النشر الاول جريدة القاهرة ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤
"..التقيت به أول مرة في نهاية الخمسينيات أثناء العمل في فيلم "الناصر صلاح الدين" إخراج يوسف شاهين. وكان شادي هو مصمم الملابس وكنت أتابع تصميماته الملونة على الورق لشخصيات الفيلم فوجدتها تعطي روح العصر وكأنه عاش وجوه هذه الشخصيات ـ كانت تعبر عما بداخلها رغم صمتها .."
بهذه الكلمات تذكرت نادية لطفي حكايتها مع شادي عبد السلام. وقالت أيضا : "..أن مع هذا الفيلم والذي استغرق تصويره قرابة عامين توطدت أواصر الصداقة والمحبة بيننا ـ أحسست أنني أمام شاب ممتلئ بالكبرياء والمعرفة. ومن خلاله تعمقت علاقاتي بالفنون على مر العصور بالفنون الحديثة وبالعمارة والموسيقى وازدادت اهتماماتي بمعرفة التاريخ."
صاحب الفيلم الفريد المومياء (١٩٦٩) الذي أخرجه وهو في ال٣٩ من عمره ترك دنيانا عام ١٩٨٦ وكان في ال٥٦ من عمره. غادر عالمنا دون أن يحقق حلمه ومشروعه الكبير وفيلمه المنتظر "اخناتون". إلا أن هذا الفنان المبدع بقي وظل معنا. وارثه الفني المميز وبصماته المنقوشة في ذاكرتنا الفنية والإبداعية ما زالت تلهمنا وتدعونا للحديث عنه. عن الفنان المبدع والحالم المحلق في عالم السينما والتاريخ. ولم يكن بالأمر الغريب أن أجد هذه الكلمات للمخرج محمد كامل القليوبي في وداع شادي عبد السلام: "..عن طريق شادي اكتسبنا كثيرا في مكنوناتنا وثقافتنا وتراثنا.. والأهم من ذلك وعينا بذلك كله .. ان شادي الآن أكثر حياة داخلنا.."
وأجد الكاتب علاء الديب يحكي عن تجربته مع شادي ذاكرا:" اقتربت من شادي جدا في الفترة التي كان يعد فيها فيلمه المومياء كنت أصيغ معه الحوار العربي للفيلم. وكان مجنونا عظيما، يرى المشاهد قبل أن ينفذها.. ويسمع الأصوات. نظل نبحث عن الكلمة حتى تتطابق مع خياله ومع الصوت الذي يملأ كيانه.. وعندما نجدها، يكون فرحه عظيما. "
ثم يضيف علاء الديب:
"بنى شادي عبد السلام الفيلم كلمة كلمة وصورة صورة. جسد الظلال والألوان. وكانت الى جواره عبقرية تنفيذية كاسحة: هي الراحل العزيز عبد العزيز فهمي، المصور الرائد الإنسان"
كلمات علاء الديب في وصف المخرج الكبير جديرة بالتأمل: ــ
"كان مدرسة فنية خاصة. كان شادي عبد السلام إنسانا جميلا. نبتا غريبا. أنيقا. خرج من أرض صعبة وواقع معقد غليظ.
صلابته المغلفة بالرقة والنعومة،مثيرة للدهشة باعثة على الثقة والتأمل.ارتباطه بالفن ارتباط طبيعي، لا غرور فيه ولا ادعاء. كان يتنفس فنه، ويتعاطاه ولا يتعاطى غيره.
