رِوَّايات العبودِّية: التخيِّيل التارِّيخي والسَّرد
نماذِّج علىٰ خلفيةِ رِوَّاية زرّايب العبيد [¹]
لنجوّى بن شتوَّان
رِّوَّايات العبيد الحدِّيثة ثمرَّة الرَّبيع العرَّبي:
المتابع للمشهّد الرِوَّائي العرَّبي، لا شك أنه لاحظ ثمرّات ما أحدثه من خلخلة على مستوى السّرد، إذ استعاد فيه رِوَّايات العبيد، كمصدّرِ إلهام ٍ لتغيِّيرِ الوضع الوجودي المزرِّي، الذِّي ظلَّت تعيشه شعوب المنطقة، تحت قمعِ وسحلِ ديكتاتورياتها الرَّاسخة في الواقع وفي الوجدّان الثقافي لقرونٍ طويلة، فقد ظلت النُظُّم تتغيَّر بتغيرِ العُصّور والمرّاحل، سواءً على عهود الإستعمار الغرّبي أو ما أعقب ذلك، من نُظُّم إستعمار محلي، رَّسخت للعلاقاتِ نفسها: ”شعوب من العبيدِ وقادّة من السادة!“..
في ظنِّي أن رِوَّايات العبيد الحدّيثة، التي أزعم أنها أخذت تتبلور كنوعٍ أو جنس قائم بذاته، في المشهد الرِوَّائي في العقدِ الأخير، مستلهمّة من أحداثِ الرّبيع العرّبي الذي حفز كل جرائم الماضي وجرائره للطفو على السطح، ففي جوهرِ أسباب إجتياح هذا الحراك الواسع للمنطقة، تكمن قيمّة الرّفض.. رفض للماضي/الحاضر الأسود المتماهي في الحيّاة الرّاهنة.
الرِّوَّائي غير معني بالمآلاتِ، كما أنه ليس مؤرخاً لينتظر عقود ليكتب عما جرّىٰ، فما جرّىٰ بالنسبةِ للسّرد هو حدّث فعلاً منذ مئاتِ السنوات، ولا يزّال يحدُّث بشكلٍ متكرِّر كل يوم.
لا فرق إطلاقاً بيننا كعبيد في عصورِ حجاج أدول أو جمال الغيطاني التخييلية أو عصور جورجي زّيدان التارِّيخية. أو في عصور الاستعمّار المحلي العتيدّة، التي أناخت عِيرها وخيولها ودباباتها في كلِ ”منعرج لوىٰ“ وشبر، فيما مضى والآن، وهنا وهناك. فنحن خلاصة تجرّبة الماضي البائس، في رّاهننا الأشدّ بؤساً.
لم يُسقط الرّبيع العرّبي الأنظمة العميقة، لكنه خلخل البُنّىٰ الإجتماعية، فلن تعود الأشياء كما كانت قبله، ولن نعود كما كان أسلافنا. رُّغم الدّم والظلام الكثيف، الذّي خلّفته أحداث الرّبيع ووقائعه، في السقوط المدّوي للبعض، وإحكام البعض الآخر لقبضتهم، مستنفدين كل تراسانات ”الفكر الجبرّي“ في التراث وأجهزة الأمن والحق الالهي. غير آبهين بقتلِ شعوبهم، وتهجير ونفي من يظل على قيدِ الحيّاة!
ومع ذلك ”رِوَّايات العبيد“ تفيد أن هذه الشعوب باقية، لن تحقق الأحلام الخفية لحكّامها بالمغادرّة.
رِوَّايات العبيد ليست رِوَّايات تارِّيخية، أنها واقعية لدرّجة تنضح بمرارّة ومأساوية وألم هذا الواقع الرّث، الذِّي يختفي فيه المواطن بغتةً ولا يعود له وجود، أو يُعثر على جثته مقطعاً أجزاء في مكبِ قُمامة، أو قُرب نّهرٍ أو في المجاري، أو في مكان ناءٍ معزّول يفصل المساكن عن بيوتِ الأشباح السِّرية!
زرَّايب العبيد: الحَكَّاية وحُوَّار النُّصوص:
تدّور أحدَّاث هذه الرِوَّاية في ”ليبيا العُثمانية“، قُبيل الإستعمار الإيطالي وأثنائه. وكما سنتعرَّف في الإستهلالِ علىٰ (عتيقة) وإبن عمتها (علي) (الرّجل الغرّيب) الذّي دّاهم حياتها علىٰ غيرِ توقعٍ، تندّاح من لقائِه بها، حكَّايا الماضي.
فابتداءً من الإستهلالِ تتكشَّف الحَكَّاية عن قضيتِها (نسب عتيقة) فتنحدِّر إلىٰ ينابيعها في الماضي البعيد، حيث والدّها الذِّي عشق عبدّته/ أمها ”تعويضة“ فهجّر زوجته.
وتمخُض هذه العلاقة المحرّمة بين السيد الأبيض ”محمّد“ وعبدّته السّوداء ”تعويضه“ عنها هي ”عتيقة“، المولودّة في ”زرَّايبِ العبيد“.
من خلالِ علاقة الحب التي جمعّت بين السيد وجارِّيته، يُضئ الرَّاوي المناطق كثيفة العتمَّة في حيَّاة العبيد. فنطلع علىٰ ما تعرّضت له العبدّة عتيقة، من مؤامرَّاتٍ ودسائس وإجهاض ونفي، وتنكُّر عائلة سيدَّها لها، برّميها بعيداً لمواجهةِ أقدارِّها، في عوالمِ الرِّق، بكل ما تحتقن به من قهرٍ وإقسار، وإمتهانٍ للكرَّامة الإنسانية.
