عن بيان الثقافة- 12 أغسطس 2000
»عندما أزمعت السفر كفت عن المجيء الى أحلامي.. وكانت تتردد علي بصفة مستمرة في الأونة الأخيرة.. ودوما ألقاها وسط حشد من الناس مضطجعين فوق الأرائك كما في الصور الرومانية أو الجنة.. أحيانا في قاعة ممتدة وأحيانا أخرى فوق ظهر سفينة.. وفي كل مرة تلتفت نحوي وفي عينيها نظرة غامضة تجمع بين التساؤل والتواطؤ والاغواء«.
مقطع من الرواية الجديدة للاديب الكبير صنع الله ابراهيم يصف فيه امرأة الحلم والماضي بطلة رواية »وردة« التي صدرت مؤخرا عن دار المستقبل العربي القاهرية شخصية تنتمي الى زمان ومكان أخرين »ظفار الستينيات والسبعينيات« لتصبح الرواية رحلة في الجغرافيا والتاريخ العربيين يسافر من أجلها الراوي الى موقع الأحداث العاصفة التي عرفتها المنطقة خلال هذه الفترة حقبة ومكانا تتواطأ الذاكرةالعربية على نسيانهما. فما الذي جرى ليصعد الان الى السطح الروائي العربي في عمل من أنضج أعمال الروايةالعربية.. يقول الروائي صنع الله ابراهيم كنت عام 1992 بالصدفة في عمان ولمست عمليات التحديث التي تجري على قدم وساق بالسلطنة وتذكرت حركة ظفار.. وفكرت في العلاقة بين أهدافها وماتم تنفيذه فأحسست بأن الفكرة يمكن أن تجر الى مناقشة تيار القوميين العرب والتحولات التي مروا بها حيث بدأوا معادين للشيوعية مع المزايدة على عبدالناصر والبعثيين والشيوعيين لينتهوا الى خندق الشيوعية. ويضيف.. هناك مجموعة تجارب يمكن مناقشتهااليوم من أجل المستقبل منها آلية السلطة والصراع عليها والسؤال الرئيسي عن امكانية تخطي مراحل معينة في النمو الاقتصادي الاجتماعي والموضوع يمتد الى ماهو أشمل من تجربة ظفار الى التحالفات والصراعات بين القوى الوطنية من اجل السلطة. ويقول صنع الله ابراهيم.. لكن رواية »وردة« ليست عودة الى الماضي واستغراقا فيه بل هي مراوحة بين الماضي والراهن في جغرافيا واحدة »سلطنةعمان« من خلال البحث عن مصير البطلة »وردة« احدى مقاتلات حركة تحرير ظفار في الستينيات والسبعينيات. و»وردة« امرأة أسطورية فاتنة من لحم ودم.. ممتلئة بالأحلام والطموحات والأوهام والرغبات المحبطة والارادة.. مثلها الأعلى »تشي جيفارا« الذي تقتدي به حتى في كتابة يومياتها السياسية والشخصية التسجيلية.. التي تشكل »روائيا« ذاكرةالرواية وبعدها الزمني. يوضح صنع الله ابراهيم انها شخصية مخترعة.. لكن الحركة الثورية »خاصة في ظفار« كانت تضم مجموعة نساء في القيادة من بينهن واحدة من البحرين.. وهناك سناء محيدلي وليلى خالد في الحركة الفلسطينية. وتميزت هذه الفترة بظهور نماذج سياسية لمثقفات قاتلن الى جانب الرجل وقدمن كل ماهو ضروري لذلك وقد حاولت تخيل مايمكن أن تكون عليه مثل هذه الشخصية كأفكارها والمثل التي تسعى اليها وتكوينها النفسي. والزمنان »بشخصيات كل زمن« يضيء كل منهما الأخر كمرايا عاكسة تكشف التحولات والمصائر والأفكار والرموز والأوهام.. رغم وحدة الجغرافيا.. والخيط الرابط بينهما هو الراوي الذي كان على علاقة ببطلة الماضي بالاضافة الى شقيقها الذي بدأ معها في نفس الحركة السياسية لنكتشف »في نهاية الرواية« أنه أحد كبار مسئولي الدولة. ويفسر صنع الله ابراهيم نعم الزمنان قائمان.. فأثناء الزيارة الاخيرة لسلطنة عمان شاهدت طرقا ومستشفيات وجامعة حديثة..وهو ما كانت تطالب به جبهة تحرير ظفار. ولا يفلت من التحولات السلبية في الرواية سوى »وردة« التي تلقى مصيرا غامضا نتيجة تمسكها بالطريق الذي اختارته..أما بقية الشخصيات فتزلزلها الأحداث والتحولات التاريخية لتجد نفسها في النهاية في صف العدو القديم..هو التحول من اليسار الى اليمين.. من المعارضة الى كراسي السلطة مع توظيف الأفكار القديمة لصالح الموقع الجديد. يؤكد صنع الله ابراهيم هذه الحقيقة ذلك مارأيناه بالفعل في اماكن عديدة بالعالم.. انتقال بعض النماذج من اليسار الى اليمين بدافع تحقيق مصلحة شخصية هي التواجد في السلطة عندما يكون ذلك ممكنا.. فعندماأراد نميري كسر الحزب الشيوعي عين بعض أعضائه وزراء في حكومته وانتهى باعدام رموزه.. حتى روجيه دوبريه أحد منظري التيار الجيفاري في اليسار العالمي كان محكوما عليه بالاعدام فأفرج عنه ليعين مستشارا للرئيس الفرنسي السابق ميتران. ويضيف.. المسألة عادية وليست مأساوية..المشكلة أننا نطالب المثقف بأكثر ممايجب.. فنحن نتصوره شخصية قيادية واعية ومضحية الى النهاية ومتفانية في تغليب الصالح العام.. وهي صورة رومانسية 0. لأنه شخص عادي بلا هالة خاصة ولا معجزات خارقة. وتتقلص النزعة الوثائقية في الرواية الى الحدود الضرورية في شكل رصد أهم الأحداث والتحولات العربية والعالمية من خلال يوميات البطلة بلافصل لها عن تأملاتها وتحولاتها الشخصية المواكبة في تبادل مع خط السرد الروائي المألوف على لسان الرواي. يسارع صنع الله ابراهيم الى الرد.. كأنه ينفي اتهاما لا أوافق على تسمية »الوثائقية« والفصل بين الخطين فالوثائق مشتركة وكذلك التخييل..فالسرد يتضمن قراءة في بعض جرائد 1992التي ترصد بعض الوقائع الجارية.. فالوثائقية كلمة غامضة بلامدلول محدد والفكرة تكمن في استخدام المادة الصحفية باعتبارها جزءا من حياتنااليومية والفيصل هو درجة الاستخدام. وأشار الى انه سبق لغالب هلسا أن استخدمها في رواية »الضحك« وما فعلته هو أنني كبرت دور هذاالجانب فصعدت به من الخلفية الى المقدمة ليصبح عنصرا رئيسيا في رواياتي ذات وشرف وبيروت الى »وردة« لكني لاأظن أنه اتجاه وثائقي. لكن السؤال عن مصير وردة »امرأة الحلم والماضى« لن يجد اجابة يقينية.. ليظل المصير مجرد احتمال يواجه به الراوى فى الصفحة الأخيرة شقيقهاالمسئول الكبير فى الدولة دون نفى أو تأكيد..احتمال أقرب الى الحدوث من خلال تسلسل الوقائع لكنه بلايقين.. ليظل السؤال معلقا بلا اجابة نهائية.