1/لقاءات أولي
في ليلة من ليالي الخريف الحارة وكانت القرية قد مطرت قبل يوم والتربة لاتزال ندية والأرض تتضوع برائحة الشجر والنخيل والماء .و تنبعث منها حرارة تسري في الجو .ونقيق الضفادع يشاطر نسمات أول الليل المثقلة بأنفاس سبتمبر. والسماء ملأي بالنجوم وسطها قمير يسطع علي القرية ويرنو إلي الخلاء .في أكجرت
.أذكر نزل بدارنا ثلاثة رجال .مبتعثين من وزارة الثقافة الموريتانية في مهمة علمية تتمحور حول جمع الحكايات والأساطير الشعبية الموريتانية وهو المشروع الذي قاده الروائي والمفكر الموريتاني الكبير موسي ولد أبنو وعرف باللجنة الوطنية لجمع التراث والثقافة الشعبية بالتعاون مع المعهد الموريتاني للبحث العلمي
وقد جمع وأتاح للدارسين مدونة كبيرة وهامة لفهم التراث الموريتاني .الشفهي والمروي . وقد توزعت اهتمامات البحث في هذا المجال الأنثربولوجي البكر آنذاك وأثمرت بجهود موسي ولد أبنو ثلاثة كتب هي : الحكايات والأساطير الشعبية الموريتانية في جزئين .الأول عن حكايات الحيوان والثاني حكايات الإنسان وجزء ثالث عن الأمثال والحكم في الثقافة الشعبية الموريتانية .وقد صدرت هذه المدونة في التسعينات .
في تلك الليلة عندما جئت الدار قالوا لي نزل عندنا ضيوف وكانوا يعدون لهم القري .صافحت موسي ولد أبنو رجلا نحيفا في صوته بحة . كان يلبس "دراعة " بيضاء شفافة .وغير بعيد منه قد نصب ناموسية للنوم محتميا بها من لسعات البعوض الذي يكثر في قريتنا في موسم الأمطار.
وبدا لي الرجل تلك الليلة في مهمة غريبة لاتخلو من الطرافة
والإستحالة وكنت أضحك في سري وأسأل نفسي إنه حقا رجل غريب . يدعو لجمع أهالي القرية في هذا الليل ليسردوا عليه خرافات الدب والغول ! التي لا يأبه لها غير الصغار والعجائز .وأقبل البعض من أهالي القرية الحكائين علي مجلس موسي وجلست أستمع لهم وهم يسردون حكايا الزمن الأول وخرافاته وتحرك الحنين في خيالي لعصافير الطفولة والزمان الذي كانت أمي تحكي لي فيه حكايات "السنارة والبنارة وأعويدات اندفرليت
افتحوا البيت أنا جيت ما مريت "وكنت أعجب من الحكايات التي بعثت في نفسي ركيام الحنين .وأسأل نفسي حقا إنه اكتشاف البعيد الجميل .كانت تلك الليلة أول مرة ألتقي فيها بموسي تحدثنا قليلا وبدا كمن وراءه عمل طويل ينتظره .بين الفينة والأخري يرسل نظره آلي متكئه .كأنه يريد إن يخلد إلي النوم ويأخذ إستراحة المحارب المسافرفي المفازات المأخوذ بسرود الحكائين وأمجاد الصحراء .صلينا العشاء معا وكان إمامنا موسي ولد أبنو .
قرأت موسي ولد أبنو في أعماله "مدينة الرياح " "الحب المستحيل " " حج الفجار " وكلها تعد في نظري البدايات الناضجة والمكتملة والحقيقية للرواية الموريتانية الحديثة علي خلاف ما يصر عليه النقاد التقليديون ودارسوا الأدب الموريتاني الذين يرون أن الإرهاصات الأولي للرواية الموريتانية او الميلاد والنشأة كانت مع "الأسماء المتغيرة "لشاعرنا الكبير أحمدو ولد عبدالقادر .ذالك أن عوالم موسي السردية أكثر عمقا ونضجا وتنوعا اذ هي حافلة بالغرائبية والخيال العلمي والتاريخ والموسيقي والفلسفة والأساطير والتراث العربي والإسلامي وفيزيائتها مسكونة بروح التساؤل والتطواف في المجاهيل والأعماق. .ومن رعشتها التحتانية ثمة روح موريتانية اصيلة مسكونة بالشعر وسحر الصحراء.وسرود القوم الرحل /ركب الهداة الأشراف المنتظم الخالد الذي قال عنه العالم الجليل المختار بن بونا رحمه الله :
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا.