هذِّه الرِوَّاية، ككتابةٍ سرّدية، تُحيل إلىٰ ”التخيِّيل التارِّيخي“ إذا استبدلنا به تجنيس ”الرِوَّاية التارِّيخية“ إستئناساً بالمقترّح التجنيسي، للناقد والباحث العرّاقي دكتور عبد الله ابراهيم، لفضِ الاشتباك في تحدِّيدِ هُوِّية إنتمائها، باعتبارِ أنها تستلهم بطريقةٍ أو أُخرّىٰ التارِّيخ كمادَّةً لها، في مقارّبتِها الواقع كما يتصورَّه الشخوص، الذِّين هم في المحصلةِ النهائية، يمثلون تصورّات الكاتبة عنهم.
إذ تربط بين التارِّيخ وأثرِّه في تشكِّيلِ الشخصِّيات، علىٰ النحو الذي بدوا فيه. وهنا في سياق ”حُوّار النُصُّوص“ نرىٰ من المفيدِ عقد مقارَّنة بين الحَكَّاية في بُنيَّة ”زرّايب العبيد“، والحَكَّاية في رِوَّاية ”بِذرَّة الخلاص“ لبروفيسور فرانسيس دينق[²] فالاثنتان تنتميان لـ(التخيِّيل التارِّيخي)، وفي الحقيقة ليستا وحدهما، فكثيرَّة هي الرِوَّايات التي انشغلت بتسرِّيد العبودِّية. ولذلك سنُولي الإهتمام بالقاءِ بعض ضوءٍ، علىٰ بدايات وتطورّات هذا النّوع من الرِوَّايات.
ما قبل القراءة:
فيما كنت أغرّق في صفحاتِ رِوَّاية ”زرَّايب العبيد“ للرِوَّائية الليبية ”نجوّىٰ بن شتوان“ استعادّت ذَّاكرتي، الملاحظة المبدِّعة للناقد والباحث المغرِّبي الفذّ ”سعيد يقطين“ التي كتبها تحت عُنوانٍ فرّعي: طريق الحرير: رحلة المسالك المتداخلة. إذ يقول ”يُلِّحُ التنظِّير المتصل برِّوَّايةِ (الأُطرُّوحة النِّسائِية) كما نُسمِّيها، على أن من خصائصِها الكُبرّىٰ، الكتابة العفوّية والحدّسية، والإستعمالِ العادّي للكلمّة.
وأول ما يُفاجئنا ونحنُ ندّخل عالمِ (طريق الحرير) صعوبة الدّخول إليها، بل أننا ونحن علىٰ عتبتها، سنصطدِّم بطريقةٍ كتابية مختلفة، وإذا ما تجاوزناها فإن تقدّمنا، يدفعنا بين الفينةِ والأُخرّىٰ، إلىٰ إعادةِ قراءة ما سبق، والعمل المتواصل علىٰ إعادةِ تشكِّيل، ما يتكوَّن لدينا من أشياءٍ، وهي قليلة وغير ذَّات قيمَّة.
وحتىٰ عندما نُمسك بالقلمِ، ونبدأ في تسجيلِ إشارَّات أو مؤشرَّات، لتكون معينةً لنا علىٰ مواصلةِ الرّحلة، نجد أنفسنا نؤشر علىٰ النَّص بكاملهِ، ولا نتمكَّن من تمييِّزِ الأساسي من غيرِّه، لنساهم في تشكِّيلِ عوالم القصّة [³]“
فقد أغرَّقتني التفاصيل، ووجدت صعوبة كبيرّة في العثورِ، علىٰ نُقطةِ البدّاية التي بإمكاني الإنطلاق منها، لإعادة بناء النَّص من موقعِ القارّئ.
ولذّلك سنحاوّل –أولاً– للإمساكِ بتلابيبِ هذا النَّص، رّسم سيرّة عامة حوّل بدّاياتِ وتطورّات تسرّيد العُبودّية.
هوّامِش حوّل سيرَّةِ تسرّيدِ العبودِّية:
لا شك أن الثورَّة الأمريكية ١٧٦٥–١٧٨٣ قد مثلَّت أحد أهم مصادر الإلهام، بالنسبةِ للكثيرِ من الرِوَّايات، وذلك بالتركيز علىٰ قيمّةِ الحرِّية، ومسألة الهُوِّية الإنسانية، الأمر الذي ينسحب على سؤالِ الهُوِّية في السَّرد.
يقول ريكور ”إنّ تكوِّين الهُوِّية السَّردية، سواءً كانت لشخصٍ مفرّد أو لجماعةٍ تارِّيخيَّة، كان الموقع المنشوّد لهذا الانصهار بين السَّردِ والخيال.
وأن لدينا استباقاً حدثياً لفهم هذّه الحالة، أفلا تصّير حيَّاة النَّاس أكثر معقولية بكثير، حين يتم تأويلها في ضوءِ القصّص، التي يرّويها النَّاس عنها. أفلا تُصبح قصّص الحيّاة نفسها أكثر معقولية، حين يُطبق النَّاس عليها النماذِّج السَّردية [⁴]“ في الواقع ذاك هو الفرّق بين العبودِّية كتارِّيخ، والعبودِّية كتسريدٍ لذلك التارِّيخ.
