ترجمة وتقديم:
أخبار الأدب مايو 2004
عندما أوقف رجال الأمن الألمان طارق علي في مطار ميونخ بعد أحداث سبتمبر 2001 بفترة قصيرة، كان السبب كما قالوا هو ذلك الكتاب الصغير الذي كان يحمله معه والذي يحتوي علي مقال لكارل ماركس بعنوان 'الانتحار'! وبعد تفتيش حقيبته طلبوا منه أن يترك الكتاب 'بعد الحادي عشر من سبتمبر لا يمكن أن تسافر بكتب كهذه!' وعنسادما هدد بالاتصال بعمدة ميونخ وكان قد حاوره عن الأحداث في مناسبة عامة بالمدينة قبل فترة تركوه يكمل رحلته. المؤكد أن أفراد الشرطة الألمانية كانوا يعرفون ذلك المسافر جيدا كما يعرفه الكل في دوائر السياسة والثقافة والأمن في العالم، وفي الغرب علي وجه الخصوص، وذلك لأن سجلاته لديهم متضخمة بالمعلومات التي تقول إن ذلك المقاتل الثوري علي أكثر من جبهة والمولود في لاهور '1943' صاحب تاريخ مقلق هذه الأيام خصوصا وصاحب فكر تصادمي منذ شبابه الأول. فهو رئيس اتحاد طلاب جامعة البنجاب، ومنظم وقائد المظاهرات العامة ضد الدكتاتورية العسكرية في باكستان في الستينيات، وهو الشاب 'الطائش' الذي أبعده أهله للدراسة في بريطانيا حرصا علي سلامته ومستقبله عملا بنصيحة عمه الذي كان رئيسا للمخابرات العسكرية الباكستانية آنذاك. ثم هو رئيس اتحاد طلبة جامعة اكسفورد في 1965 حيث كان يدرس الفلسفة والسياسة والاقتصاد، وهو عضو محكمة جرائم الحرب التي شكلها 'برتراند راسل' وزار كمبوديا وفيتنام '1967' في إطار نشاطها، وهو أحد رموز الحركة الطلابية العالمية في 1968 ومحاور ومناظر كيسنجر ومايكل ستيوارت عندما كانت حرب فيتنام في ذروتها.. ترك طارق علي حزب العمال البريطاني ليصبح زعيما للتجمع الماركسي الأحمر IMG و الشعبة البريطانية من الأممية الرابعة، والتي انشق عليها أيضا بعد أن ابتلعت الاستهلاكية راديكالية الستينيات. هل قلنا إن طارق علي مقاتل شرس علي أكثر من جبهة؟ في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات كان رئيسا لتحرير صحيفتي 'القسم الأسود' و'الخلد الأحمر' فكتب حول تطورات السياسة العالمية مناهضا للحروب واستغلال الشعوب، كما كتب لصحف أخري مثل 'نيوستيتسمان' و'الجارديان' ورأس تحرير مجلة اليسار الجديد وقدم لطبعة جديدة '1970' من تأريخ شاخت مان: 'السنوات العشر الأولي للحركة التروتسكية' '1923 1933'، وأشرف علي تحرير كتاب 'الإرث الستاليني وأثره علي السياسة العالمية في القرن العشرين' 1984 طارق علي الذي يزور القاهرة الآن بدعوة من الجامعة الأمريكية له أكثر من 14 كتابا في التاريخ والسياسة والأدب، كلها مثيرة للجدل، وهو كاتب ومخرج سينمائي وروائي ومحاضر يتصدر المؤتمرات المناهضة للحروب والعولمة علي النموذج الأمريكي والأصوليات الدينية والإمبراطورية وحروب الإبادة في أفغانستان وصربيا والعراق وفلسطين. من أعماله المنشورة : 'باكستان: حكم عسكري أم سلطة شعبية؟'، و'هل تبقي باكستان؟' و 'نهرويون وغانديون: سلالة هندية حاكمة' و'سنوات حرب الشوارع: سيرة ذاتية للستينيات' و'الثورة من أعلي: الاتحاد السوفيتي إلي أين' وله كتاب عن تروتسكي للمبتدئين. وفي عام 2002 صدر له 'صدام الأصوليات: الحملات الصليبية والجهاد والحداثة' 'ننشر في هذا العدد فصلا منه'، الذي يعيد فيه قراءة التاريخ الإسلامي منذ العهد الأول إلي أحداث سبتمبر التي يراها صدام أصوليات ليس إلا. ولطارق علي خماسية إسلامية صدر منها ثلاث روايات هي: ظلال شجرة الرمان وكتاب صلاح الدين وامرأة الحجر، وكان قد شرع في كتابة الرواية الرابعة 'ليلة الفراشة الذهبية' عندما وقعت أحداث سبتمبر 2001، ويحاول في هذه الخماسية أن يصور الحضارة الإسلامية علي نحو يقول عنه إنه سباحة ضد التيار، وله ثلاثية عن سقوط الشيوعية صدر منها 'افتداء' و'الخوف من المرايا'، أثارتا نقاشات مهمة في الأوساط الادبية وترجمت الي عدة لغات، وله مسرحية قصيرة عن العراق وأوبرا عن الامام الخميني، ثم مؤخرا كتاب عن بوش.. في برج بابل! طارق علي ينطلق في مناظراته ومحاضراته ومجمل كتاباته السياسية والفكرية اليوم من أرضية محددة، أبرز معالمها: الولايات المتحدة هي 'الامبراطورية' والامبراطورية تعني الولايات المتحدة. 'التحالف' ضد الإرهاب يعني الولايات المتحدة 'العولمة' تعني ما تريده الولايات المتحدة للعالم 'الاصوليون المتحجرون' في العالم الاسلامي لم يختلفون عن الفاشست، نفس الأفكار الفلسفية عن الدم والأرض والدين، والاسباب هي نفس الاسباب: سقوط اليسار والخلل الاجتماعي الأقرب للخواء وسياسات الليبرالية الجديدة طارق علي مسافر زاده الثورة!
