد وقت قصير أو طويل، ثم يستأنف إنشاده العذب بنغمته التي لا تكاد تتغير." الأيام ص١٣.
يصف طه حسين ألمه وحسرته حين تدعوه أخته إلى الدخول فيأبى، فتخرج من الدار فتشده من ثوبه، وعندما يمتنع عليها، تحمله بين ذراعيها، تلقيه على الأرض كالأشياء، تضع رأسه بين فخذَّي أمه، تفتح عينه المظلمتين عنوة، الواحدة تلو الأخرى، تقطر أمه "الشيشم" فيهما وهو يتألم في صمت دون صراخ أو بكاء، كي لا يكون مثل أخته الصغرى. بعدها تحمله أخته إلى حجرة صغيرة.
تضعه على حصيرة فوقها لحاف، تضع فوقه لحاف، تأمره أن ينام، لكن طه لا يفعل، ففي قلبه حسرة كبيرة، لأن أخته حرمته من سماع إنشاد الشيخ والعزف الشجي.
هل يستسلم طه لهذا السجن؟ كلا: "وإنه ليمد سمعه مدًا يكاد يخترق به الحائط لعله يستطيع أن يصله بهذه النغمات الحلوة التي يرددها الشاعر في الهواء الطلق تحت السماء." الأيام ص١٤.
هذا هو طه؛ عاشق الفن والموسيقى، الطائر الحر، الكروان الذي أحبه، وأحب أن يكون مثله، لأن صوته بما يحمله من شجن جميل، يملأ صداه الأرض والسماء: "لبيك؛ لبيك أيها الطائر العزيز! ادن مني إن كان من أخلاقك الدنو، وآنس إليَّ إن كان من خصالك الأنس إلى الناس، واسمع مني وتحدث إلىَّ، وهلُمَّ نذكر تلك المأساة التي شهدناها معًا." دعاء الكروان ص١٠- دار المعارف، ط٢١.
هذا هو طه ابن بيئته؛ عزبة الكيلو، لبعدها عن مغاغة كيلو متر واحد داخل إقليم المنيا. عاش يحلم بالخروج من بيئته إلى القاهرة طالبًا العلم، ثم بلغ الحلم مداه فتعلق قلبه بفرنسا من أجل التعلم في السوربون. تحقق الحلم العسير، وجاب الفلاح أقطار العالم طالبًا للعلم، ثم أستاذًا يلقي على طلابه علومه وأفكاره، ثم سائحًا يستمتع بجمال الطبيعة، لكنه لم يجد في نهاية المطاف أجمل من وطنه، ومن القناطر الخيرية، تقول السيدة سوزان زوجته: "لم يكن طه يستريح إلا في القناطر، عندما كان بوسعنا قضاء يوم في أحد بيوت الاستراحة." معك، سوزان طه حسين، ص١٨٤-دار المعارف- ط١-١٩٨٢.
كان طه في وسط هذه البيئة المصرية بامتياز، ووسط الفلاحين في ليالٍ ندية، يجلس مع زوجته ليستمعا سويًا إلى موسيقى باخ، ونوافذ الاستراحة مشرعة، فيُدهَش الخدم والحراس من هذه الموسيقى الغربية الغريبة.
كانت روح طه الهائمة في ملكوت الجمال والسحر والأنوار، تفتش دائمًا عما تحبه وتهواه؛ لهذا كان دائمًا يرسل أذنيه نحو كل رقيق وهامس وناعم من موسيقى أو عاطفة إنسانية رقيقة، وهل الجمال إلا الرقة والعذوبة وصفاء أرواح؟ تقول سوزان: "أستطيع أن أضع في عداد الأفراح النادرة، تلك الأفراح التي منحتها الطبيعة له.... وقد بقي حتى النهاية يحب -كلما اضطر للبقاء في السيارة- أن يكون على طريق خالٍ ليستنشق الهواء الطلق والنسيم..... كانت النزهات تمنحه راحة أكيده.... وما إن نصل إلى البيت وتستقبلنا تحيات فرقة عصافيرنا المنشدة، حتى يكون في راحة تامة، جائعًا إلى حد ما." معك ص٢٧٢.
لقد عشق طه الموسيقى العالمية وفُتِن بها؛ ربما لم يدرسها أكاديميًا، ولم يفهم أصول العزف فيها، لكنه كان شديد التأثر بها، يسعده سماع العزف على البيانو. يستمع كل ليلة من خلال اسطوانات الفونوجراف إلى معزوفات عالمية، مثل سيمفونية فاوست لفرانز ليست، سيمفونية براغ لموزارت، سيمفونية المزامير لستراڤينسكي، وكان عاشقًا ومتيمًا بموسيقى باخ وفوريه.
في أواخر مارس ١٩٥١ كان طه وزوجه في ضيافة الملك بول ملك اليونان والملكة فريديريكا قرينته، وبعد مأدبة الغداء التي أقيمت على شرفهما، جلس الجميع في القاعة الزرقاء يتسامرون، فوجهت الملكة سؤالًا إلى طه: "مَن هو موسيقارك المفضل؟". فأجابها: "باخ".