وحتى الآن، لا يزال السَّرد الذِّي يتناوَّل حَكَّاياتِ العبيد، يجد حظه من الإهتمام، بسببِ المآسي المتجذرَّة حوّل قضايا (الرَّقيق) في الوجدَّانِ الإنساني، رُّغم أن الكثيرين –حتى الآن– لا يزّالون يُنكرّون وجود العبودّية.
تشكَّلَّت قَصَّص العبيد في بداياتِها في الرِوَّاياتِ الشفاهِية، ومن ثم انتقلت إلىٰ التدّوين. ورُّغم تعاقب العُصّور، لا تزّال قضايا (الرِّق والاسترقاق) بأشكالهما المختلفة، قائِمةً. فيما لا يزّال إلىٰ حدٍ كبير، التوثيق لها يُسجِل غياباً فاجعاً!
ولا شك أن قصّص (العبودّية) كـ (نّوع أدَّبي) تطورّت من خلالِ (السيَّر الذَّاتية) للعبيدِ السابقين، إلى أن تمّ تقعيدّها أدبياً، في أعمالِ (التخييِّل التارِّيخي) الحدِّيثة. التي تسعىٰ إلى (إعادّةِ بناءِ الذَّاكرَّة) من خلالِ إعادّةِ بناءِ مصدرِّها ”التجرِّبة التارِّيخية“.
فكُلِ الذِّين قاموا بـ (تسرِّيدِ العبودِّية)، انطلقو من مبدأ أن الخيال، هو القاعدّة التي ينهض عليها التارِّيخ، والذَّاكرَّة معاً. من هنا نرىٰ أنَّ (حَبكَّات رِّوَّايات العبيد) بصورَّةٍ عامة، تنهض علىٰ عاتقِ مبدأِ ”المؤامرَّة المشترَّكة“ منذ لحظة اختطاف العبدة أو العبد من مجتمعه المحلي وبيعه أو إهداءهِ، وحياته في منزل سيدّهِ، وهرّوبه، بحثاً عن حلٍ لمأزقهِ الوجودِّي، وتعرّضه للمطارَّدةِ في هذا الهروب، وما تفعله به الأقدار خلال رِّحلة الهرّوب. فمن يظَّل علىٰ قيدِ الحيَّاة، يظّل طوَّال حياتهِ يُعاني من (الاعترافِ غير المؤكد) في المجتمع الذي يلوّذ به، وإن حصل علىٰ إعترافٍ رَّسمِّي بالحرِّيةِ.
فقضية العُبودية كقضيةٍ تارِّيخية معقدَّة وشائِكّة، تتصل بقضايا ”الصرَّاع الاجتماعي“، لذَّلك لا تجد حلولها الحاسمة، إلا ضمن قوانينِ هذا الصرَّاع و”التاريخ لكونه يمتلك الموضوعية كمشروع، قادر علىٰ أن يطرّح حدودِ الموضوعية بوصفها مشكلة. لكن، هذا السؤال لا تعرفه براءة الرَّاوي الذِّي يتوَّقع بدلاً من ذَّلك، التعليق الطوّعي لعدّم التصديق، إذ يوجه المؤرخون خطابهم الى قراء متشكِّكِّين، يتوقعوّن منهم ليس السَّرد فقط، بل إثبات صحة سّردهم [⁵] لكن قارئ الرِّوَّاية علىٰ العكسِ تماماً، يتوقع منه المؤلف المساهمَّة، في إعادةِ إنتاج سرّده.
سمات عامة:
ثمَّة سمّات عامة مشترّكة، في تسرِّيد العبودِّية تلتقي في تعرّض الرِّجال والنساءِ المستعبدّات للاغتصابِ، وكافة أشكال الانتهاكات والتميِّيز، والمعايير المزدوجة تجاههم، خاصةً من قبلِ رجالِ الدِّين أو الفقهاء التقليديين [⁶].
والرَّاوي عادَّة (عبد سابق) [⁷] أو شبح يحكِّي بتوظيف (الجملة الفعلية) [⁸] الحكاية من المبتدأِ إلىٰ المنتهىٰ، منذ ميلاد حيَّاة العبد وملابسات ذلك الميلاد، ومكانه، دون تحديدٍ لتارِّيخِ الميلاد كتعميق لمشكِّلةِ النّسب، الذِّي غالباً ما يكون لأبٍ حُر (أبيض) وأُم عبدَّة (سوداء). وهو أو أسرتهِ قُسّاة بلا قلب. والصعوباتِ التي تعانيها ثمرَّة هذه العلاقة المحرّمة، في تعلُّمِ القراءة والكتابة. والمساعدّة التي تتلقاها من جهةٍ ترسلها لها الأقدَّار.
ويشترِّك تسرِّيد العُبودِّية أيضاً، في تيمَّةِ فصلِ الأبناءِ عن الأمهاتِ، وإجهاض الأجنة من السّادّةِ، إلخ.. وتغيير إسم العبد أو العبدَّة، لتختبئ خلف الإسم الجدّيد إثر هرّوبها من سادّتِها، الذِّين يطاردونها. رَّغبةً في أن يمنحها الإسم الجدّيد هُوِّية إجتماعية جديدّة، كإنسانة أو إنسان حُر، مع الاحتفاظِ بالإسمِ الأوّل كعلامةٍ علىٰ استمرّاريةِ الهُوِّية الفردية، ففي كلِّ الأحوَّالِ في الترَّاتبيةِ الإجتماعية، يتم النظّر إلىٰ العبيدِ السابقين بشكٍ حوّل أصالتهم، بالتالي مواطنتهم.