رسالة إلي شاب مسلم
صديقي العزيز، هل تتذكر يوم أن اقتربت مني بعد انتهاء مؤتمر معارضة للحرب في شهر نوفمبر عام 2001 (كنا، علي ما أعتقد، في جلاسجو). وسألتني ما إذا كنت مؤمنا؟ لم أنس أثر الصدمة التي ارتسمت علي وجهك عندما كانت إجابتي بالنفي، كما لم أنس تعليق صديقك الذي قال 'لقد حذرنا آباؤنا منك'، ولم أنس الاسئلة التي بدأ كلاكما تصويبها نحوي مثل السهام. كل ذلك جعلني أفكر، وهذا الكتاب هو ردي لكما وعلي كل الآخرين الذين وجهوا لي اسئلة مشابهة في أماكن آخري في اوروبا وأمريكا الشمالية، إنه أمر وثيق الصلة بالتاريخ وأرجو أن يكون كافيا. عندما كنا نتحدث قلت كلما إن نقدي للدين ولمن يستخدمونه لأغراض سياسية لم يكن محاولة مني لادعاء الدبلوماسية أمام الناس، لأن الذين يستغلون الدين ويتلاعبون به كانوا يستخدمونه دائما من منطلق اخلاقي لمواصلة أهدافهم الأنانية. صحيح ان هذه ليست القصة كاملة، فهناك بالقطع رجال دين مخلصون في بقاع كثيرة من العالم، يناضلون بحق الي جانب الفقراء ولكنهم دائما في صراع مع الدين المنظم. الكنيسة الكاثوليكية مثلا كانت تضحي برجال الدين من بين العمال والفلاحين الذين نظموا انفسهم ضد الظلم والاضطهاد، كما تعامل آيات الله في إيران بعنف شديد مع المسلمين الذين كانوا ينادون بالراديكالية الاجتماعية. ولو كنت ممن يؤمنون بأن هذا الاسلام الراديكالي هو طريق الانسانية الي الأمام، لما ترددت في الجهر بذلك مهما كانت النتائج. أعرف أن كثيرين من أصدقائك يتغنون باسم اسامة بن لادن، وأعرف انهم ابتهجوا في الحادي عشر من سبتمبر 2001، لم يكونوا وحدهم، حدث ذلك في كل أنحاء العالم، ولكن ذلك لاعلاقة له بالدين. أعرف طلابا في الارجنتين انسحبوا من قاعة الدرس عندما وجه مدرسهم النقد لأسامة، أعرف شابا روسيا أرسل تهنئة بالبريد الالكتروني لأصدقاء له يعيشون خارج نيويورك، كانت رسالته كلمة واحدة: 'تهنئتي' وكان ردهم 'شكرا: كان عملا عظيما'، كما أذكر أننا تكلمنا عن الجماهير الذين رفضوا ان يقفوا في مباريات كرة القدم دقيقتين حدادا فرضتها الحكومة، وبدلا من ذلك كسروا الصمت بهتافات معادية للولايات المتحدة، علي أن لاشيء من ذلك كله يمكن أن يبرر ما حدث. إن ما يكمن وراء السعادة بانجاز الاخرين ليس شعورا بالقوة وإنما ضعف شديد. لقد عاني شعب الهند الصينية علي يد الحكومة الامريكية أكثر مما عانت أي دولة اسلامية، فقد تعرضوا للقصف خمسة عشر عاما كاملة وفقدوا الملايين من الأرواح، فهل فكروا في قصف أمريكا؟ الكوبيون والتشيليون والبرازيليون لم يفعلوا ذلك، شعوب الدولتين الأخيرتين حاربت ضد الحكومات العسكرية المفروضة في بلادهم من قبل الولايات المتحدة وانتصرت في النهاية. الشعوب اليوم تشعر بالضعف ولذلك يحتفلون عندما تتعرض أمريكا للضرب. لايسألون عما يحققه هذا العمل ولا كيف ستكون نتائجه ولا عن المستفيد منه، جوابهم رمزي مثل الفعل نفسه. اعتقد أن اسامة وجماعته قد وصلوا الي نهاية طريق سياسية مسدودة، كان مشهدا كبيرا، ولا أكثر من ذلك. الولايات المتحدة ترد بحرب، لقد عززت أهمية الفعل وإن كنت اشك أن ذلك سينقذه من النسيان أو خمول ذكره في المستقبل، سيصبح مجرد حاشية أو هامش في تاريخ هذا القرن، لاشيء أكثر من ذلك، وبالمعني السياسي أو الاقتصادي أو العسكري كان مجرد 'شكة دبوس'! ماذا يقدم الاسلاميون؟ طريقا الي الماضي لم يكن له وجود حتي لشعوب القرن السابع. إذا كانت إمارة افغانستان هي النموذج لما يريدون فرضه، فسوف يحمل السلاح ضدهم معظم المسلمين، إياك أن تتصور ان أيا من اسامة أو الملا عمر يمثل مستقبل الإسلام، ولو أن الأمر كذلك، فستكون كارثة كبري للثقافة التي نشترك فيها أنا وأنت. هل تريد ان تعيش في هذه الظروف؟ هل تقبل أن تحجب أختك أو أمك أو المرأة التي تحب عن الأنظار ولايسمح لها إلا حيث تكون مكفنة مثل الجثة؟ أريد أن أكون أمينا معك، لقد عارضت هذه الحرب الأفغانية الأخيرة. لا أقبل أن يكون من حق القوي الكبري أن تغير الحكومات كيفما تريد وعندما يؤثر ذلك علي مصالحها، إلا أنني لم أذرف دمعة واحدة علي 'طالبان' عندما حلقوا لحاهم ولاذوا بالفرار عائدين الي بلادهم. هذا لايعني أن من أسروا يجب أن يعاملوا مثل الحيوانات أو أن يحرموا من حقوقهم الأساسية التي تكفلها معاهدة جنيف. وكما قلت في مواضع مختلفة من هذا الكتاب فإن أصولية الامبراطورية لامثيل لها اليوم، فهم يستطيعون تجاهل كل الاتفاقيات والقوانين عندما يريدون. سبب إساءة معاملتهم للسجناء الذين اسروهم بعد شن حرب غير قانونية في افغانستان، إنما لكي يؤكدوا قوتهم أمام العالم وهكذا يمهنون كوبا بالقيام بأعمالهم القذرة علي أراضيها ويحذرون من تسول له نفسه من الآخرين ان يلوي ذيل الأسد، بأن العقاب سيكون شديدا. أتذكر جيدا كيف كانت المخابرات المركزية الامريكية تقوم بتعذيب السجناء السياسيين واغتصابهم في مناطق كثيرة من امريكا اللاتينية أثناء الحرب الباردة، الأمر الذي جعل 'فيليب آجي'، وهو ضابط ميداني من ضباط الوكالة، يخرج عليهم ويكتب 'داخل السرية' ليفضح ما كانوا يقومون به هناك. اثناء حرب فيتنام خرقت الولايات المتحدة معظم اتفاقيات جنيف، عذبوا وقتلوا السجناء، اغتضبوا النساء، كانوا يلقون بالأسري من طائرات الهيليكوبتر ليموتوا علي الأرض أو غرقا في البحر، وكان كل ذلك طبعا باسم الحرية، ولأن الكثيرين في الغرب يصدقون هراء 'التدخل الانساني'، فإن مثل تلك الأعمال تصدمهم، ولكن ذلك يعتبر أقل حدة نسبيا مقارنة بالجرائم التي ارتكبتها الامبراطورية في القرن الأخير. لقد التقيت بكثيرين من شعبنا في أماكن مختلفة من العالم منذ الحادي عشر من سبتمبر وكان هناك سؤال واحد يتكرر: هل تعتقد اننا نحن المسلمين أذكياء بما يكفي لنكون قد قمنا بهذا العمل؟ وكانت إجابتي في كل مرة 'نعم!'، ثم اسأل من كان في رأيهم المسئول.... وكانت الإجابة دائما: 'اسرائيل'... لماذا؟ 'لكي يكذبونا ويجعلوا امريكا تهاجم دولنا'. أحاول دائما أن أفند أوهامهم التي يتمنونها، بيد أن الحوار يصيبني بالحزن. لماذا غاص كثير من المسلمين في مستنقع هذه البلادة؟ لماذا تفرغوا لرثاء الذات؟ لماذا سماؤهم دائما ملبدة بالغيوم؟ لماذا لابد ان يكون هناك دائما من نلقي باللوم عليه؟ عندما نتكلم، يصبح لدي أحيانا انطباع بأنه لايوجد بلد إسلامي واحد يمكن ان يفخروا به. الذين هاجروا من جنوب اسيا يلقون في بريطانيا معاملة افضل من معاملتهم في السعودية أو دول الخليج.. هنا بالتحديد، لابد من أن يحدث شيء ما. العالم العربي في حاجة ماسة للتغيير. علي مدي سنوات، وفي كل حوار مع عراقيين وسوريين وسعوديين ومصريين واردنيين وفلسطينيين، تثار الاسئلة نفسها، المشكلات نفسها تحدث، نحن نختنق، لماذا لانستطيع التنفس؟ كل شيء راكد، متحجر، اقتصادنا، سياستنا، مثقفونا... وقبل كل شيء، ديننا! فلسطين تعاني كل يوم، الغرب لايفعل شيئا، حكوماتنا ميتة، سياسيونا فاسدون، شعوبنا مهمشة. والمذهل ان البعض يستجيب للإسلاميين! من غيرهم يقدم شيئا.. أي شيء.. هذه الأيام؟ الولايات المتحدة؟ انها لا تريد الديمقراطية... حتي في قطر الصغيرة، وذلك لسبب بسيط جدا. لو أننا قمنا بانتخاب حكوماتنا فلربما طالبت هذه الحكومات الولايات المتحدة بإزالة قواعدها، فهل يمكن أن تفعل ذلك؟ انهم يشعرون بالاستياء فعلا من قناة الجزيرة لأن لديها أولويات اخري سواهم. كان جميلا عندما كانت الجزيرة تهاجم فساد النخب العربية، وقد خصص 'تومي فريدمان' عمودا كاملا ليمدح قناة الجزيرة في 'نيويورك تيمز'، كان يراها علامة علي ديمقراطية قادمة الي العالم العربي. لم تعد كذلك، لأن الديمقراطية تعني أن يكون لك الحق في أن تفكر علي نحو مختلف، وقد عرضت الجزيرة صور الحرب الأفغانية التي لم تعرض علي الشبكات الامريكية، قام 'بوش' و'بلير' بالضغط علي قطر لايقاف هذا البث غير الصديق! الديمقراطية الغربية معناها ان تؤمن تماما بما يؤمنون به، فهل هذه حقا ديمقراطية؟ لو انتخبنا حكوماتنا في دولة أو دولتين، فقد يختار الناس الاسلاميين، فهل يتركنا الغرب وشأننا؟ هل تركت الحكومة الفرنسية العسكر الجزائريين وشأنهم؟ لم يحدث. لقد اصرت علي ان تلغي انتخابات 1990 و.1991 المثقفون الفرنسيون وصفوا الجبهة الاسلامية للانقاذ بالفاشست الاسلاميين، متجاهلين كونهم قد فازوا في الانتخابات. ولو كان قد سمح لهم بتشكيل الحكومة لظهرت الخلافات الموجودة بينهم الي السطح. كان يمكن للجيش ان يحذر فقط من اي مساس بالحقوق التي يكفلها الدستور، وعندما تمت إزاحة القادة الأصليين لجبهة الانقاذ، هنا فقط برزت إلي الواجهة العناصر الأكثر رثاثة وصنعت كل ما حدث من أضرار. هل نلومهم علي الحرب الأهلية، أم نلوم أولئك في الجزائر وباريس الذين سرقوا انتصارهم؟ المجازر في الجزائر رهيبة، فهل الاسلاميون وحدهم المسئولون عن ذلك؟ ماذا حدث في بنطلحة علي بعد عشرة أميال جنوبي الجزائر العاصمة ليلة 22 سبتمبر 1997؟ من ذبح الخمسمائة رجل وامرأة وطفل في هذه المنطقة؟ من؟ الفرنسي 'برنار هنري ليفي'، الذي يعرف كل شيء، متأكد من أنهم الإسلاميون، الذين ارتكبوا هذا العمل الفظيع. ثم لماذا رفض الجيش أن يسلح المحليون أنفسهم للدفاع عن أنفسهم؟ ولماذا صرف الميليشيات المحلية في تلك الليلة؟ لماذا لم تتدخل قوات الأمن وهم يشاهدون ما يحدث أمامهم؟ لماذا يعتقد السيد 'ليف' أن المغرب لابد ان يكون تابعا وخاضعا لاحتياجات الجمهورية الفرنسية، ولماذا لايهاجم أحد هذا الضرب من الأصولية؟ إننا نعرف ما ينبغي علينا القيام به، هكذا يقول العرب، ولكن الغرب يتدخل في كل مرة ليعيد قضيتنا إلي الوراء عدة سنوات، لذا إذا كانوا يريدون المساعدة حقا، فليتركونا وشأننا. هذا ما يقوله أصدقائي العرب وأنا أوافقهم علي هذا الطرح. انظر الي ايران. النظرة الغربية تحولت الي التعاطف إبان الهجوم علي افغانستان. كانت ايران مطلوبة من أجل الحرب، لكن دع الغرب يراقب علي البعد، الأصوليون الامبرياليون يتحدثون عن 'محور الشر'. الذي يضم إيران. إن أي تدخل هناك سيكون قاتلا. هناك جيل جديد خبر القمع الديني ولم يعرف سوي ذلك. القصص عن الشاة اصبحت جزءا من تاريخه القديم، الجيل الجديد من الجنسين واثقون من شيء واحد إن لم يكن من أي شيء آخر، انهم لايريدون حكم آيات الله، ذلك بالرغم من أن ايران في السنوات الأخيرة لم تكن اسوأ من العربية السعودية أو إمارة أفغانستان السابقة، إلا أنها لم تكن جيدة بالنسبة للشعب. دعني أروي لك قصة، قبل عامين التقيت مخرجا سينمائيا ايرانيا في 'لوس انجلوس' اسمه مسلم منصوري، وكان قد استطاع الهرب بمادة سينمائية عبارة عن تسجيلات لمقابلات اجراها علي مدي ساعات وهو يحضر لفيلم تسجيلي. كان مسلم قد كسب ثقة ثلاث داعرات من طهران وسجل معهن علي مدي أكثر من عامين، أراني جزءا من المادة، كن يتكلمن بصراحة تامة. شرحوا له كيف أن أفضل الزبائن كان يمكن الحصول عليهم في الاحتفالات الدينية. عرفت روح الفيلم من النسخة التي أرسلها الي، واحدة من النساء تقول له: الكل اليوم مضطر لبيع جسده، نساء مثلنا لابد من أن يتحملن رجلا مقابل عشرة آلاف تومان.. لانستطيع ان نقول شيئا... الشباب يريدون أن يكونوا معا علي السرير ولو لعشر دقائق... احتياج طبيعي، يساعد علي تهدئتهم. وعندما لاتسمح الحكومة بذلك تنتشر الدعارة. لسنا في حاجة حتي للكلام عن الدعارة، الحكومة انتزعت حق الكلام مع الجنس الآخر بحرية.. وعلنا... في الحدائق ودور السينما والشوارع.. لاتستطيع الكلام مع الشخص الجالس بجوارك، لو تكلمت في الشارع مع رجل لن تنتهي من استجواب الحرس الاسلامي: من هذا الشخص؟ ما درجة قرابته لك؟، ما علاقته بك؟أين أوراقك الثبوتية؟ اليوم لا أحد في بلادنا يشعر بالرضا، لا أحد يشعر بالأمان. ذهبت الي إحدي الشركات بحثا عن عمل، نظر الي مدير الشركة، وهو شاب ملتح وقال: سأعطيك وظيفة مقابل عشرة آلاف تومان فوق الراتب المقرر، قلت 'يمكنك علي الأقل امتحان مهاراتي في استخدام الحاسب الآلي لمعرفة درجة كفاءتي' قال: سأعطيك الوظيفة لجمال عينيك!'، عرفت أنني إذا عملت هنا سيكون علي أن أنام معه مرة علي الأقل كل يوم، قلت لنفسي أن الأمر لايستحق، لو عملت لحسابي سوف أكسب أكثر. أينما ذهبت تجد نفس الشيء. ذهبت الي احدي المحاكم الخاصة بالأسرة للحصول علي الطلاق وتوسلت للقاضي، وهو رجل دين، لكي تكون لي حضانة طفلي. 'أرجوك'، 'سأكون خادمة لك'! ماذا تظن كان رده؟ قال: لا أريد خادمة.. أريد امرأة: ماذا تتوقع ان يكون الآخرون إذا كان رئيس المحكمة رجل الدين يقول ذلك؟ كان الرجل يحمل لحية وشعرا علي وجهه يزن خمسين كيلوجراما.... ويقول إنه يريد امرأة. سألته: هل لديك زوجة؟ قال: أريد أكثر من زوجة. ذهبت الي الضابط لتوقيع وثيقة الطلاق، قال يجب ألا تطلقي، من الأفضل لك أن تتزوجي مرة اخري دون طلاق، هكذا بشكل غير شرعي، لأنك، بدون زوج، سيكون من الصعب أن تجدي عملا. كان محقا، لم يكن لدي نقود لأعطيه. هذه الأشياء تجعلك عجوزا بسرعة، تصيبك بالاكتئاب وبالضغط.. وهو مدمر. ربما كانت هناك وسيلة للخروج من ذلك. في الغرب هناك رعاية اجتماعية للداعرات وهناك تأمين حكومي ورعاية طبية... ألخ، هنا ليس لدينا حق في أن نكون موجودين اصلا، لماذا؟ نحن عمال ايضا كما تعرف. امرأة ثانية مجبرة علي بيع جسدها تقول له: الرجال الذين يجيئون للحصول علي خدماتي من كل نوع، باعة في البازار، طلبة، أطباء، مسنون، شبان، اميون....،..... أي واحد لديه نقود، نقود لشراء امرأة لبعض الوقت، معظمهم يعاملوننا بالفعل معاملة سيئة، ولأنهم يدفعون لنا يعتقدون ان من حقهم أن يفعلوا معنا أي شيء،.... ونحن نتحمل. لا أحد يشعر بالأمان المادي في مجتمعا اليوم، لا أستطيع ان أدفع قيمة الايجار.... فماذا أفعل؟ لو لم أبع جسدي هذه الليلة فلن تكون معي نقود غدا. في مجتمع لا تستطيع أن تجد فيه عملا لايوجد أمان، لاحقوق، ماذا بوسع المرء أن يفعل؟ تخرج الي الشارع وتكون باستمرار خائفا من الحرس الاسلامي حيث يمكن ان يقبض عليك لأي سبب.... خصلة شعر ظاهرة من تحت اعجاب... اثار احمر شفاه... اي شيء. لو كنت في مجتمع يمكن أن أعمل فيه وأعول نفسي مستقلة عن أي شخص آخر، لما أقدمت علي بيع جسدي، ربما كنت سأحتاج أن أكون مع احد، حينذاك كنت سأختار.. كان يمكن ان أعيش مع مشاعري كما أريد.... مع الفرح... ولكن في وضع كهذا، فإن الحكومة جعلت الرجال يشترون وجعلتنا نبيع. كان مسلم يشعر بالذهول وخيبة الأمل لأن الشبكات الامريكية رفضت شراء الفيلم. لم يريدوا ان يزعزعوا نظام 'خاتمي'. مسلم نفسه هو ابن الثورة، ولولاها لما أصبح مخرجا سينمائيا. جاء من أسرة فقيرة جدا. والده مؤذن وكانت نشأته دينية متزمتة، وهو الان يكره الدين بشكل لايمكن وصفه، رفض ان يشارك في الحرب ضد العراق. قبض عليه وكانت تلك هي التجربة التي حولته: كان ذلك عام 19781979 عندما اقمت كشكا صغيرا لبيع الصحف عند ناصية شارع مزدحم في 'سانجار'، كل اسبوع كنت أحضر كتب ومجلات الجماعات السياسية لأبيعها، بعد فترة اصبح المكان نقطة تجمع للشباب وللمهتمين الذين يجيئون لمناقشة الموقف السياسي. ذات ليلة دهم الحرس الاسلامي الملقب بحزب الله الكشك واحرقوه، لمدة اسبوع كنت اقف بالكتب المحروقة امام الكشك المحروق كل يوم، بعد ذلك قبضوا علي ووضعوني في السجن. كانت تجربة صعبة ولكنها مفيدة، في السجن عرفت أنني وصلت الي مرحلة النضج الفكري. أعرف أنني لن أتمكن من عمل الأفلام التي أريد بسبب نظم الرقابة، وأن السيناريو الذي سأكتبه لن يحصل علي موافقة مكتب الرقابة الإسلامية، وأن وقتي وطاقتي سوف يتبددان، فقررت ان أصنع ثمانية أفلام وثائقية سرا، صورت هذه المادة في الفترة ما بين 1994 و1998 وهربتها إلي خارج إيران، وبسبب المشاكل المالية لم أتمكن إلا من طبع اثنين منها. الأول 'لقطة طويلة عن قرب' والثاني 'شملو.. شاعر الحرية'. الفيلم الأول عن حياة حسين سابزيان الذي كان الشخصية الرئيسية في الدراما التسجيلية 'لقطة عن قرب' لكياروستامي، والثاني قصة شاب يحاول ان يقدم نفسه إلي إحدي الأسر باعتباره ماخمبالباف والذي يشبهه من الناحية الجسدية، تشتري الأسرة قصته وتحاول ان ترعي أحد أفلامه معتقدة أنه فعلا المخرج الشهير، ويعيش معهم أربعة أيام إلي أن يكتشف أمره ويلقي القبض عليه في النهاية. بعد فيلم كياروستامي بسنوات قليلة ذهبت لزيارة سابزيان. يحب السينما، اختلف مع زوجته وأولاده فتركوه وهو يعيش اليوم في قرية خارج طهران، وقد توصل إلي استنتاج وهو ان حبه للسينما لم ينتج عنه سوي البؤس. يقول في فيلمي: أمثالي يتحطمون في مجتمع كهذا الذي نعيش فيه، لايمكن أبدا أن نقدم أنفسنا، هناك نوعان من الموتي: 'ممددون علي الأرض وسائرون، نحن موتي سائرون'.
