قراءة في ابداع نازك الملائكة
شعر المرأة في ميزان النقد الحديث جبار سهم السوداني جريدة الشبيبة 29/Mar/2006
الشاعرة نازك الملائكة هي المبدعة في مجالات : الشعر الحداثي.. النقد الاكاديمي.. العزف الموسيقي علي اوتار العود والقلوب.. والتربوية التخصصية في تخريجها رُسُل المعرفة كل عام. وقد نهلت من الادب العربي الكثير الكثير وكنت احد المحظوظين من طلابها اذ درستني وزملائي من طلبة الصف المنتهي في كلية التربية قسم اللغة العربية.. علم النقد الحديث في عام 1968.. حقيقة كنا نتوسمها (انثي) خارقة الانوثة من خلال (اسمها الشاعري الموحي الجذاب) وصورة القصيدة والموسيقي التي تضرب علي اعاريضهما ولحونهما.. لكنها لمّا تكن - حينما دخلت قاعتنا الاكاديمية - سوي (نازك صادق الملائكة) الاستاذة التي تعتّقت بوشاح معرفّي شديد.. وكانت معنا - طلبة ً- ليست سوي (الدكتورة الناقدة الشاعرة نازك الملائكة).. ودرسها الذي كانت تمنهجه لنا من كتابها الاثير (قضايا الشعر المعاصر) حتي انها كانت تشتغل علي تحليل النصوص (السيابية - شباك وفيقة،وغيلان وجيكور - مثلا تطبيقيا) او علي اسلوب النقد المنهجي اذ طلبت منا تحليل نصّ قصصيّ عن (رائيل دايان) ابنة (موشيه دايان - وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك) واذ تماهي احد الطلبة بذكر عبارة (إسرائيل اللقيطة) قرّعته معنفة إيّاه :- سوف تكون مربيا للاجيال ومثقفا وتستخدم هذه اللفظة السوقية لدغدغة مشاعري التي قد يترسب عليها المشروع الصهيوني التوسعي.. عليكم - والكلام وجهته لنا - ان تنفتحوا علي الاخر وثقافته لتقرعوا عليه الحجة بالحجة وتعرفوا اين يدسّ السمّ بالعسل ؟ وهو اذ يبكيكم علي مأساتكم الفلسطينية.. جادّة حادّة الحساب حين يكون ذلك متعلقا بالدرس والنقد.. إنها من عائلة (الملائكة) المولودة في بغداد في 23 آب عام 1923.. إحدي الاسر البغدادية المعروفة..بالثقافة.. ثم ان والدتها سلمي عبد الرزاق شاعرة ايضا - التي صدر ديوانها عام 1968 (انشودة المجد) واغلب عائلتها الوريفة تتعاطي الهمّ الشعري.. ومتفتحة علي الحياة بشكل ايجابي مشرق.
حتي ان العائلة تسمح للشابة الشاعرة نازك عام 1942 أن تدخل معهد الفنون الجملية لدراسة العزف علي اوتار العود.. من ثّم لتعزف علي نياط القلوب.. اذ كانت مخبولة بعشق الموسيقي منذ طفولتها وتحفظ مئات الاغاني.. وكان استاذها آنذاك في العزف (الشريف محيي الدين حيدر وقد أتمت التخرج بكفاءة عام 1949.. وقد عزفت امام الجهور في حفلة اقامتها جامعة (مسكونسن) التي كانت طالبة فيها.. حتي انها درست اللغة اللاتينية لزيادة ثقافتها.. وكانت مغرمة بالشاعر اللاتيني (كاتولسن) حافظة العديد من قصائده.. ودرست اللغة الفرنسية وحدها عدة سنوات.. حتي انها دخلت (المعهد العراقي عام 1953) وقرأت من خلاله (موباسان وموليير، والفونس دودييه) بحماسة المثقف الواعد.. لا كما يفعل الان اصفار المثقفين الذين يتورمون عقدا حين تنشر لهم هذه الصحيفة الموتورة او الجاهلة او تلك المتحاملة.
ما يطلق عليها بالحداثوية وهي غاطسة بالضبابية والتعمية والبهيمية وحين تطالبه باحترام العراق الجميل المثقف الشاعري.. يقهقه متهما اياك بالكلاسيكوية التراثوية التي عفا عليها دهر الضّحال.. فلا حاجة للالمام بالعروض واللغة والبلاغة والاملاء والنحو والصرف.. الخ). أعود لاستاذتي التي أتشرف بانتمائي لمدرستها فقد اهتمت كذلك بالادب الانكليزي وهي طالبة في دار المعلمين العالية وكانت تقرأ شعر ومسرحيات (شكسبير) وشعر (بايرون وشللّي) ودخلت المعهد البريطاني لتأخذ بتلك اللغة التي تخصب بها ثقافتها.. حتي اوفدتها مؤسسة (روكفلر) الامريكية واختارتها (المحاضرة العربية الانثي الوحيدة) التي سمح لها ان تدرّس في جامعة (برنستون) وبعد عودتها للوطن زاد اهتمامها بعطاء (الشعر والنثر والمقالات في النقد الادبي) ولاسيما في مجلتي (الاديب والاداب ببيروت).. وفي عام 1954 قبلت طالبة في جامعة (وسكونسن) لدراسة موضوع (الادب المقارن) وذلك ما اتاح لها الاغتراف الفائق من الادبين (الانكليزي والفرنسي الي جانب اداب اخري كالادب الالماني والايطالي والروسي والهندي والصيني).