تسرِّيد العُبودِّية في الغربِ:
تم نشر رِوَّايات العبيد للمرَّة الأولىٰ، من قِبلِ العبيد الأفارِّقة من أمريكا الشمالية، في إنجلترا في القرنِ الثامن عشّر، وسرّعان ما أصبحت الشكل الرّئيسي (للأدبِ الأفريقي الأميركي) في القرن التاسع عشَّر، إذ تم نشر العدِّيد من الرِوَّاياتِ في هذا السياق، من قِبَلِ المطالبين بإلغاءِ الرِّق، عن طريقِ محرِّرين، نظراً لكون العبيد لم يكونوا يعرَّفون القراءة والكتابة، خلال النِّصف الأول من القرن التاسع عشَّر.
قُبيل الحرّب الأهلية الأمرّيكية، كتب بعض المؤلفين قصصّاً خيالية عن العبوديةِ، من أجلِ خلق الدّعم لإلغاءِ العُبودية. كالرِّوَّاية الشهيرَّة ”كوخ العم توم“ (١٨٥٢) لـ ”هاريت بيتشر ستو“. ومن ثم توّالت الرِّوَّايات، لنصل إلىٰ رِّوَّاية ”الجذّور“ لـ ”اليكس هيلي“ التي نُشرّت للمرَّة الأولىٰ عام ١٩٧٦.
تسرِّيد العبودِّية في شمالِ أفريقيا:
رِوَّايات العبيد في شمالِ أفريقيا، كانت مكتوبة بواسطة عبيد بريطانيين وأمريكيين من البيضِ تم الاستيلاء عليهم (غالباً في البحر أو عبر الاختطاف الترّكي العثماني). وأستُعبدوا في شمال أفريقيا في القرّنين الثامن عشّر وأوائل القرّن التاسع عشّر.
وقد حفلّت أسواق المغرّب العرّبي والقاهرّة، وحواضر السودان كـ(الأُبيض والخرطوم)، وقتها بالكثيرِ من القصّصِ التراجيدية للعبيد.
وما يميِّز حَكَّايات العبيد في (شمال أفريقيا) أنها تُسلِّط الضّوءِ علىٰ ”الآخر“/ تجار العبيد المسلمين، في حين أن رِوَّايات العبيد (الأمريكيين الأفارقة) غالباً ما تدعو تجار الرَّقيق، إلىٰ اعتبارِّهم أخوَّة مسيحيين.
استخدم بعض الأسرّىٰ تجارِّبِهم كعبيد في شمال أفريقيا، لإنتقادِ العبودِّية في الولاياتِ المتحدّة. ومما لا شك فيه عانىٰ العبيد في شمالِ أفريقيا، من الظروفِ نفسها التي عانىٰ منها نظرائِهم الأفارّقة في الولاياتِ المتحدّة، بما في ذلك الأشغالِ الشّاقة، والنظام الغذَّائي السيئ، والعلاج المهين.
ومع ذلك كان العبيد في شمالِ أفريقيا، يجدون الفرّصة –أحيانًا– للإفلاتِ من حالتِهم تلك، عن طريقِ التحوُّل القسرِّي إلىٰ الإسلام، وتبني محل الإقامة الذِّي يجدون أنفسهم فيه، في أيٍّ من أقطارِ شمال أفريقيا، كوطنٍ بديلٍ لأوطانِهم التي أُختطفوا منها.
رِوَّاية ”زرّايب العبيد“/ العُنوَّان:
أولىٰ القضايا الاسترّاتيجية لهذا النَّص، أنه طرّح إشكالاً سرّديا غير مألوفاً في عناوينِ رِوَّايات العبيد، بتأكيدِ ”إحالتهِ لدّلالتهِ“، من موقعِ التأكيدِ لـ ”الزرِّيبة“ كمكانِ حيَّاة للعبيدِ، فـ ”الزرِّيبةِ“ كحظيرّةٍ ”للحيواناتِ“ من المفرّداتِ المفاهمِّية، التي تُدلِّل علىٰ المحذّوف بعدِّها، لأن مجرد ذِّكرَها ككلمّةٍ مفرّدة، دون اندرّاجها في عبارّةٍ، يكشف بديهياً عن المحذّوفِ ”الحيوّانات“.
يتم هنا في هذا النَّص تمييِّزها بالإضافةِ، بإحلالِ ”العبيد“.. بالتالي انطوّىٰ العُنوَّان علىٰ فحوىٰ متنه، خلال المصادرَّة المسبقة، لأُفقِ التوقعات وليس العكّس.
إذن نحن مُقبلون علىٰ عبيدٍ يعيشون في زرِّيبة، كما في المتنِ تماماً، ما يقمع المغامرَّة السّردية.
ولذلك جاء (الاستهلالِ) حاملاً لـ ”نّهايةِ“ النَّص وليس لـ ”نُوِّياته“ فباستلامِ بطلة القصة للوثيقة التي تثبت نسبها، وتؤكد أنها ليست عبدّة انتهت الحَكَّاية.