نستطيع أن نجد قصصا كهذه وربما اسوأ منها في كل دولة إسلامية. سأضيف شيئا آخر قبل أن أتوقف، هناك فارق كبير بين مسلمي الشتات، اولئك الذين هاجر آباؤهم إلي الغرب، واولئك الذين مازالوا في ديار الإسلام. الذين في ديار الإسلام أكثر انتقادا لأن الدين عامل حاسم في هويتهم حيث من المسلم به أنهم مسلمون. في اوروبا وأمريكا الأمر مختلف، هنا في ظل التعددية الثقافية الرسمية، تأكدت الفوارق علي حساب كل شيء آخر، صعودها مرتبط بانهيار السياسات الراديكالية، الثقافة والدين بدائل مخففة وأهون من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، كما لو كان التنوع هو القضية المركزية اليوم: كنت أقاوم واستمتع بشعوري بالقوة، الشعور بأنني كنت أنقذ حياتي من العالم الفاسد لرجال الدين، وأن سجني كان ثمنا أدفعه لذلك. كنت فخورا! بعد عام في السجن قالوا إنهم سيطلقون سراحي بشرط ان أوقع تعهدا بأداء صلاة الجمعة والمشاركة في الأنشطة الدينية. رفضت التوقيع، تركوني في السجن عاما آخر. عندما أفرجوا عني كان مكان مولدي يبدو صغيرا جدا بالنسبة لي، كنت أختنق هناك فجئت إلي طهران. كنت أعمل بالنهار وأذهب الي الجامعة الحرة في المساء. في أوائل الثمانينيات لم أكن مهتما بالسينما، كانت أفكاري وكدي اليومي لاتترك وقت لدي بهذا الفن أو أن يكون لدي خطة علي المدي الطويل. بقيت علي اعتقادي بأنني لن أتأقلم مع الوضع في ايران، كان الجو الاجتماعي والسياسي كله مزعجا علي نحو خطر. بعد انتهاء الحرب (1989) اصدرت الحكومة قانونا يتطلب أن يقوم الناس بتغيير شهادات ميلادهم القديمة بشهادات جديدة. عرفت أنني لو ذهبت لاستبدال شهادة ميلادي سيكون علي أن أتخلي عن وثائقي المزيفة وسوف يتضح أنني متهرب من التجنيد ومن المشاركة في الحرب. من ناحية اخري فإن تكاليف الدراسة الجامعية باهظة، فقررت أن أذهب لأداء الخدمة العسكرية. بعد رجوعي بحثت عن عمل، وبالمصادفة وجدت مجلة سينمائية تبحث عن مراسل، وحدث أن حصلت علي الوظيفة. ورغم أنني كنت أحاول أن تكون مقابلاتي مع مخرجين وشخصيات أدبية غير حكومية، إلا أنني كنت أعرف جيدا أن كتابة أي شيء حتي ولو كان نقدا للحكومة. سوف يكون النظام مستفيدا منه وسوف يدعي أنه يسمح بالنقد وأنه نظام ديمقراطي. كانت السينما تحت سيطرة الدولة تماما، كما كان السينمائيون مقيدين بحدود النظام. ولو أنني أجريت مقابلات مع مخرجين مثل ميهرجوي أو ماخمبالباف أو كياروستامي فسوف يكون ذلك مفيدا في النهاية بالنسبة للنظام، فقلت لنفسي إنني يمكن أن أترك النظام يستفيد مني مؤقتا، كنت أعتقد أن عملي في الإعلام يمكن أن يكون بمثابة غطاء لمشروعاتي الخاصة وهي توثيق الجرائم الرهيبة للنظام السياسي نفسه، كنت في المجتمع الأمريكي أو الاوروبي.
لقد تحدثت مع مسلمين من المغرب (فرنسا) والأناضول (ألمانيا) وباكستان وبنجلاديش (بريطانيا) ومن كل مكان (الولايات المتحدة) وأشخاص متفرقين من جنوب آسيا في اسكندنافيا، وكنت اسأل نفسي دائما لماذا هناك كثيرون جدا مثلك؟ لقد أصبحوا أكثر تشددا وجمودا من فلاحي كشمير والبنجاب الغلاظ والذين أعرفهم جيدا. الرئيس الامريكي ينهي كل خطاب له بعبارة 'وليحفظ الله امريكا'، اسامة بن لادن ينهي كل حوار تليفزيوني معه بحمد الله، لهم الحق في ذلك كما هو من حقي أن أظل ملتزما بمعظم قيم التنوير. التنوير هاجم الدين المسيحي اساسا لسببين، لانه كان مجموعة من الأوهام الأيديولوجية ونظاما للقمع المؤسسي مع سلطات واسعة للاضطهاد واللاتسامح. لماذا يجب إذن أن أمتنع عن نقد الدين؟ لماذا ينبغي أن نتجنب هذين التراثين اليوم؟ ومن ذا الذي يمكن أن يتصور أن الأديان قد أصبحت أقل وهما منذ أيام 'هولباخ' أو 'جيبون'؟ لم أكن ابدا في حياتي محبا للنسبية أو للمحاجة الخاصة، ما أود أن أعرفه هو لماذا لايوجد اسم مسلم واحد عندما يعلن عن جائزة نوبل للفيزياء أو الكيمياء كل عام، هل الذكاء والموهبة والإلهام لا وجود لها في جينات المسلم؟ إنها لم تكن غائبة أبدا في الماضي! ما الذي يفسر هذا التخشب الموتي؟
شر البلية مايضحك! هل تعلم أن المسلم الوحيد الذي حصل علي جائزة نوبل في الفيزياء كان شخصا أعرفه؟ إنه مواطن باكستاني، البروفيسور عبدالسلام. من أسف أنه كان من طائفة أو نحلة الأحمدية غير المعترف بهم كمسلمين عندما حصل علي الجائزة. بعد ذلك بسنوات قليلة أبلغوه، بشكل قانوني، أنه ليس كذلك، وكان قد اعتاد أن يمزح، مع مسحة من الأسي، قائلا انه بالرغم من عدم اعتباره مسلما في باكستان، إلا أنه مايزال كذلك في الهند وأوروبا وشرق أفريقيا. لا أريدك أن تسيء فهمي، مقتي للدين ليس مقصورا علي الإسلام فقط، ولا أنني أتجاهل، كما يصور هذا الكتاب، الدور الذي لعبته الأيديولوجيات الدينية في الماضي لكي تدفع العالم إلي الأمام. لقد كانت الصدامات الدينية بين تفسيرين خصمين في المسيحية الإصلاح البروتستانتي ضد الحركة الكاثوليكية المعارضة للإصلاح وهي التي أدت إلي الانفجارات البركانية في أوروبا، وهنا كان جدل فكري حاد مشحون بالعواطف والمشاعر اللاهوتية أدي إلي حرب أهلية تبعتها ثورة. هبة القرن السادس عشر ضد الاحتلال الإسباني فجرها هجوم علي صور مقدسة باسم سلامة القعيدة. إدخال كتاب صلوات جديد في اسكتلنده كان أحد أسباب الثورة البيوريتانية في انجلترا في القرن السابع عشر، رفض السماح بالمذهب الكاثوليكي كان هو الشرارة التي فجرت المذهب الذي جاء بعده في 1866، التخمر الثقافي لم يتوقف، وبعد قرن كانت أفكار التنوير هي التي تذكي نار أفران فرنسا الثورية. كنيسة انجلترا والفاتيكان متحدثان الآن ضد الخطر الجديد ولكن أفكار السلطة الشعبية والجمهوريات كانت أقوي من أن يتم محوها بسهولة. استطيع أن أسمع سؤالك: وما علاقة ذلك كله بنا؟ العلاقة كبيرة ياصديقي، أوروبا الغربية كانت مشتعلة بالمشاعر اللاهوتية التي يتم تجاوزها الآن، كانت الحداثة تلوح في الأفق، كانت تلك هي الدينمية التي لم تستطع ثقافة ولا اقتصاد الامبراطورية العثمانية ان يحاكيها. الانقسام السني الشيعي جاء سريعا وتجمد في خصومات مذهبية، كان الخروج عن الاسلام محظورا، وكان السلطان محاطا برجال الدين التابعين له يحكم دولة امبراطورية تذوي وتحتضر. واذا كان الحال هكذا في القرن الثامن عشر فإنه أكثر وضوحا اليوم، ربما كانت الطريقة الوحيدة ليكتشف المسلمون بها ذلك هي تجاربهم... مثل ايران. ان صحوة أو صعود الدين يمكن تفسيرها جزئيا بغيبة أي بديل آخر للنظام العالمي أو الليبرالية الجديدة. هنا سوف تكتشف أنه طالما واصلت الحكومات المتأسلمة فتح دولها للاختراق، فسوف يسمح للعولمة بعمل ما تريد في المجال الاجتماعي والسياسي. لقد استخدمت الامبراطورية الأمريكية الاسلام قبل ذلك وبوسعها ان تفعل مرة اخري، وهنا يكمن التحدي. نحن في حاجة ماسة إلي إصلاح إسلامي يكنس نزعة المحافظة والتخلف والأصولية المخبولة، وفوق ذلك كله تفتح عالم الإسلام لأفكار جديدة تكون أكثر تقدما مما يعرضه الغرب وهذا يتطلب فصلا صارما بين الدولة والمسجد وإزالة الإكليروس وتأكيد مثقفي المسلمين علي حقهم في تفسير وتأويل النصوص التي هي ملكية عامة للثقافة الإسلامية ككل، وعلي حرية التفكير والعقلانية وحرية الخيال. إن لم نتحرك في هذا الاتجاه فسيكون محكوما علينا بأن نعيش المعارك القديمة مرة اخري وألا نفكر بمستقبل أكثر ثراء وإنسانية. وإنما كيف نتحرك من الحاضر إلي الماضي، وهذه رؤية غير مقبولة. لقد تركت العنان لقلمي، وعبرت كثيرا عن أفكاري، وظني أنني لن أتغير، أتمني أن تتغير أنت!
