جمال جبران جريدة النداء 19 يونيو 2008 م
(1) وأخيراً، صار للمترفين روايتهم. صار لأصحاب ومواطني ال" الهاي كلاس " ناطق أدبي خاص بهم. راوٍ يحكي عنهم ويقول بأحوالهم وما يكون فيها. وأخيراً صار لأهل الطبقات العليا أديب وكتاب عمل على انتشالهم من الهامش إلى المتن. عمل على خروجهم من دائرة الإهمال. فدائماً، ما كان تمثيل هذه الفئة الاجتماعية في الأدب محصوراً في إطار تكميل الصورة العامة والمشهد العام. باعتبارهم عنصراً من عناصر الحياة، لا باعتبارهم مركزها. أو على أكثر تقدير تأديتهم لدور كومبارس مهمته الأولى تكميل الجزء الصغير الناقص من الصورة. في الأدب المصري، هنا على وجه الخصوص، حضرت الشخصية المترفة كعامل مساعد مهمته تظهير الشخصية المقابلة، بطل العمل (الفقير) عادة. وحتى ولو وجدت مثل هذه الشخصية في صدارة أي عمل، لا يكون الترحيب بها سهلاً أو متاحاً بمجانية ما. هناك، باعتقادي، ميل إنساني يدفع باتجاه اتخاذ نظرة سلبية مسبقة عن أفراد تلك الطبقة، مهما بلغت درجة معاناتها.فلا يجدوا تعاطفاً أو حتى مجرد ترحيب بهم، على أقل تقدير. هي طبقة اجتماعية تقع دائماً في دائرة الشك. تقع في دائرة المتهم الرئيس المتسبب، ولو بشكل مسبق، في إيلام الآخرين وفي معاناتهم. فأهل هذه الطبقة، في الوعي الجمعي، هم الأذية والأذى، هم الشر المستطير، هم الوباء والطاعون. هم رصاصة الجريمة التي سكنت جسد رجل فقير. هم الباشا الذي يعمل على اضطهاد رعاياه في عزبته الخاصة. هم ابن الباشا الذي يقوم بإغراء ابنة الفلاح واعداً إياها بالزواج وهذا فقط كيما ينال منها ليسافر بعد ذلك في منحة دراسية تاركاً الفتاة الفقيرة لمصيرها الأسود. وفي درجات أدنى، هم صاحب العمارة الذي يضطهد سكان عمارته. رئيس المصلحة المتسلط على موظفيه. مأمور قسم الشرطة " المفتري. والى كل هؤلاء نماذج أخرى متعددة بتنوع المجال الاجتماعي. وقد عملت الدراما المصرية (سينما وتليفزيون)، بصفة خاصة، في تجسيد هذه الفئة الاجتماعية مراراً وتكراراً وبذات الصورة والملامح، باستثناء نماذج قليلة تدخل في حكم النادر. (2) وعليه، كان صدور رواية "1/4 جرام " للكاتب الشاب عصام يوسف، (نجل الكاتب الكبير عبد التواب يوسف، أبرز الأقلام العربية التي تخصصت في مجال أدب الطفل)، صدرت لتلاقي نجاحاً تجارياً لافتاً قيل أنه حقق في ثلاثة أسابيع مالم تحققه رواية " عمارة يعقوبيان " لعلاء الأسواني في سنة كاملة. وما يزال صدور طبعات جديدة منها يتوالى قائلاً بتحقيقه حالة روائية، تجارية خاصة)بين يدي نسخة من الرواية في طبعتها الثانية التي صدرت في الإسبوع الثالث لصدور الرواية الرسمي). كل هذا على الرغم من حجم الرواية الضخم نسبياً (يقترب من السبعمائة صفحة)، وهو حجم يصعب في الوقت الراهن أن يجد له قارئاً مخلصاً لديه من الوقت والقدرة على الاحتمال ما يدفعه لإنجاز قراءة هذا العمل. هذا إضافة لسعر الرواية المرتفع (خمسون جنيهاً)، وهو رقم مرعب، بحسب تعليق احد الصحفيين. كل هذا يقول بماهية ونوعية الفئة الاجتماعية التي تستطيع امتلاك هذه الرواية. (بحسب استطلاعات رأي حول الرواية، جاء مايقول أنها تلاقي رواجاً كبيراً في مناطق جغرافية محددة في المدن المصرية الرئيسية. يتمتع سكانها بحياة ذات مستوى اقتصادي مرتفع). (3) من الناحية الفنية، جاءت رواية "1/4 جرام " تحت مايمكن تسميته " الرواية التسجيلية ". حيث يقوم الكاتب، حقيقة، بتسجيل ماسمعه من اعترافات صديقه الحميم (صلاح) عن تجربته في عالم المخدرات. وكان هذا قبل أكثر من خمسة عشر عاماً. إلى أن جاء الوقت الذي طلب فيه صلاح من صديقه تدوين تلك الاعترافات في كتاب حتى يستفيد الشباب من تجربته. ولذلك كُتب على غلاف الرواية " رواية واقعية ". تحكي الرواية ماكان ل" صلاح " رفقة شلة من رفاقه (أحمد، حسين، رامي، بهاء، علاء)، من أبناء الذوات المنتمين لعالم ما بعد الانفتاح