تتكوَّن الرِوَّاية من (٤٧) مشهداً أو فصلاً، يحمل كلٌ منها عُنواناً مستقلاً، كاعلانٍ لحَكَّاية جديدَّة متفرِّعة من البُنيَّة الحَكَّائية المركزِّية، أو امتداداً لمزيدٍ من تفاصيلِ حَكَّايةٍ سابقة ”عُرّفت الحَبكَّة في البدايةِ، علىٰ أكثرِ المستوّياتِ شكلِّية، أنها (دينامية دّمجية) تُشكِّل قصّة موحدّة وتامة، من أحداثٍ متنوّعة بكلماتٍ أُخرّىٰ أنها تحوّل هذا التنوّع إلىٰ قصةٍ موحدَّة وتامة [⁹]
يجئ الفصل الأوّل بمثابةِ إستهلال، إنطلاقاً من لحظةٍ رّاهنة، عندما يطرق ”رّجل غرّيب“ باب منزل ”عتيقة بنت تعويضة“، التي ترفض مقابلته هرّباً من ذِّكرياتِ ماضيٍّ مؤلم، إذ تكتفي بمخاطبتهِ من خلفِ الباب، فيضطر أن يترك علىٰ الأرض الوثيقة –التي جاء يحملها– التي تثبت نسبها، ويغادر هو يقول ”إذا كنت تسمعينني أنا موجود بالفندقِ البلدي، ص: ¹¹“..
ثم يُطلعنا الرَّاوي علىٰ حيَّاةِ عتيقة المستقرَّة كممرضةٍ وزّوجة وأُم سعيدّة، وبعد أن نكأت هذه الزِّيارَّة السرِّيعة فضولها، تقرِّر الذِّهاب لمقابلتهِ، وهكذا تستوثق أن هذا الغرِّيب ما هو إلا إبن عمتها (علي)، والذي مع قدومه يتفتح السَّرد عن بُنىٰ حَكَّائية، تقود كلٌ منها لأخرّىٰ. فنتعرف علىٰ حَكَّاية (عتيقة) وعمتها (صبرية) وحياتها في الإرسالية، وتعليمها وعلاقتها بيوسف زّوجها الذِّي يكبُرّها ”مرّت ليلة حالمة مختلفة، وفي صبيحةِ الغَّد جاء باكراً إلىٰ مقر إقامتي، وأدرَّكت أنه سيصارِّحني بحبهِ. لاحظت الأخوّات التغيِّيرَّات المتلاحقة في علاقتي به، فقالت الأخت ماريا: لابد أنه جاء بهذه السرعة، في صباحِ يومٍ شتوِّيٍّ بارِّد، ليطلب يدِّك.
وبالفعلِ، طلبني يوسف للزَّوَّاج رُّغم فارِّقِ العمر، ص: ²⁸“
ونتعرف علىٰ مسيرَّة حياتها بالتفصيلِ الدّقيق، مُنذ وجدّت نفسها طفلة في ”الإرسالية الفويهية“ بـ(بنغازي)، وعلاقاتها الحميمَّة باقرَّانِها، ومعاناتها من وّصم العُبودّية، والحيَّاة في عالمِ رَّغباتِ النساءِ وشهوّاتِ الرِّجال في ”زرّايبِ العبيد“ التي لا تصمد أمام غضبِ الطبيعة ”هبَّت عاصفة علىٰ الزرَّايب، واقتلعّت الكثير من أركانِها، ص: ⁸⁶“
وهكذا لا تُخلِّف العاصفة بعد إنجلائها، سوّىٰ المرارَّات والآلام.. ثم ننتقل إلىٰ تفاصيلِ بُنىٰ حَكَّائية عديدَّة، تتفرَّع من الحَكَّاياتِ، التي مركزَّها ”زرَّايب العبيد“، وما يحدّث لهؤلاءِ المناكيد من قبلِ الأحرَّار. وحتىٰ اللحظةِ التي أُحرِّقت فيها الزرّايب بعبيدِّها، للقضاءِ علىٰ الطاعوّن ”كانت الزرَّايب تشتعل، و(بنغازِّي) المسورَّة بسياجٍ كبير أمامهم، تمتص الدُّخان ساهمّة، ص: ¹⁶⁵“
لتمثل هذه اللحظَّة، مفترَّق بين مرَّحلتين، بتوظيفِ الطاعوّنِ كـ (معادِّل موضوّعي) للرِّق، الذِّي التهمته نّار الحرِّية، إذ تجد عتيقة الإعترّاف الرَّسمي بحرِّيتها، في وثيقةِ النَّسب، التي حملها إليها إبن عمتها ”علي بن شتوَّان“. بعد هذا الحرِّيق بسنواتٍ.
ففي هذِّه اللحظَّة التي احترَّقت فيها عمتها ”صبرِّية“ –التي هي في الحقيقة أمها ”تعويضة“ بدّلالةِ الإسم تعويضاً للأُمِ الصابرّة، ونتوَّغل أكثر لنُحيل أيضاً إسم عتيقة إلىٰ ”العتقِ“، كتعويضٍ عن صبرِ الأم علىٰ الرِّق والحب المجهض– تكتشف ”عتيقة“ إذن، وللمرَّة الأولىٰ أن المرّأة، التي ظنتها طيلة حياتها عمتها، ما هي إلا أُمها البيولوجية نفسها ”فقدت جذّري في الحيَّاةِ، في اللحظةِ التي عرّفت وأنا أفقدها، أنها كانت أُمي طيلة العمر وليست عمتي، ص: ¹⁶⁸“
وهكذا يبدأ السَّرد بنقلنا إلىٰ ماضٍ أبعد.. حيَّاة أُمها ”تعويضة“ وحكايتها مع ”محمد“ إبن سيدّها ”وقفا صامتين، بعد برّهة سحبها بهدوء من يدِّها، فمشت معه إلىٰ آخرِ ما في ذلك المساء. لم يتحدّثا. لا أحد يجد شيئاً يقوله للآخر. كان صمتاً يتنفس ويتبادّل نفسه بينهما، كلاهما يكتشف عالم الآخر الغرّيب المختلف بعينيه، ثم تمتد الأيدِّي لتكتشف أكثر، وتسترسل حتىٰ أصبح الصُّبح، وهي تتوّسد يدّه، وهو يُمسِك بيدِّها الأُخرَّىٰ علىٰ صدرِّه، ص: ¹⁸⁹“
ومن ثم تنمو حَكَّايات التآمر والدسائس، ضد علاقة الخادّمة ”تعويضة“ بسيدِّها ”محمد“، من قِبَلِ عائلته، فيتم تزويجها إلىٰ أحدِ العبيد، وعندما يعلم ”محمد“ يُطلقها منه ويتزّوجها، وتستمِّر المؤامرّات إلىٰ أن يتم بيعها في غيبتهِ، فيفقد أثرّها.