ترجمة لفصل من كتاب : 'صدام الأصوليات
مدن بكاملها تباع وتشتري
ليلة باردة من ليالي فبراير .1982 كانت 'درسدن' غارقة في المطر عندما ذهب 'فلادي' وزوجته 'هيلجا' لزيارة أمها المريضة. بعد اسبوع قاما فيه برعاية الأم التي كانت تعاني من سكتة دماغية حادة، ومساعدة الأب الذي يبلغ الثمانين من عمره، أصر 'فلادي' علي قبول دعوة للعشاء. تجمع أكثر من اثني عشر منشقا في الشقة الصغيرة يتبادلون الأحاديث عن تجاربهم وعن الموقف السياسي واستهلكوا كمية كبيرة من البيرة. وفي طريق العودة، لمح 'فلادي' رجلا فيتناميا أنيقا يتأبط ذراع امرأة ألمانية.. شابة وجميلة. لم تكن 'هيلجا' تعرف إن كان طالبا أو عاملا بأحد المصانع المحلية، وفجأة.. ظهر من المجهول ثلاثة أو أربعة أشخاص وأحاطوا بالفيتنامي والألمانية. طرحوا 'ساو' أرضا. وبينما كان أحد المعتدين يمسك بالسيدة، انهالت علي 'ساو' ثلاثة أزواج من الأحذية! جثم رجلان علي صدره، بينما نزع الثالث بنطلون 'ساو' عنه وهو يلوح بسكين! في البداية، لم يرفع 'ساو' ولا صديقته ولا أحد من المهاجمين الثلاثة صوته، أما 'فلادي' و'هيلجا' فقد تجمدا في مكانهما وكأنما قد أصابهما الشلل أمام ذلك المشهد الصامت الذي كان يبدو من علي البعد وكأنه عرض خرافي من عروض خيال الظل. بعدها، راحت السيدة تصرخ طالبة النجدة، واندفع 'فلادي' و'هيلجا' في الشارع يصرخان ويطلبان الشرطة. المهاجمون لاذوا بالفرار. ساعد 'فلادي' في رفع 'ساو' من الأرض بينما كان أنفه ينزف. فكت 'هيلجا' وشاحها واستخدمته لايقاف النزيف وكانت السيدة الألمانية تنتحب. 'هل أنت بخير؟'. 'خصيتاي ما تزالان هناك!'، قال 'ساو' وهو يحاول أن يبتسم بضعف. 'أما بالنسبة للباقي.. فهو كما تر.. شكرا لك'. سألته هيلجا 'من أولئك الناس؟'. تكلمت صديقة 'ساو' لأول مرة: شبان شيوعيون، ثم همست 'ظل أحدهم يطاردني لعدة شهور وعندما اكتشف انني ألتقي 'ساو' هدد بقتله'. رد 'فلادي' بقدر من الغرور: 'أتمني أن تقول ذلك للشرطة.. هل تعرف اسمه؟'. ضحك 'ساو'. 'الشاب الذي حاول اخصائي؟، طبعا أعرفه. ولكن هل تعلم أن والده هو رئيس الحزب في هذه المدينة؟ إن تقدمت بشكوي سأكون أنا الضحية.. سيقومون بترحيلي!'. 'كيف يمكن أن تكون هادئا هكذا؟'. 'لست هادئا بالمرة! '، قال وهو يحاول أن يكظم غيظه!.. 'أنا غاضب جدا.. وأشعر بالمرارة.. وأفكر في الانتقام، ولكنني بلا حول ولا قوة في جمهوريتكم الديمقراطية جدا.. لو فقدت السيطرة علي نفسي.. فلسوف أختفي من علي وجه الأرض في غضون أسابيع قليلة'. 'فلادي' الحائر.. ألمح الي أنه لا يستطيع أن يتبع المنطق الفيتنامي، كان 'ساو' يبتسم من خلال النزيف. 'أنا جندي مدرب.. مقاتل.. تعلمت أن أقتل عدوي في هدوء. كان بإمكاني أن أكسر رقابهم لو لم تصلا الي هنا. وبعد ذلك كان ال 'ستاسي'
سيقوم بتدبير حادث في مصنعي. أمر ثقيل سيحل بي. حادث صغير يروح ضحيته عامل 'أجنبي' آخر. وهكذا تري يا صديقي أنك قد أنقذت رجولتي وحياتي أيضا. والآن، أرجوك، نريد أن نعود الي البيت هي الي شقة أمها، وأنا الي النزل الذي أقيم به'. 'هيلجا' أصرت علي أن تأخذ 'ساو' معها الي منزلها، وهناك ضمدت جراحه التي كان معظمها بسيطا، وتغلبت علي تردده أن يتطفل عليهم مرة أخري. أخذ حماما، وبعد وجبة أعدت علي عجل أوصله 'فلادي' بسيارته الي النزل الفيتنامي، وهو بناء يشبه السجن كان علي أطراف المدينة. اتفقا علي اللقاء في اليوم التالي. هكذا ولدت الصداقة بينهما. بعد عام من حادث 'درسدن' اختفي 'ساو'. لا أحد يعرف أين ذهب! وذات يوم وصل خطاب من 'موسكو'. كان 'ساو' يريد أن يبلغ فلادي و'هيلجا' أنه قد استقر هناك وأنه كان سعيدا. كان لديه أقارب وأصدقاء ورفاق منذ الحرب الفيتنامية في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي. كان علي صلة مستمرة بهم جميعا وكان كثير الأسفار. ويتمني أن يكون 'فلادي' و'هيلجا' و'كارل' الصغير بخير. وسوف يراهم قريبا. كان ذلك هو كل ما جاء في خطابه. وعلي امتداد السنوات التالية لذلك، كانا يتلقيان منه البطاقات البريدية العارضة، وأحيانا كان يحضر زائر ما من 'موسكو' يحمل هدية من 'ساو'.. وكانت دائما علبة 'كافيار' كبيرة لا تحمل أية علامة تجارية مع رسالة قصيرة من صديقهما تخبرهما بأن ذلك من الكافيار الخاص بالمكتب السياسي. وبعد تذوقه.. يدرك 'فلادي' و'هيلجا' أنه لم يكن يمزح. وكثيرا ما كانا يتكلمان عنه ويتساءلان ماذا يمكن أن يكون نشاطه وماذا يفعل في 'موسكو'! 