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبياينا
2/سردية موسي /
قبل أيام قليلة صدرت لموسي ولد أبنو رواية بعنوان أول "حج 2053" وعنوان ثاني "رحلة منير اويو" عن دار ديوان في 227صفحة .كعتبة أولي حمل غلاف الرواية صورة رجل بلباس الحج .ثوب الإحرام .الأبيض في صورة ترمز للطهر والتحرروايماءة بأصبع السبابة إلي الأسفل شبيهة بايماءات ليوناردو دافنشي التي اتخذها سيجموند افريد سجادا أحمرا لتحليل شخصية العبقري دافنشي .اللافت في صورة الحاج "منير أويو "هو العينان الخضراوان اللتا ن تشبهان الكرات الزجاجية .ومن اول وهلة يعلمنا الراوي انهما صناعيتتين .
الرواية تتحدث عن رحلة حج مستقبلية 2053.تتم من خلال التطور التكنلوجي وتغوص في الخيال العلمي والذكاء الصناعي
أحداث الرواية تدور حول “وكالة أمريكية للحج والعمرة تعرض حزمة من الخدمات تشمل جميع نواحي الإعداد الجسدي والروحي الضرورية لأداء فريضة الحج وتدرب الحجاج على أداء مناسك الحج في حرم افتراضي.
تتوفر الوكالة على آخر تقنيات زرع العيون الإلكترونية الضرورية للتغذية على ضوء الشمس وتحول الحاج من التغذية العادية إلى التغذية بالضوء، لكي يقضي كامل فترة حجه وهو على وضوء، دون أن يتغوط أو يبول أو يحدث. كما تؤمن تحفيظ القرآن والسيرة النبوية ومناسك الحج حسب المذهبين الشيعي والسني، وأمهات كتب اللغة العربية وقواميسها، عن طريق برنامج واحد يتم تحميله مباشرة في الدماغ"(1) وتتمحور الرواية حول منير أويو الذي جعله السارد الشخصية المحورية في الرواية وهو أمريكي مسلم علي المذهب الشيعي .والرواية هي الجزء الثالث من ثلاثية الحج التي بدأها الكاتب بحج الفجار حكاية العصر الجاهلي كجزء أول وأصدر هذا الجزء الثالث قبل الثاني الذي سيصدر قريبا كما صرح بذالك الكاتب .
قبل سنوات عندما قرأت حج الفجار لكاتبنا الكبير أعجبني تنوعها السردي وغني مدونتها بالأشعار والاساطير وتعالقها مع القرآن الكريم والشعر العربي .وكتبت مقالة حولها بعنوان /الأدب والتاريخ : ملاحظات حول حج الفجار لموسي ولد أبنو"
حاولت ان أقف فيها وانصت للهامش الذي تحاول الرواية ان تقوله والذي غفل عنه التاريخ وكانت ملاحظتي علي الرواية
تتمحور حول الأسلوب الذي كتب به الكاتب روايته فقد كان أسلوبا أدبيا قويا كأنه يتعمد الغرابة كما تحدث عنها البلاغيون القدماء.بهذا الجزء الأخير من ثلاثية الحج يبدو أن موسي اختار الحج ليكون سفره السردي السرمدي .
و المدار الكبير الذي يشغله ويتناول فلسفته بصور عديدة .الحج كرمزية دينية ذات مضامين كثيرة /الغفران /التطهر /التحرر /والحج كرحلة وتاريخ وصيرورة ..وسيرة سردية .زاخرة بالخبر ومنزعا روحيا
يحرك شعور المؤمن إلي خالقه العظيم لتلبية نداء السماء .
نداء الأنهار الي الينابيع التي انبجست منها والتي قال عنها جلال الدين الرومي نور الله ضريحه وقدس روحه في المثنوي في شرح إشارات العطار النيسابوري
:أيها الغلام نحن جميعا طيور مائية وقي سليمان سيكون مسيرنا " علي خطي الطير في مسالك الأودية السبعة في رحلته
نحو السميرغ .رحلة الذات وحنينها في بذل نثارها وقطف ثمارها. من أجل الوصول إلي المعرفة والحق واليقين .
