(1)
كانت رقبة عبد الفتاح البواب مائلة ناحية اليسار، مسنودة على الحائط الرطب و هو نصف مستلق على السرير البارد، نصف مُغطىّ بالبطانية الكالحة، كانت رأسه متجهة ناحية الحائط الذي يصنع شبه مكان تحت السلم. غطًّ في نوم عميق دون أن يُسمع له نفس، لم تكن له عادة الشخير، كان وجهه نوبياً منشرح الملامح بسيط القسمات. كان عبد الفتاح بوابا بمعنى الكلمة، ولم يكن من رجال الأمن الـ Security ، كما في البنايات المتشابهة الممتدة التي تديرها شركات يمكن أن تكون أجنبية، كان بواباً بحق و حقيق لعمارة سكانها شاخوا و مات أكثرهم و هو نائم، دائماً ما كانوا يموتون في نوبتجيته خلال ساعات نومه قبل انبلاج الفجر. كان بواباً لباب حديد متين يغلقه قفل كهربائي أتوماتيكي يتحكم فيه السكان من كل الشقق بأزرار، غير أن اليد تفتحه من الداخل و لا تغلقه أبداً . فيدخل من يدخل. ويموت من يموت، و يخرج من يخرج، على قدميه أو محمولاً على خشبة. كان سكان العمارة وروادها يعرفون عبد الفتاح و يحبونه، مهما كذب ومهما حاول إقناعهم بأنه يقظ ، فها هو جالس بجانب الأسانسير، و ها هو يراقب الباب، على الرغم من أن عينيه كانتا مدفونتين فى مقلتيهما، أوحى إلى الجميع بأنه صاحي، والله صاحي، وأيضاً يراقب كل الأشياء .
(2)
دخل عبد الستار أفندي الموظف في الجمارك بطوله وعرضه، شاربه المحفوف و جبينه العريض، نحلت أكتافه وقلت حركته منذ أن أصيب بالسكر و الضغط ، فتح باب المصعد و أغلقه، وعبد الفتاح البواب نائم، ثم حَطًّ في الدور الخامس، تقدم حتى وصل إلى شقة أبيه، فتحت له أمه و هي مكدودة، تلم شعرها بمنديل اتسخ من الهمّ، أحتضتنته و قبلته، أحست به ثقيل الصدر متثاقل الخطوة، خاوي النفس و خال من التعبير، غير أنه في تقدمه إلى الصالة، انفرجت بعض أساريره عند لقاء أبيه الحاج، لكنها كانت انفراجة مزيفة مصطنعة مفبركة تشبه ما بعد عمليات التجميل. كان الحاج يجلس على الكنبة الممتدة يرتدى جلابية مخططة و طاقية من نفس القماش مخططة أيضاً، وكانت له نفس الابتسامة المجهدة المزيفة المصطنعة الخارجة من كَدَ و كمد عظيمين. انحنى عبد الستار أفندي على يد أبيه و قبلها. أغرورقت عينا الأب، مال إلى الأمام قليلاً ثم تنهد قليلاً ، تابع بعينين زائغتين التليفزيون وهو يبث برنامجاً سخيفاً تحاور فيه المذيعة الممتلئة المطرب الشعبي وهو يرتدى بذلة و حذاء من نفس لون طقم الصالون (هكذا قال المطرب). نظر الحاج إلى جلابيته و طاقيته، ندَت عنه ضحكة خفيفة تمتلئ بالألم و العجب والدهشة، كان ابنه بجواره يجلس على طرف الكنبة احتراماً و اقتراباً من أبيه المنهك.
قال عبد الستار أفندي لأبيه :
ـ ضروري يابا تلبس عشان نروح للدكتور.
كان يخفى عليه أنهما سيذهبان إلى المستشفى، لم تكن لدى الحاج أي قوة لارتداء الملابس الإفرنجية، ولم تكن لدى عبد الستار أي نية للضغط عليه. استند كل منهما على الآخر، على الرغم من أن صحة الإبن كانت أفضل، الاَ أن خطوات الإبن و والده و ظلهَما على الأرض صَعٌب التفريق بينهما، كل منهما كان محفوراً في الزمن، تتآكل منه الأطراف والحواف، نعم تتآكل إلى حَدَ بعيد.