'فلادي' يتذكر الآن مناقشاته الكثيرة مع 'ساو'. وبعد فترة بدأ يتجاهل خيالات صديقه التي لا تنتهي والتي كانت تدور كلها حول المال. كان الرجلان مختلفين تماما. وتناقضهما كان يعكس أحوالهما وأصولهما. كان 'فلادي مايور' قد رضع المثالية الألمانية، ورغم ادمانه لجوانب كثيرة من الفكر الماركسي، إلا أنه كان رومانسيا معذبا في الأعماق منه. هو مثل حي، إن لم يكن محاكاة ساخرة لوجود كلمات ألمانية مثل: 'فلتشميرتس'(1) و'أنجست'(2) و'تسايت جست'(3) في الانجليزية التي هي لغة عالمية. كان في شبابه شيوعيا، وكاد أن يموت في الحرب. وعندما يري ما يحدث الآن يضيق صدره بالتجريدات! ينحدر من أسرة فلاحية متوسطة. حارب والده في الجيش الفرنسي. ولفترة طويلة كانت لديه ذكريات باهتة عن أصوله، ولكنه في ظروف الحرمان والبؤس التي خلفتها الحرب، كان يتذكر أمه وأخواله وكيف أن أفعال مثل: يشتري، يبني، يستبدل، يبيع.. مهمة في حياتهم اليومية. ومع تزايد شعوره بالغربة والابتعاد عن الدولة التي حارب من أجلها، كان 'ساو' يرحل في الزمن، أماما وخلفا، بشكل دائم. والآن تروق له مزايا الاقتصاد الزراعي القديم والعلاقات الأسرية في الريف قبل تحضر المجتمعات. هي أشياء لا يمكن استعادتها ولكن الذكريات مهمة لكي تعينه علي اعادة تشكيل مكانته الاجتماعية الخاصة. لم يكن يريد أن يقضي علي الصدمات التي جاء بها النظام العالمي الجديد. وبينما كان 'فلادي' مقتنعا بأن الحقائق الجديدة أمور دخيلة ومقحمة بشكل مؤسف، كان 'ساو' كله اصرار علي الافادة منها. وكان ذلك الجانب في شخصية صديق الأسرة، هو الذي يروق ل'كارل' الصغير أكثر من غيره. كان 'فلادي' معادلا مفيدا. تبادلهما المنتظم للأفكار ووجهات النظر، وضع أساسا لصداقة أصبحت مثمرة لكليهما. مرت عشر سنوات. وفي أحد أيام عام 1992 ظهر 'ساو' فجأة ليدق باب شقة 'فلادي'. في البداية لم تتعرف عليه 'هيلجا'، ثم صرخت فرحة وهي تنادي 'فلادي' و'كارل'. كانت مفاجأة لثلاثتهم. العامل الأجير سابقا ها هو الآن في بدلة أنيقة كاملة، علي رأسه قبعة سوداء من الحرير.. غير مستقرة...! ومحملا بالهدايا. كان يشبه صورة من الخمسينيات للامبراطور الفيتنامي المطرود 'باو داي' في منفاه الباريسي. كان اللقاء بعد زمن ممتعا ومرحا. صمم علي أن يأخذهم جميعا الي جزيرة قريبة من ساحل البلطيق، منتجع علي البحر كان مقصورا ذات يوم علي كبار رجال الحزب. 'ساو' الذي سبق له أن أمضي أوقاتا طويلة في الكازينو في 'باريس'، كان يتوقع أن تكون هناك بعض وسائل الترفيه ولكنه لم يجد. خيبة الأمل التي ظهرت عليه أدهشت 'هيلجا'، إلا أنه كان اسبوعا للاسترخاء علي أية حال. لم يدرك 'فلادي' و'هيلجا' كيف أرهقهما النشاط السياسي المكثف والمتواصل علي مدي الشهور الستة الأخيرة. اجتماعات، مسيرات في الشوارع، مناقشات طوال الليل.. كل ذلك سرق حياتهما. كان 'كارل' الصغير مهملا بالفعل. وها هم الآن 'بفضل ساو' معا مرة أخري. مواطنو ألمانيا الديمقراطية البؤساء كانوا مثل الأيتام.. مصابين بالاضطراب العصبي تقريبا، ولكن قلة منهم هي التي كانت تدرك ذلك في الأسابيع العنيفة التي سبقت اعادة التوحيد، وكان 'فلادي' واحدا من تلك القلة. كان يجد لشكوكه متنفسا في التليفزيون والصحافة. في تلك الأيام، كان اللصوص الصغار الذين يحاكون اللصوص الكبار قد اعتادوا علي الرد بأسلوب ودي ولكنه متفضل. 'أنت وأصدقاؤك يا بروفيسور 'مايور' تنتمون الي العالم القديم، نعرف أنكم ستظلون اشتراكيين بالقلب، ولا نعتبر ذلك ممسكا ضدكم. نحن مستعدون لأن نغفر وننسي! وأنت مازال بإمكانك أن تقدم خدمات للديمقراطية. تعال معنا! ولنبن ألمانيا الجديدة معا!'. كان 'ساو' يعلم أن أفكار فلادي في مكان آخر. وكان 'فلادي' يبدي اهتماما مهذبا بقصة تحول صديقه من عامل أجير الي صاحب أملاك. 'فلادي' و'هيلجا' بدآ يشعران بالذنب بعد أيام قليلة تحت أشعة الشمس. وفي الليل، كان 'ساو' يسمعهما يتهامسان، هو لا يسمع جيدا ما يقولان ولكن بعض الكلمات والعبارات توحي بأنهما مهمومان بمستقبل هذا البلد. أما 'كارل' الصغير فكان يتابع كل تفاصيل القصة. كيف استغل 'ساو' خطوات التاريخ المتسارعة لكي يغير مجري حياته. وكان الجزء الأكثر اثارة في نظره هو كيف صنع رجل الأعمال الفيتنامي المغامر المليون الأول! كان متباعدا عن والديه ونشاطهما الأخير. المظاهرات الكبري في 'برلين' و'درسدن' لم تحرك الشاب. وبطبيعته، كان انسانا يفضل قاعدة اللجنة عن الشارع. كان 'التعبير عن العواطف علنا يشعره بالحرج. مشاعر الجماهير تخفيه. وكان 'فلادي' و'هيلجا' لا يملكان سوي نظرات اليأس والاستسلام يتبادلانها وهما يرقبان نمو ذلك الشبل الصغير. ملحمة 'ساو' أدهشت 'كارل' وكأن 'ساو' قد سحره. كان ينصت باهتمام. تلمع عيناه ويقاطع الراوي من أجل التفاصيل. كان اهتمام 'كارل' هو الذي أزعج والديه وأجبرهما أيضا علي الاهتمام الشديد بالحكايات التي يرويها صديقهما الفيتنامي، وكان ذلك علي غير رغبة منهما فقد كان كل ما يودان التفكير فيه هو الوضع غير المستقر للمكتب السياسي في 'برلين'. 