جمع سعيد الكفراوي في “حكايات عن ناس طيبين” مجموعة من الاسكتشات التي سبق له نشرها في مناسبات متفرقة. وبطبيعة كتابتها متفرقة، فقد تفاوتت قيمتها. غير أن وزنها مجتمعة يزيد عن محصلة مفرداتها.
إذا توقفنا أمام كتاب سعيد الكفراوي “حكايات عن ناس طيبين” ربما نستطيع أن نرفع الستار عن بعض سحرها.
يقدم الكفراوي في كتابه وفقاً لجريدة “الأهرام” ذكريات تمتد من الطفولة حتي الكهولة. فالإنسان يظل واحدا تعيش في نفسه طبقات الزمن ملتحمة متداخلة لا يمكن فصل بعضها عن البعض. فالطفل الذي كأنه هو الشاب اليافع الذي انطلق من الطفل كما تنطلق الفراشة من الشرنقة، ولكن اللغز أن الشرنقة تتحلل وتختفي بينما يظل الطفل حيا بجانب الفراشة. متلازمين متلاحمين. ويسير الشاب في طريقه ويتحول إلي رجل مكتمل الملامح والنضج، غير أن الشاب يظل واقفا بجانبه لا يبرحه، يطل عليه من نافذة، يلحظه وهو يتعثر في مسيرته علي امتداد الطريق… وعندما ينحني الظهر ويشيب الشعر وترتعش اليد، يظل هؤلاء ماثلين أمامنا في كتاب الكفراوي. وما أجمل هؤلاء الناس بأعمارهم المختلفة.
أستطاع الكفراوي في كتابه هذا وهو من خير ما كتب أن يعبر عن طبقات دفينة من حياة البشر. وانتسب به إلي يحيي حقي الذي أضاء الأدب العربي. لم يقترب أحد من الكتاب العرب من صاحب “عطر الأحباب” كما اقترب الكفراوي.
عنوان الكتاب حسبما جاء ب “الأهرام” ملتبس إلي حد ما. هل الحكايات موضوعها الناس أم الحكايات مصدرها الناس؟ يخيل إليٌ أنها الاثنين. فالناس قد حكوا في هذا الكتاب حكايات كثيرة ترسبت في ذاكرة الكفراوي واختمرت، وتولدت عنها حكايات أخري …فكثير من هذه الحكايات القديمة ما هي إلا نواة تتولد عنها حكايات أخري وهلم جرا.
ومن أجمل النصوص التي أوردها الكفراوي عن المكان، النص المعنون “دعوة” ويأتي في شكل خطاب موجه إلي الشاعر المغربي محمد بنيس. أنا لا أعرف بنيس معرفة شخصية ولكني أحببته حقا من خلال وجوده في هذه الصفحات العطرة. هذا النص هو حوار بين الأمكنة. بين القاهرة وفاس. المدينتان لهما روح. أي أن المدن، مثل البشر، لها جسد وروح ولا بد من الولوج وراء مظاهر الجسد لاقتناص مؤشرات الروح. يقول الكفراوي عن فاس:
… تبدو مرابعها أوادم من زمن ولي، وحين خوضت في الحارات والأزقة الضيقة رأيت بشرا تخرج من بطون المتون …وسمعت همس الحجارة، وخفق روح المدينة…
ما هي هذه المتون؟ ونحن نعلم أن كلمة متون تعني ما ارتفع من الأرض واستوي وتعني أيضا نصوص الكتب … ومن هم هؤلاء البشر الذين ينطلقون من جوف الأرض أو من داخل نصوص الكتب؟ توضح الفقرة التالية الدلالة المرجوة. فهم كل من سكن هذه المدينة العريقة منذ الأزمنة الغابرة من موحدين ومرابطين ومرينيين.
هذا الكتاب ليس عن الماضي الجميل. ولكنه عن قدرتنا في أن نعيش في أزمنة مختلفة، أن نتخلص من نير التاريخ، أن نخلع الأردية المتهرئة المتربة التي يكسونا بها الحاضر ونرتدي الحلل السندسية البهية، أن نتجمل ونتزين ونبحر في هذه الذاكرة المسحورة. فالذاكرة ليست زكيبة من الخيش نزج فيها قصاصات من ورق محفورة عليها الحوادث الكئيبة التي نعيشها.
المصدر شبكة محيط دوت كوم