(3)
نزلا من التاكسي، عكزَ كل منهما على الآخر. على باب المستشفى جلسَ رجل يشبه عم عبد الفتاح البواب، لكنه كان داخل صندوق زجاجي. جلس منتصباً على كرسي مرتفع وكان يبدو وكأنه يراقب المكان، بدت عيناه زجاجيتان، شعره مصفوفُ بعناية إلى الخلف، وكانت حواف المشط تترك مجاريها بوضوح على فروة رأسه، بدا شبيهاً بمارلون براندو. اقترب عبد الستار من الرجل، كان هو المنوط بالأمن لكنه لم يكن برجل الأمن. كان موظفا مثل باقي الموظفين بالثقافة والفنون والطب، مثل الدعاة ورجال الكنيسة و الأوقاف والجمارك. سأله عن الطريق إلى الجرَاح، فلم يرد. كان نائماً مفتوح العينين كالتمثال، هَزًه عبد الستار هزة خفيفة؛ فانتفض وزعق وقال في صوت عال أشبه بعسكري الدرك أيام زمان:
ـ هااااااااااااااه .. أيوه .. مين هناك.. مين إنت وعايز إيه !!
ضحك عبد الستار ضحكه حقيقية من قلبه ، وسأل الرجل الزجاجي :
ـ تعرف مارلون براندو؟!
اخرج الرجل مشطه العتيق، أعاد تسريح شعره للمرة الألف، مصمص شفتيه ثم قال:
ـ لأ... هو مين مارلون براندو ده!! خواجة من اللى كتروا فى مصر جاى يعالجنا!!
ضحك عبد الستار مرة أخرى، ظلً ممسكاً بيد أبيه، كانت ضحكته شفافه بريئة، كالطفل الذي يكركر فى أغنية محمد فوزي (ماما زمانها جاية .. جاية بعد شوية .. جايبة لعب وحاجات .. هق هق هق هـــااااااااااااااق).. قال عبد الستار للرجل:
ـ مارلون براندو ده ممثل أمريكاني عبقري، رفض ياخد الأوسكار احتجاجاً على اضطهاد الأمريكان للهنود الحمر.
أخرج الرجل مشطه مرة أخرى، مشط شعره وشاربه ثم صاح في عبد الستار:
ـ إنت عايز إيه يا أفندي إنت؟!
سأله عبد الستار عن الدكتور؛ فدَله؛ فسحب والده معه وخلفه حتى وصلا إلى نهاية الممر الموحش ذا الاضاءة الثلجية الباردة.
( 4)
بعد الفحص وَجًه الجراح الطويل النحيل الكلمات الرصاصية إلى عبد الستار، وجههًا إلى قلبه في سرعة البرق :
ـ أبوك عنده غرغرينا و رجله لازم تتقطع من تحت الركبة. اتفضل بَرًه فهمه واكتب الإقرار يالله.
انحنى عبد الستار بعينين مغرورقتين بالدمع، شرح لأبيه المسألة. لم يهتم الرجل.(مافرقتش معاه خالص)، صمت قليلا ثم قال (إقطع .. إقطع يا بنى).
وقف عبد الستار خارج غرفة العمليات، وفجأة خرج الجراح الطويل النحيل، وعلى وجهه كمامة، يداه داخل قفاز الجراحة المشدود، تغطى قامته ملابس غرفة العمليات الخضراء، صاح:
ـ إنت يا أفندى تعال هنا .. اسمع . احنا مسلمين . ِرجْل أبوك أهيه .. لازم تندفن. خدها وروح الصحة.
كانت الممرضة قد لفتها فى شاش أبيض، نشع عليه الدم في بقع تشبه رسومات الورد البلدي الأحمر على ملايات العرايس في الفلاحين، ناولتها لعبد الستار في يده. وضعها في شنطة (هاندباج) وهو ممتلئاً بالهلع والخوف، كانت دموعه تسح إلى داخله، تسقيه رُطبا جنياً، وكأنه مليون شعور يدخلون في بعضهم البعض، مضى في طرقات المستشفى لا يجد من يستند عليه. كان يتوقف للحظات ثم يسير. تخيل مرة أنه يحمل آثاراً مسروقة. ومرة أخرى نذور السيد البدوي. ومرات وكأنه يحمل دنياه وآخرته، حياته وحماته، همومه وأحزانه، أو كأنه يحمل أوراق الجمارك كلها، وجوه المسافرين و أختام الدولة : النسر و الخالص و الذى بلا معنى.