'ساو' فر الي موسكو. وكان يقول إنها مقارنة ب 'درسدن' و'برلين' ... جنة كوزموبوليتانية. أقام من فوره علاقات بمجتمع الفيتناميين هناك، ووجد سريرا في شقة مكونة من غرفتين تشارك فيها مع خمسة آخرين. كان اثنان منهما كثيري الأسفار، ومن بين الآخرين كان هناك شخص قدم من قرية قريبة. سأله 'ساو' عن عمه في 'كييف'، والذي لم يكن قد رآه منذ سنوات طويلة. لم يكن لديهم معرفة به. عندما سألهما 'ساو' إن كان بالامكان أن يحملا رسالة منه في رحلتهما التالية الي 'أوكرانيا'، ضحكا وأخذا 'ساو' معهما بدلا من ذلك. لم تمثل وثائق السفر ولا النقود أية مشكلة. اتضح بسرعة أن المسافرين كانا رجال أعمال مزيفين متورطين في جمع الثروة بطريقة بدائية. كانا يريدان سوقا سوداء للجماعات الفيتنامية في أنحاء الاتحاد السوفيتي آخذة في الاتساع. وكانت شبكة التوزيع الخاصة بهما ذات كفاءة ويمكن الاعتماد عليها. كان 'ساو' مذهولا من جحم العملية وأن تكون العملة الوحيدة التي يستخدمانها هي الدولار أو المارك الألماني. وهو في القطار الي 'كييف' كان يفكر في بلده الأصلي. بعد سقوط 'سايجون' في 1975 وجد القادة في 'هانوي' أنفسهم علي رأس بلد خراب. كانت الحرب الكيماوية قد دمرت البيئة تدميرا هائلا، والمدن التي قصفتها القنابل في حاجة الي اعادة بناء، والأيتام في حاجة الي ملاجيء، والجنود المسرحون يبحثون عن عمل، والعمالة الزائدة لابد أن تباع للاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية في مقابل معدات وسلع ضرورية. الولايات المتحدة وعدت بالاصلاح ولكنها نكثت بكل الوعود وفرضت حظرا اقتصاديا بدلا من ذلك. كان 'ساو' يعرف أن بلاده تعاقب. تجرأوا علي المقاومة والانتصار، والآن عليهم أن يدفعوا ثمن انتصارهم العظيم علي أقوي دولة في العالم! كانت سنوات الحرب ملأي بالتوتر والغضب والخوف.. أثارت فيهم أيضا فكرة الانتصار ذات يوم، وإعادة توحيد فيتنام. كل ذلك مضي! لم يحقق السلام سوي الفتات لعامة الناس. 'ساو' يشعر بالمرارة. حارب بعنف. كان يعرف أن الجنة مجرد حلم ولكن المؤكد أنه كان يتصور أن يحمل المستقبل القريب بعض السلوي! الأمل، النضال، الأمل، الخيانة، الأمل، الثأر، الأمل، الانهيار.. لا أمل! قال ذلك كله في اجتماع حزبي في 'هانوي'.. رؤوس كثيرة.. كثيرة جدا أومأت في صمت موافقة. بعد ثلاثة أسابيع أرسلوه الي جبهة جديدة.. جمهورية ألمانيا الديمقراطية.. بلد تحت مسمي خطأ يحكمه بيروقراطيون مضللون. يا لها من حياة! 'ساو' يشعر أنه وصل الي مفترق طرق. كان يسير علي أرض متحركة. حياته قد تتخذ عدة مسالك. نظر الي أبناء وطنه، كلهم مشغول بما يمكن أن يبيع ويشتري في 'كييف'.. وقرر أن ينضم اليهم. كان يشعر أن الشبكة لابد أن تمتد الي كل مدينة رئيسية في الاتحاد السوفيتي، وأن عليهم أن يطوروا علاقاتهم بالعمال الفيتناميين في أوروبا الشرقية. كان 'ساو' يضحك و هو يقول 'لابد أن يتم تداول السلع. ومن أفضل منا ليقوم بذلك؟ لقد حكمنا الصينيون عدة قرون. ثم جاء الفرنسيون. ثم الروس. والآن فكرنا.. دعنا نعمل من أجل نظام اقتصادي'. 'ساو' وأصدقاؤه جربوا واختبروا شبكة من الوسطاء منتشرة في أرجاء الدولة. تجمعت الأموال وأصبحت جبلا. مع بداية الانهيار أصبحوا يصرون علي أن يقبضوا بالدولار أو المارك الألماني. وكانوا يسربون جزءا من الأموال الي 'فيتنام' وكثير من الدراجات البخارية وأجهزة الفيديو والتليفزيون الموجودة في 'هانوي' كانت من نتاج ذلك النشاط. مرت 'هانوي' فعلا بانتعاشة صغيرة عندما بدأت تلحق بمدينة 'هوشي منه' التي كانت لا تزال 'سايجون'. ويواصل ساو حكايته.. 'في الأيام الأولي كنا نتقاسم الأرباح مع رجال الحزب، صغارهم وكبارهم، بدءا من المسئولين في الخلايا الصغيرة وانتهاء بأعضاء اللجنة المركزية. بعد ذلك قرروا أن يغيروا الأسلوب. أصابنا الذعر.. هل تكون تلك نهايتنا؟ كنا أسماكا صغيرة في بحيرة متوسطة. والآن سنصبح مثل الأسماك الأوروبية الصغيرة في بحر. القرش سوف يستولي علي كل شيء. كم كنا مخطئين يا أصدقائي. كم كنا مخطئين!'. توقف هنا وضحك وكان في ضحكته ما هو أكثر من الهيستريا! 'وما المضحك في ذلك يا عم 'ساو'؟' سأله 'كارل' بصوت مرتبك. 'المضحك هو اننا الوحيدون الذين يمكنهم استغلال هذا الانهيار. لا أحد كان يمكن أن يتخيل أن الاتحاد السوفيتي سوف يتفسخ بهذه السرعة..! ولكنه حدث. حدث! كان 'يلتسن' في عجلة من أمره لكي يغرق 'جورباتشوف'، ولو كان عليه أن يغرق الاتحاد السوفيتي القديم أولا لفعل. وقد فعل! المافيا الروسية أخذت علي حين غرة. علي أية حال.. لم تكن علاقاتها ولا اتصالاتها واسعة، ولا ذات كفاءة مثلنا. كانوا يعتمدون كثيرا علي ارتباطهم بمسئولي الحزب. أصيب النظام القديم بالشلل. انهار التوزيع. هرعنا نحن الفيتناميين للانقاذ.. ولكن كل شيء بثمن. مثلما جاءوا لانقاذنا أثناء الحرب. كل شيء له ثمن. نظمنا تسلسلا قياديا. كنا ننقل السلع. طورنا نظام النقل الخاص بنا. من هذه الثغرة تسللنا يا عزيزي 'كا