في رحلة منير أويو الحجية نلمس ظلالا خفية لتوق الروح إلي المطلق الأبدي . حيث يغدو السرد التماعات يربط بينها ايقاع الروح.في السرد والزمان .استذكارا واستشرافا .اشارات ورسائل كثيرة يبعث بها السارد في رحلة منير وفتوحاته الحجية .وكلها تنتسج في خيط ناظم يحاول ان يخترق التخوم القصية بين العقل والروح مبرزا مدي ترابطهما .
اهتمام الكاتب بالحج هو بحث في الذات ويحمل اكثر من معني فلسفي ويعكس مدي عمق ايمان الكاتب الديني.والرواية وان كانت خيالية وتتحرك في مدارات الخيال العلمي والإصطناعي فهي مع ذالك تهجس بهذا البعد الكبيروتطرح فكرافلسفيا في البحث عن المعني .ذالك الذي قاد كلكامش بحثا عن العشبة وتحركت له دواخل الراعي سانتياغو في الخيميائي
واشرق نوره في قلب غرنوي ليلا في عزلته عند الجبل /في عطر باتريك زوسكونيد .إنه الذي تهفو له الأنفس .
تبدأ الرواية بالتلبية /في الفصل الأول عنون الكاتب نصه بلبيك وفيه يبين اساب ودواعي حجه .ثم يبدأ يتحرك في مداره الافتراضي فيتحدث عن وكالة الحج الإفتراضي ويعرفنا بمنير اويو وعالمه الذي تتحكم فيه التقانة .ومخترعات العلم . ويستمر السارد في الرحلة جاعلا من الحج محورية للنص .ومن خلال السرد الإستذكاري يقص علينا تاريخ الحج مبرزا اهميته الدينية ومحاورا للنصوص الفقهية والأحاديث الشريفة .جاعلا من المتن الديني فنية سردية محورية في روايته .
مناقشا للصورة التي قدمها لنا المؤرخون في كتب تاريخ الإسلام السياسي والتي تركت جراحا لاتندمل في العقل الجمعي الإسلامي وذالك بسب الأحداث الدامية المعروفة بوقعة كربلاء ومقتل الحسين بن علي رضي الله عنه . وهومن وراء ذالك يقدم رسائل لعامة المسلمين في ضرورة الوحدة ورصف الصف وعدم الإختلاف .
وفي مدار آخر يبعث بإشارات وجيهة كاشفا الضوء علي جذور هجمات احداث 11سبتمبر 2011التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية وسياقها الذي يكشف عن مدي هيمنة امريكا وغطرستها علي العالم .وفي اشارة طريفة يقيم علاقة لفظية معنوية بين
ابراهام وابرهة الأشرم الذي توجه بأفياله الي الكعبة ليهدمها مبرزا بذالك الصراع الحضاري بين الأمم .
تتعالق في متن الرواية نصوص كثيرة .القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية والفقه والأدعية والأذكار وأساطير الجزيرة العربية والف ليلة وليلة وتاريخ الإسلام السياسي
منذ سنوات عديدة منذ بدأ الكاتب يشتغل علي ثلاثية الحج .وكتب جزءها الأول /حج الفجار وهذالجزء الثالث حج 2053الذي كان من المفروض ان يكون لاحقا بالجزء الثاني الذي تأخر لأسباب
عزاها الكاتب لدواعي النشر وظروف الإكتمال .و كان من الاولي ان ينشر الثاني قبل الثالث لكي يكون القاريء فكرة أوضح عن العمل الأخيرفربما حمل الجزء الثاني مداخيل فهم اكثر للجزء الثالث.
من خلال ما قرأنا عن حج الفجار وحج 2053/رحلة منير اويو تبدو سردية الحج الشغل الشاغل للكاتب الكبير موسي ولد أبنو
ومن خلالها يكتب موسي سردية سرمدية .تغوص في الذات والتاريخ والروح .وبفكر فلسفي يوثق هذا الفيلسوف
لجدل المعرفة الأبدي في ثلاثة محاور كبري متجاورة /الروح والعقل والعلم .