وهكذا ننتقل لنتعرَّف علىٰ عالمٍ من اللَّواطِ والدَّعارَّة، فيما نرّصد التطورَّات في حيَّاةِ ”تعويضة“، التي تشعر بأن حبيبها تخلىٰ عنها، فيما يظّل هو يبحث عنها، إلىٰ أن يجدّها بعد سنواتٍ، فيتجدَّد الحب في أتونِ الصرَّاعِ، بين الغفرَّانِ ونِسيانِ الماضي، والعجز عن التسامحِ.
وفي هذا الأتون المتناقض، تنصهِّر مشاعرّهما من جديدٍ، ثم يُغادِّر ”مُحمّد“ علىٰ أملِ العودَّة، فيما نطفته (عتيقة) تنمو في رَّحم ”تعويضة/ صبرية“، التي تتآكلها نيرَّانِ أنتظار عودّته الوّشيكة، التي لا تتحقق أبداً، إذ يُسرِّع القدّر فيختطفه.
لننتقل بعد ذلك في عدٍّ تصاعدِّي جهة الإستهلال، الذِّي انطلقنا منه، في مبتدأِ الرِّوَّاية ”وقف علي صُحبة عتيقة عند شاطئِ (الصابري)، كانا قد تناولا الغداء معاً في بيتها، وتحدثا حديثاً طويلاً تطرَّق فيه (علي)، إلىٰ حقوقِ عتيقة الشرَّعية، بعد معرِّكةِ إثباتِ نسبها، التي خاضها مع الورَّثة، ص: ³⁴¹“
استرَّدت (عتيقة) كل شئ، إلا شئ واحد: الثمن الذي بِيعت به أُمها ”منذ اللقاءِ الأوَّل بعتيقةٍ، احتفظ علي بـ(التكليلة) في صدارِّه، التي استوّفت بها جدّته مجموعتها الناقصة، حين باعت (تعويضة) للفقي. لم يستطع أن يُعيد لها شيئاً من أُمها، حتىٰ ولا ثمنها يوم أن بِيعت، قائلاً لنفسهِ عند كل مرَّة: لا ليس الآن يا (علي)، رفقاً بوجدانِ (عتيقة) المنهك، أن ذّلك مهما بدىٰ لك اعتذاراً لائقاً، فهو قاسٍ للغَّاية. دعه لوقتٍ آخر، ص: ³⁵⁰“
وهكذا تنتهي الرِوَّاية دون أن تتقوض مؤسسة الرِّق، في نظَّامِ تفكير (علي)، الذِّي يفشل في مقاوَّمةِ عجزِّه عن رَّدِ رَّمز معنَّوي، يينتمِّي لوالدةِ عتيقة في ذُروَّة رِّقها، فوَّعيه الغامض، لا يزال مكبلاً دون الاعترافِ العملي، باحترَّاقِ مؤسسةِ الرِّق ”رَّسميا“ تحت قهر الإحتلال الإيطالي، والطاعون واحتراق زرَّايب العبيد.
حُوَّار النُّصوص:
كما أشرنا مبكراً في مقدِّمةِ حديثنا، في سياقِ ”حوّار النُصُّوص“ حوّل الحَكَّاية في ”زرَّايب العبيد“ والحَكَّاية في رِوَّايةِ ”بذرَّة الخلاص“ لبروفيسور فرانسيس دينق، إذ نلاحظ خلال المسيرَّة المأساوية لـبطلِ رِّوَّاية (بذرَّة الخلاص) ”رزق“ الذي أُسترِّقت أمه عندما كانت حاملاً به، ومن ثم تم عزله عنها بعد ولادته. ما قاد إلىٰ تحكم ذِّكرَّيات الإسترقاق، والعبودية في مسيرَّة حيَّاته، ومن ثم حيَّاة إبنته ”إرادة“ وحفيدّه ”فارس“ من بعدِ.
كلتا الرِوَّايتين: ”زرَّايب العبيد“ و”بذرَّة الخلاص“، تنطلقان من فكرَّةِ تجسيد التطورّات، التي تحدث في مفهوم الهُوِّيَّة. ففارس العرّبي/ الإفريقي بطل ”بذرَّة الخلاص“، يتحرك علىٰ أحداثيات النَّص، تبعاً لقوانينِ التفسخ الذي أنتجه من ذِّكرّياتِ أمه، وذِّكرّيات حيَّاته وحيَّاة إبنته، بكلِ ما اعترّيٰ العالم حولهم جميعاً، من تفسخٍ إنساني، تمظهر في الترّدي إلىٰ درجةِ الإبعاد والاقسار والانتهاك.
وهو الشئ نفسه الذِّي واجهته (عتيقة) ومن قبلٍ (تعويضة). فالرِوَّايتين تشتغلان في إبرازِ وجهتي النّظر المتعارّضتين حوّل قضيةِ الرِّق. ودّلالة اللَّون ”الأسود“ في النظّامِ الدّلالي العرّبي. بما يُحيل إليه اللَّون الأبيض إلىٰ الإنسان ”الحُر، الخيِّر، الجميل“، وما يُحيل إليه اللَّون الأسود ”العبد، الشرير، القبيح“.