ثم عينت مدرسّة في جامعة بغداد منذ عام 1957 ثم في جامعة البصرة مؤسسة ومدرّسة فيها بجانبها زوجها وصديقها الدكتور عبد الهادي محبوبة.. وقد انتدبت في ما بعد للتدريس في جامعة الكويت مع زوجها. ولا تزال في خريف عمرها خارج الوطن.. ربما تتمني لو تتدثّر بثراه.. رعي الله صحتها.
شاعريتها :- اذاً انها مقدودة من شعر وموسيقي ومعتقّة بثقافة جمة.. حتي انها كانت تكتب القصائد وهي في مرحلة السادس الابتدائي.. زاد من غرامها للشعر يوم ان اصبحت طالبة في دار المعلمين العالية وغبّ تخرجها صدر لها ديوانها الاول (عاشقة الليل) عام 1948، وهي قصائد من شعرها العاطفي في تلك الايام.. اما المجموعة الثانية (شظايا ورماد) فهي بمثابة (البيان الشعري الاول لدعوتها الي الشعر الحر في العراق) صدرت عام 1949.. وفي عام 1957 صدر لها في بيروت ديوانها الثالث (قرارة الموجه) وفي عام 1968 صدر ديوانها الرابع (شجرة القمر) اما ملحمتها الشعرية (مأساة الحياة وأغنية الانسان) فقد صدرت عام 1970 (وقد عبّرت فيها عن مراحل ثلاث من مراحل شعرها عبر حياتها الشعرية.. ومن خلال اطلالتها الثقافية في بلاد الغرب فقد اتيحت لها المجالات ان تلتقي وتعقد صداقة ثقافية مع رموز مهمة آنذاك.. امثال (كيتس) [ شاعر الموت المفتون - كما أسمته ف والشاعر (آلان بو) [ سيد الحزاني ف.. وكذلك الشاعر الانكليزي المعاصر (ت.س. إليوت) [ انه من شعراء الهدم في المجتمع الراهن - كقول سبنر- ف.
وهناك خلاف في من كان الرائد في الشعر الحر (السياب او نازك).. اذ تري شاعرتنا انها: اول من قال قصيدة الشعر الحر.. وهي قصيدة (الكوليرا) عام 1947 - في مجلة العروبة العدد الصادر في كانون الاول.. والثاني (السياب) في ديوانه (ازهار ذابلة) الصادر في النصف الثاني من شهر كانون الاول عام 1947.. ويري الاستاذ (جلال الخياط) ان السياب هو الرائد لان من اصدر ديوانا حتما تكون قصائده قبل زمن قصيدة الكوليرا بزمن.. وللدكتور (احسان عباس) رأي مغاير لزميله الدكتور الخياط يري فيه الريادة للشاعرة الملائكة واذا كان ما ذكره جلال الخياط دقيقا.. (فأنا) أري أنهما يستأهلان جائزة ريادة الشعر الحر مناصفة.. ثم لأتقهقر ثانية نحو شاعرية (الملائكة) :-
ان نازك ذات حساسية شديدة في انفعالاتها قد تكون فيها بعض الغرابة - كما يقول الاستاذ ماجد السامرائي - فهي تتأثر حتي بالمواقف الاعتيادية البسيطة.. فهي حينما يخفق قلبها، فانما يرتعش وجودها وكيانها.. هاك مثلا من قصيدة (نغمات مرتعشة) العمودية الخليلية / من بحر تام الكامل. ما زلت منذ ذهبت حيري في الدجي وهمي يصوّر لي خطاك.. ووقعها لا شيء غير الريح تعصف في الدجي شهد الاسي أني لزمت مكانيا فإذا صحوت..صحوت من احلاميا لا شيء غير تنهدي، وبكائيا
لكن التجربة العاطفية التي عاشتها - علي ما يبدو - لم تعمّر سوي عام، يدلّ ذلك البوح الحزين الذي تجهر به في اكثر من عنوان ومضمون كما في هذا العناء المنزوف من بحر الخفيف :
منذ عام.. في الشاعر الصاخب الممتدّ، والشمس في صفاء الاثير جمعتنا هنالك الصدفة الحلـــوةُ، في غفلة من المقدور وآلتقينا.. لم نبتسم.. لم أحدّث.. ـك بما في فؤادي المعصور لحظة.. ثمّ أجهز الزمن القا.... سي علي قلب حلمي المسحور ومن قصيدة لها في الشعر الحر بوحها الهامس وجرحها الراعف:- ومن الاعماق... تصاعد صوت مخنوق يهتف في حزن.. في جزع كيف؟ ليت الجرح المظلوم الي الليل يبوح
حقا اننا في ذا المحفل الثقافي.. والمنتدي الملائكي النسوي لنازك سنكون جذلين جمّاً في تعاطي العذاب اللذيذ في مطر الشعر وخمرته وثمالته.. و قصيدة (الزائر الذي لم يجيء)
ولو جئت يوما - وما زلت أوثر الا تجيء لجفّ عبير الفراغ الملّون في ذكرياتي وقصّ جناح التخّيل، وآكتأبت أغنياتي وأمسكت في راحتي حطام رجائي البريء وأدركت اني أحبّك حلما وما دمت قد جئت لحما وعظما سأحلم بالزائر المستحيل الذي لم يجيء
هذه هي شاعرة الوهم والليل والحزن المسجور - والحلم الموءود.. من الشواعر العراقيات الرائدات في القرن المنصرم.. ساهمت في تنظير ظاهرة التطور في الشعر العربي الحديث.