رحلة منير أويو هي كل هذا ومضات روحية ومدارات عقلية وكشوف علمية واخبار وحكايات وأشعار وتصوف وأدعية وأذكار .وفقه وفلسفة وتاريخ وسير وناسوت ولاهوت وسفر في الزمن وخيال علمي ..واستشراف للبعيد وتخطيط للماضي
في لغة فصيحة لاتنقصها الجمالية . لكاتب أصيل يعتز بانتمائه الحضاري ودينه (2)و تاريخه وثقافته و يملك ثقافة شاسعة
الرواية وإن كانت قد اختارت موضوعات الخيال العلمي الذي لايزال لدي االكثيرين غير محبب وأرضه تشبه الأرخبيل المعزول الذي لايمكن العيش فيه . وقد يكون أفقا غريبا علي الثقافة العربية الإسلامية .مع ذالك استطاعت ان تحاور أزمنة وأفكارا لصيقة بالذات وتبني عالما خارج مفاهيم ومجال الخيال العلمي .والكاتب يعي ذالك جيدا وقد سعي لتبريراختياره وأفرد في آخر روايته بابا عنونه ببراعة ب /أدب بلاحدود وجعل منه مداخل لفهم نصه ومن خلاله شرح بعض رموز روايته .
*********
وأنا أقرأ الفصل الأخير من الرواية تساءلت في نفسي
منير أويو هل يمكن أن يكون الإنسان الأخيرالذي أصبح يعيش الإغتراب وبدأيفقد انسانيته بفعل الآلة والتقدم التكنلوجي .والذي سيعود لامحالة من رماد الحضارة إلي عالم الروح .
إذ المعرفة هي الروح
والوجود هو الروح
والعود الأبدي هو ايقاع الروح
هوامش
*موسى ولد ابنو مفكر وسياسي وكاتب موريتاني مشهور ولد 1956في مدينة بوتلميت .درس في معهد الصحافة في باريس وأخذ منه الإجازة ثم درس الفلسفة في السوربون وتحصل علي الدكتوراه منها .تولي عدة مناصب قيادية منها مستشارا للرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد ولد الطائع ومديرا لوكالة الأنباء الموريتانية بالإضافة إلي كونه استاذا جامعيا للفلسفة في جامعة نواكشوط.ويعد أبرز الأصوات الروائية الموريتانية والمغاربية .متمكن من فنه وتمتاز أعماله بالعمق والإنفتاح علي مدارات سردية شاسعة /الفلسفة والدين والتاريخ والخيال العلمي
صدر له :•
“مدينة الرياح” رواية، 1996/دار الآداب
“الحب المستحيل رواية ”، 1999/دار الآداب
“حج الفجار” رواية ، 2005/دار الآداب
“مدونة الثقافة الشعبية الموريتانية” /1995، /الحكايات والأساطير الموريتانية
في ثلاثة أجزاء /حكايات الحيوان
حكايات الإنسان
الأمثال والحكم الشعبية
“الوسيط في الأدب الموريتاني الحديث”،/انطولوجيا موريتانية 1997.
ألا ليت الفتي حجرا.
الرواية والخيال العلمي /دار ديوان /نواكشوط 2016
قصتي /سيرة ذاتية /دار ديوان /نواكشوط 2017
حج 2053/رحلة منير أويو /رواية /دار ديوان /نواكشوط /2021
(1) مقتطع تعريفي علي غلاف الرواية
من حج 2053/رحلة منير أويو /موسي ولد أبنو /ديوان للنشر /نواكشوط /أوت 2021
(2) في إطار اعتزاز الكاتب بدينه يكفي أن نشير الي أنه
من المواقف المشرفة التي لاتنسي لكاتبنا الكبيريوم 24/ 10 /2020
دعوته لحل الرابطة الموريتانية للكتاب الفرانكفونين التي أسسها و يشغل منصب رئيسها ومقاطعة فرنسا ثقافيا وعدم الكتابة بالفرنسية حتي يكف ماكرون عن غيه . وذالك احتجاجا علي الموقف الفرنسي الحقير من الرسوم المسيئة لخاتم الأنبياء والمرسلين رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم وعلي آله وصحبه الطيبين الطاهرين إلي يوم الدين .