وإذ تنهض ”بذرَّة الخلاص“ على أكتافِ الأحدّاث البارّزة، التى مرّ بها السودان، منذ الاحتلال الترّكي ١٨٢١ حتى انتفاضة أبريل ١٩٨٥ في معالجاتها لملابساتِ التارّيخ، تنهض ”زرَّايب العبيد“ رِوَّاية نجوّى بن شتوان، علىٰ أنقاض تارِّيخ ليبيا العثمانية، الذي تهدّم تحت سنابكِ خيلِ الإحتلال الايطالي.
فالمكانين عانيا من المحتلِ نفسه (الأتراك) الذي مارس السلوك نفسه (الاسترقاق). والبُنية الحَكَّائية في كلتا الرِوَّايتين تنهض من موقع إجتماعي في العاطفي، كمحظورٍ باكرّاهاتِ الرِّق، واسقاطاتِ النظّام الدّلالي العرّبي، الذِّي تسرّب من أو إلى ثقافةِ العثمانيين، أو ورّثاه معاً من أنظمةٍ دّلالية لثقافاتٍ بائدة. كنظام يُفضل اللَّون الأبيض.
إذ تتمظهّر ملابسات هذا الموقع الاجتمّاعي، علىٰ المواقعِ الأخرّىٰ، التي تمثلها البُنّىٰ الحَكَّائية الأُخرّىٰ.. سواءً في ملابساتِ العلاقة بين تعويضة وسيدّها ”محمد“، أو زواج العبد ”رزق“ من حبيبتهِ العرّبية الحُرّة ”آمنة“ كما في ”بذرَّة الخلاص“.
ومثلما رُّفضت ”إرّادة“ حفيدّة ”رزق“ من المجتمعِ الذي عاشت فيه، تعيش ”عتيقة“ أيضاً حالة انبتات لوقتٍ طويل، قبل أن تعرّف شجرّة نسبها. لتصبح هذه الوثيقة قضية مطلوبة لإحدّاث الانسجام بين الموقعين المتعارضين: (موقع العبودية)/ (موقع الحُرِّية).
فالنَّص يقترِّح مجرَّد ورّقة.. ورَّقة إثبات نسب، تكفي لتغييّر الوضع الوجودي للإنسانِ، وهي فكرّة بسيطة جداً لمعنى (الحُرِّية)، التي لا يحصل عليها الإنسان بصكٍ رّسمي يحدد سلالته أو خريطته الجينية.
فمعركة الإنسان في سبيل الحُرِّية، هي رِّحلة معقدّة من التوترِ الفكرّي والقلق الميتافيزيقي، وأسئلةِ الهُوّية، والمعاناة في استردادِ الذّاكرّة والذّات.
وكما لاحظنا في مبتدأِ هذه القراءة، أن الاستهلال أُفتُتح في اللحظة الرّاهنة (الحاضر) بمشهدِ زيارّة الرّجل الأبيض الغرّيب، لعتيقةٍ، والذِّي سيطلعها علىٰ إسمه (علي) وأنه إبن عمتها، وقد جاء للتكفيرِ عن ذنبِ عائلته، برّد حقوقها إليها، وأول هذّه الحقوق نسبها.
ثم انتقلنا من الاستهلالِ (الحاضر) إلى الماضي، حيث طفولة عتيقة في الزرّايب، لننتقل بعدها إلىٰ ماضي أبعد، حيث تتكشّف سيرّة حيّاة أمها قبل ولادتها، لتعود بنا إلىٰ الحاضر.. إلىٰ الحظّة التي انطلقنا منها في الاستهلال.
المكان الذّي جرّت فيه الأحدّاث الرّئيسية –باستثناءِ الأماكن المستضافة العابرّة– بصورّة عامة، تمثله بنغازّي، وما حولها من بيوتِ الصفيح المتناثرّة، التي يسكِّنها العبيد والمسمّاة زرّايب العبيد.
ثمّة ملاحظة حوّل الرّاوي، إذ يراوح بين الغيابِ والحضور في الإمساك بمقودِ السّرد، وهو أحياناً عليم مطلع على دقائقِ العلائق التي تربط بين الشخصيات، والقوانين التي تحكم وتصوغ أفعالها وردود أفعالها. وهو أحيانا مجرد شخصية بين كلِ هذه الشخصيات التي تعج بها الرِوَّاية.
وظفت الرِوَّاية في إضاءتِها لزوايا قضيتها المطلوبة (العبودية) تقنيات حدّيثة كالانتقالِ من الحاضرِ إلىٰ الماضي، فالماضي الأبعد والعودّة إلىٰ الحاضر مرّة أُخرّىٰ، وفي الحقيقة أن ”التطورّات التي حصلت في الأنتربولوجيا والتارِّيخ، قد أظهرّت الحضور غير القابل للطّمس للتصورّات الكبرىٰ عن العالم، وللتمثّلات الرّمزية الخاصة بثقافةٍ أو بجماعةٍ تارِّيخية معينة في صياغةِ نمط وجودها الإجتمَّاعي“ [¹⁰]
كذلك ثمّة توظيف لبعض الرّمزيات النقدية، كرّمزية الغرّيب: الوافد، فهي –هذه الفكرّة– شهيرّة في الترّاثِ الإبدّاعي الإنساني، ونجد أن مدّياتها قد توسعت في السّرديات العرّبية، لارتباطها باثواءاتٍ وجدّانية عميقة.. فهي صنو المنقذ ”المنتظر“ أو المخلص الذي حملت إسمه في رِّوَّاية فرانسيس دينق ”بذرّة الخلاص“.