صفقت الملكة بيدها قائلة: "كنت على ثقة من ذلك." قالتها بعفوية متناهية.
وفي بساطة تشبه عفوية الملكة، قلد ملك اليونان طه حسين "صليب العنقاء الأكبر" كما منحته جامعة أثينا درجة الدكتوراه الفخرية.
إن تعرف طه إلى الموسيقى العالمية لا يعود إلى دراسته في السوربون، ولا إلى إقامته لفترات طويله في باريس، وإنما إلى اهتمام السيدة سوزان به، وعملها على تطوير ذائقته، والعناية الدائمة به وبمشاعره، إلى جانب الاعتناء بهندامه ومظهره، وطريقة تناوله للطعام، بعد أن حرم نفسه من الأكل أمام أقرب الناس إليه، فصار لا يعبأ بأحد ولا يهتم ولا يخجل، وإنما يتناول طعامه بكثير من الرقي والتمكن والهدوء.
بعد كل هذا؛ لنا أن نتخيل طه حسين من دون هذه السيدة العظيمة، التي حولته من شاب إما حزين وصامت في عزلته أو مجادل ومصارع عنيف إذا اندمج مع المحيطين به إلى شاب مثقف، هادئ الطباع، مطلع على أفكار أعظم رجالات الفكر الغربي، وأحدث كتاباتهم، بل ويلتقي بهم، ويطلبون هم أحيانًا التشرف بلقائه.
لقد حببت إليه الموسيقى، والأوبرا والمسرح، والسينما الناطقة، فوجدت لديه القدرة على التفاعل والانسجام والتأثر الوجداني تجاه كل الفنون بأنواعها، فعمقت ثقافته الموسيقية، بقراءات في علم الموسيقى "الطباق الموسيقي" و"حية من الريش". تقول سوزان: "كان بوسعنا الاستماع إلى الموسيقى على نحو خاص، وكان ذلك نعمة. فقد استمعنا من فرقة ألمانية إلى دونجوان ثم إلى ڤيدليو، وكان عوض (ربما تقصد د. لويس عوض) معنا مساء حفلة ڤيدليو، وقد دُهِشَ من سلوك طه الذي كان مفتونًا، غائبًا تمامًا عن القاعة، وعن كل ما كان يحيط به، منفعلًا حتى النهاية، بحيث أنه لم يحاول أن يفهم كلمة واحدة من النص، مستسلمًا بكليته لهذه الموسيقى القوية الناعمة." معك ص١١٤.
لم يكن طه مستمعًا جيدًا للموسيقى فقط، بل قادرًا على استيعابها وعقد المقارنات بين العازفين، فنجده قد استمع إلى سوناتا شوبان (العمل ٣٥) مرة على يد عازف بيانو مجريًا كفيفًا، ومرة على يد كازادسوس، فشعر أن موسيقى المجري كانت تحفر في النفس حتى تصل إلى أعماقها، بينما ضربات موسيقى كازادسوس على البيانو رحبة مهيبة.
في محنته الثانية مع الجامعة بين عامي ١٩٣٢-١٩٣٤ قام بشراء آلة الفونوجراف؛ يخرج في المساء كعادته إلى شرفة مكتبه منتظرًا صديقه الكروان: "ها هو ذا طيري العزيز الذي يملأ الفضاء بغنائه الفرح منذ بدأت الكتابة لكِ (سوزان) إن ذلك يغمرني بالفرح." ثم يعود إلى مكتبه ليستمع خلال الفونوجراف إلى الموسيقى التي يعشقها.
الكروان؛ ذلك الطائر الذي حرص دائمًا على امتاع صديقه، لهذا لم يفترقا أبدًا، كان طه يجده دائمًا بقربه، مستمعًا لصوته الشجي يبدد وحشة الليل ويهدهد السكون الذي يطوق رامتان من كل جانب!
رامتان؛ ذلك الحلم القديم الذي حلم به طه وحققه في عام ١٩٥٦، بعد أن شارف على السبعين! لكنه ورفيقة عمره وضعا تصميمًا للبناء وللحديقة والأثاث، فيلا بيضاء بديعة خططا لكل شيء فيها، من طابق واحد، تقوم على الأرض مباشرة، لكي يتمكن طه من الخروج إلى الحديقة دون عناء، وجهاتها متلاصقة، وشرفة من الحديد المشغول أسود اللون. حديقتها تحوي أشجارًا لها عبير أخاذ، وتكعيبات عنب، وأشجار نسرين وورد وغار، وشجرة صنوبر بديعة، زرعتها سوزان بيديها أمام قاعة الجلوس. في كل مساء عند الغروب؛ يحلق الكروان صديق طه فوق رامتان، يسمعه تحيته بصوت شجي دافئ، ثم يتركه نشوانًا فرحًا، تسري في أوصاله المتعة والبهجة والرضا.