وشادي ـ أكثر من كل الأحبة الذين رحلوا ـ موجود وخالد ـ لأنه كان مختلفا وغريبا .. "
وبالطبع جميل أن نتذكر من حين لآخر شادي عبد السلام ـ القيمة والقامة. نتذكره ونتأمل ابداعه وحياته. ونتواصل مع الأجيال الجديدة بما نتذكره ونتأمله ومن ثم نتيح لهم الفرصة لفهم وتثمين ما تراكم وتبلور من تجربة إبداعية مصرية عبر السنوات. إرث فني وابداعي علينا أن نعرف قيمته ونقدره .. ونثري بها حياتنا. العدد الخاص من مجلة القاهرة ـ رقم ١٤٥ الصادر بتاريخ ديسمبر ١٩٩٤ ( أي من ثلاثين عاما) بعنوان: "شادي .. شعاع من مصر" يعد مرجعا ثريا للاحتفاء بشادي والاستمتاع بتفاصيل إبداعه المتميز والجميل. .عدد تاريخي فريد أعود اليه من حين لآخر لاعادة اكتشاف شادي وبصماته في تاريخنا السينمائي والفني. وقد ساهم في تحرير العدد صلاح مرعي ومجدي عبد الرحمن ـ المقربين من شادي الفنان والانسان. كما أن غالي شكري رئيس تحرير المجلة كتب آنذاك في تقديمه لهذا العدد:
"ان شادي عبد السلام لم يكن فقط ذلك الفنان السينمائي، بل هو المنظر والفيلسوف الذي يحمل رؤية خاصة لحضارة بلاده. تلك الرؤية الفلسفية التي كان هدفها الأساسي انصاف مصر ورفع الظلم عن فترات تاريخها التي حجبت عن الأجيال التالية."
ثم أضاف:
"لقد جاء شادي بمشروعه القومي أو حلمه الحضاري، واعتبر السينما وسيلته الأساسية لتوصيل نوع رفيع من الأفكار بدأه بفيلمه الروائي الوحيد المومياء الذي أراد من خلاله أن يبعث دور مصر الريادي الى النور."
قراءة شهادات معاصريه ضرورة .. من أجل الحفاظ على ذاكرتنا
وجدير بالذكر أن فيلم المومياء (يوم أن تحصى السنين) تم انتاجه عام ١٩٦٩ .قصة وسيناريو وإخراج شادي عبد السلام. من إنتاج المؤسسة المصرية العامة للسينما. مدة الفيلم ١٠٣ دقيقة. والعرض الأول كان في ١٧ يناير ١٩٧٥ بسينما رمسيس. والفيلم لقي تقديرا واحتفاءا عالميا يشيد بخصوصية ما قدمه شادي.
واعتبر نفسي سعيد الحظ أني التقيت بشادي عبد السلام العديد من المرات. إذ كان من المترددين على أجزخانة مترو ـ بعماد الدين القريب من مكتبه في شارع ٢٦ يوليو. وكنت أعمل صيدليا بهذه الأجزخانة خلال الثمانينات. وبما أني تحدثت معه عن عشقي للسينما وحبي وتقديري لفيلمه المتميز المومياء تعمقت الحوارات بيننا وأنا كما اعتدت دائما السائل الشغوف المتعطش لمعرفة أكثر وإدراك أعمق لما يقوله الآخرون، خاصة عندما أكون مع المبدعين وهم يتحدثون عن قراءاتهم المختلفة المتميزة للحياة والبشر.
ــــــــــــــ
إلى أن نلتقي
للفنان المبدع خيال يحلق به وبنا ونظرة تفتح آفاقا جديدة أمامنا ورؤية تعمق من فهمنا لأنفسنا وادراكنا لتاريخنا وواقعنا
نظرة الفنان للتاريخ قد لا تتطابق دائما مع ما يقال ويتردد حوله. أو ما يتم تلقينه وتكرار قوله في حصص التاريخ. وهو يعرف هذا ولذا يسعى أن يحافظ على تميزه واختلافه. تعامله مع التاريخ والتراث لا تأتي بمنطق أنه ماضي فقط بل أنه ماضي له حضور في الواقع. إنه الماضي الذي يعد إضافة وإثراء لتجربته الإنسانية.
هكذا تتجدد حياتنا وهكذا تتبلور هويتنا .. وهكذا نقدر هويتنا ونعتز بها.