ذلك المنتظر الذي يرُّد الحقوق، ويملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جورا!.. وهو ما يمثله هنا في رِّوَّاية زرّايب العبيد (علي) بن عمة (عتيقة)، ولكن ليس من موقعِ الغرّيب، بل من موقعِ القرّيب!
هوامش:
[¹] نجوىٰ بن شتوان، زرّايب العبيد، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولىٰ ٢٠١٦
[²] فرانسيس دينق، بذرّة الخلاص، ترجمة اسماعيل حسن، مركز الدرّاسات السودانية، القاهرّة، ١٩٩٦، تناولنا هذه الرِّوَّاية بقراءةٍ ضافية في كتابنا ”رحلة السرد السوداني من الغابة والصحراء الى غضبة الهبباي“ دار رفيقي جوبا، ٢٠٢٠.
[³] سعيد يقطين، قضايا الرِّوَّاية العرَّبية الجديدّة ”الوجود والحدود“، الدار العربية للعلوم ناشرون ”منشورّات الاختلاف“، الرّباط، الطبعة الأولىٰ ٢٠١٢، ص: ²⁰⁸
[⁴] بول ريكور، الوجود والزّمان والسّرد، ترجمة وتقديم سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولىٰ ١٩٩٩، ص: ²⁵¹
[⁵] بول ريكور، الزّمان والسّرد ”الحبكة والسّرد التارّيخي“، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، رّاجعه عن الفرنسية دكتور جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولىٰ، ٢٠٠٦، ص: ²⁷⁷
[⁶] أنظر: رِّوَّاية حجاج أدول: ثلاث برتقالات مملوكية: تبدأ الحَكَّاية في مكانٍ انتقالي غرِّيب (المكان الأول، بلد البحيرَّة المثلجة) تتأسس بُنيتها المركزِّية، كدرَّجٍ يُفضي إلىٰ عتبةِ المكانِ الثاني (القاهرّة المملوكية). ولاتلبث أن تنتقل اللُغَّة من هذا ”المستوىٰ اللُغَّوِي المعاصّر“ إلىٰ مستوىً آخر (تُرَّاثي)، ومن ثم ترَّاوح لُغَّة السَّرد بين هذينِ المستويين المعاصّر والترّاثي.
لا شك أن حجاج أدول تمكَّن باقتدارٍ من توظيفِ اللُغَّة، في تشخيصٍ بدِّيع للفضاءِ التارِّيخي الوّاقعي والتخيِّيلي، بما ينطوِّي عليه من مقاديرٍ فادحة، من الألمٍ والعوَّز والعذَّاب، الذِّي ينضح في هذه الفضاءتِ، التي تشكَّلَّت داخلِ أمكنَّة وأزّمنة، احتقنَّت بالاستبدادِ والتآمرِ، والعنفِ الجِنسي، راجع قراءتنا حولها ضمن دراستنا في أسئلة الرِّوَّاية العربية الجديدّة.
[⁷] أنظر: رواية محمد المنسي قنديل: كتيبة سوداء، دار الشروق القاهرة، ٢٠١٥: فهي كغيرها من رِّوَّايات تسرِّيد العُبودية، تشترِِّك معها في السمّات العامة.
تتناول الرِّوَّاية وقائعاً وأحداثاً تعود إلى عهد إبراهيم باشا. فالباشا محمد علي لبناء مصر الحدّيثة، كان بحاجة للذّهب ولجيشٍ قوِّي، ولذلك قام بغزو السودان واحتلاله، ونهب موارده واسترقاق الرجال ليكونوا نُوَّاة لهذا الجيش.
فنجد تاجر العبيد يقايض الرّجال المسترّقين بالبنادق، ليصبح هؤلاء نُوّاة جيش الجهادية –جيش الخدّيوي– الذّي يخوض بهم حروبه المستحيلة.
وتتكشّف حيّاة هؤلاء الرّجال السودانيين المسترّقين، عن الكثيرِ من القصصِ والحكايا، التي تشترِّك فيها رِّوَّايات العبودّية.
[⁸] أنظر: سميحة خريس، فستق عبيد، الآن ناشرون وموزعون، الأردن، الطبعة الثانية، ٢٠١٨: تنهض الحكاية في هذه الرِّوَّاية، على عاتقِ جدّلية العلاقةِ بين اللَّون (الأبيض: (المحتل) /الأسود (السودانيين) كفضاءٍ عام يتم فيه تسرِّيد حكاية الجد ”كامونقة“ مع العبودية في طفولته، عندما سيق عبدًا لتاجر سمسم. وهكذا نجد أنفسنا في ذات العوالم المشترّكة، بين كل رِّوَّايات تسرِّيد العبودّية بلا استثناء.
[⁹] بول ريكور، الزّمان والسّرد ”التصوير في السّرد القصّصي“، ترجمة فلاح رحيم، مرّاجعة عن الفرنسية جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدّة، ييروت، لبنان، الطبعة الأولىٰ، ٢٠٠٦، ص: ²⁸
[¹⁰] حسن بن حسن، النظرّية التأويلية عند ريكور، دار تينمل للطباعة والنشر، مراكش، الطبعة الأولىٰ، ١٩٩٢، ص: ⁵⁰/⁵¹