المصري ومارافقه من صعود غير مسبوق لأغنياء جدد تمكنوا من استغلال القرص التي سنحت لهم. هم تلاميذ في مدرسة لغات باهظة التكاليف. يعيشون حياة منفلتة بعيداً عن مراقبة الأهل المنشغلين بأحوالهم. كما والمال متوافر بين أيديهم. كانت سيجارة حشيش هي الخطوة الأولى لدخولهم عالم الإدمان، فشرب البيرة والخمر بدرجة لاحقة. ومن ثم انفتح كل شئ. في إحدى حفلات رأس السنة وهم في المرحلة الإعدادية (وهي احتفالية مقدسة في عرف أبناء هذه الطبقة)، دخل عليهم بهاء قائلاً: " اسمعوا يا رجالة رأس السنة دي مش خمرة ولا حشيش.. مفاجأة.. الجديد البريمو.. سحر يا اكسلانس.. أنا معايا هيروين بودرة ربع جرام.. فرد صلاح: ويعني هيعمل إيه الربع جرام دا؟ بهاء: دلوقت تشوفوا الربع جرام دا هيعمل إيه.. البودرة هتخليكم ملوك ". فكانت البداية التي انتهت بالإدمان الكامل. الرواية مكتوبة بلغة بسيطة تقترب، أحياناً إلى درجة الحكي الساذج، خليط من الفصحى والعامية. كما يبدو أنها مكتوبة أصلاً كسيناريو جاهز وخاص بعمل سينمائي، (قال كاتب الرواية عصام يوسف أن شركته الخاصة،" مونتانا ستوديوز"، بصدد إنجاز اللمسات الأخيرة في شأن تحويلها إلى عمل سينمائي). يقودنا هذا إلى مباشرة لعقد مقارنة بين ال" 1/4 جرام "، وبين أعمال أدبية عديدة تحولت إلى الشاشة الكبيرة، عمل " المدمن " لأحمد زكي ونجوى ابراهيم، على سبيل المثال. فسوف تكون مقارنة تصب بلا شك (بالنسبة لي على الأقل)، في صالح " المدمن " الذي أدّاه الراحل أحمد زكي باقتدار عالٍ.)نعود هنا لمسألة الميل الفطري الدافع للتعاطف مع الشخصية الفقيرة). فعلى الرغم من اللحظات الإنسانية المكثفة في بعض زوايا الرواية (1/4 جرام) أقصد، إلا أننا (فيما يخصني)، حال القراءة لانشعر بوجود ذلك التعاطف الإنساني المطلوب أو المفترض أن يكون في مثل هكذا حالات. لا تكون سوى قراءة محايدة. لكأننا نقف قبالة شخصيات بلا دم أو لحم. مجرد شخصيات بلاستيكية. يكون مرورنا عليها كما المرور على حادثة اعتيادية تحصل كل يوم أمام أعيننا فلا نعود نتأثر. كما وهم سبب ألآم الآخرين، فليتذوقوا إذن من ذات الكأس. وقد يصل الأمر إلى حدود التشفي، بل هو التشفي بعينه هنا وبوضوح على الرغم من قساوة هذا الشعور. لكنه الوعي الباطن الذي يشير باتجاه أفراد هذه الطبقة قائلاً أنه ليس بالإمكان تواجدهم في مقام الضحايا. وبالتالي فسقوط أمر التعاطف معهم يكون واجباً. هي قراءة ثأرية إذن، (إن صح التعبير). وفوق هذا تقف مسألة عدم تقديم الرواية جديداً على المستوى الفني والجمالي كعامل رئيسي في عدم فعل ذاك التعاطف. هو مجرد سرد اعتيادي مسهب ممتد على مساحة تقترب من السبعمائة صفحة، (أنجزت قراءتها بصبر كمن أزاح حملاً ثقيلاً من على ظهره). فلا سبب فني واضح إذن لهذا النجاح التجاري الذي حققته هذه الرواية وما تزال. حيث وكل شئ فيها يقول بعاديتها ومجاورتها لأي عمل أدبي بسيط ويخرج إلينا منها الكثير والكثير ويحدث هذا بشكل يومي. إننا لو قمنا، على سبيل المثال، بعقد مقارنة بسيطة بين " 1/4 جرام " وبين رواية " تغريدة البجعة " لمكاوي سعيد (قمنا بتقديم قراءة لها في العدد الفائت على هذه المساحة)، وهي الرواية التي خرجت في توقيت موازٍ ل" 1/4 جرام "، وحازت على نجاح تجاري مماثل. فلن تكون المقارنة لصالح الأخيرة، حيث بدت " تغريدة البجعة " كمثال باهر على فرادة العمل الأدبي الشاب ومتانته قائلاً بالمستوى الذي وصلت إليه الرواية المصرية/ العربية الشابة بشكل عام. في حين جاءت " 1/4 جرام " لتقول بحالة طارئة، وبفئة طارئة، وبمناخ اجتماعي طارئ، لن يطول الوقت حتى يذهب إلى النسيان والأرشيف. فمثل هذه الأعمال (الموضة)، لا يكون احتمالها على البقاء والصمود طويلاً، تماماً كحال أبناء ذات الطبقة الذين تتحدث عنهم، فسرعان مايصيبهم الملل، تاركين الأدب لحال سبيله، باحثين عن لعبة مسليّة أخرى.