كان في كل اللحظات على يقين أنه يحمل رجل أبيه. سمع خطوتها وهى تطلع السلالم، سمعها وهى تركل الباب. وسمعها وهى تخطو حاملة البطيخة والعيش السخن. سمع الِرجْل تتكلم من داخل الشنطة. كان لها دَِوىَ. صُراخ. أنين. كانت تصدح أحيانا وكأنها سيد درويش، وأحياناً تئن و كأنها فريد الأطرش، كانت ثقيلة ثقيلة للغاية لدرجة أن عبد الستار اضطر إلى أن يجلس على الأرض، وأن يتمهل. خرج من الباب الرئيسي، استوقفه الرجل الشبيه بمارلون براندو من داخل الصندوق الزجاجي وسأله:
ـ الشنطة دي فيها إيه ياافندي.
ابتسم عبد الستار ابتسامة الوزراء في البرامج الجديدة، وهم محرجون ومتبججون في بعض أفراد الجمهور المشاغب الذي ما فتئ يستخدم مساحة الحرية إلى آخر جزء فيها. أجاب عبد الستار في تؤدة:
دى رجل أبويا ... يا مارلون براندو.
كان الرجل الزجاجي ذي العينين الزجاجيتين داخل الصندوق الزجاجي، متعوداً على خروج ناس بحقائب فيها أطراف، ومتعوداً على دخول ناس على قدميها والخروج على قدم واحدة. أولا يخرجون إطلاقا. ركب عبد الستار التاكسي، ذهب إلى مكتب الصحة وخلص كل الإجراءات، دفن الرجل وصّلى عليها . كان مشوشاً يتوق إلى الراحة، ذهب إلى بيته في باب الخلق. استقبلته زوجته، كانت حاملاً في ابنه الأول. قبّلهَا على جبينها. بكى في عنف شديد حتى سقط على الأرض. رشّت على وجهه الماء، سقته الماء المحلى بالسكر وساعدته حتى وصل إلى غرفة النوم ثم ارتمى على الفراش، رقد على ظهره يتأمل سقف الغرفة ولم يتوقف عن النشيج .
(5)
استأذن عبد الستار زوجته فوزية في أن يبيع بعض تجهيزات شقتهما. احتضنته وقالت :
ـ أنت ابني وأبويا، وأبوك أبويا وضنايا يا عبد الستار، إنت بتتكلم فى إيه؟!
اشترى عبد الستار لوالده أرقى طرف صناعي في مصر كلها، خرج معه من البيت الكبير إلى بيته الصغير ليستقبلا ولي العهد. كان صوت الطرف الصناعي الغالي الأنيق غريباً بعض الشيء. لم يكن نشازأ لكنه مدبباً. صوته عميق القرار وكأنه يحاول التعرف على أعلى الساق، على الِرجْل وعلى البلاط ، و على جوَ البيت الرطب، لكن حتماً كان والد عبد الستار أكثر إشرقاً وأفضل حالاً، ربما لأنه ينتظر أول أحفاده، وليس لأنه قد استبدل الغرغرينا بالخشب والحديد.
ما أن وصلا إلى البيت الصغير، حتى كانت دقات الساق الصناعية تتزاوج مع دقات عبد الستار على الباب. فتحت أخت فوزية الباب. زغردت. خرجت الست الحكيمة بولي العهد ووضعته بين عبدالستار وأبيه، حملاه معاً وكأنما يلتصقان به، يتحدان ويتوحدان به، مع حياته المقبلة التي ـ ربما من باب التمني فقط تكون مختلفة ـ يعني لا أحسن ولا أوحش. مختلفة فقط . بكى القادم الجديد بشدة، صرخ حتى احمر وجهه وصار مثل الكبدة. هدهدته أمه وراح كل واحد إلى حال سبيله.
(6)
تمشت الحاجة في الصالة الكابية الضوء، تروح وتجيئ في عصبية محسوبة، في الخلفية كان التليفزيون شغالاً، من باب الوَنسَ فقط لا غير، اختلطت في تجاويف أذنيها أصوات مشوشة لمذيع وممثل، أتى الصوت اللزج ضاحكاً في ميوعة، كلماته مشوشة قليلاً (قُلتلى بصراحة انت بتحب الستات، ما تخافش مراتك مش بتتفرج علينا)، تلتها ضحكة رجالي رفيعة يعقبها الصوت أخنف (آه .. ظبطتنى، أنا بموت في الستات....!!)،تلي ذلك قهقهة ممتزجة بضحكة ماجنة... ثم الإعلان.
في الغرفة الداخلية كان الضوء أكثر اصفراراً، جلس عبد الستار بجوار والده بالعرض على حافة السرير في مواجهة التليفزيون، الذي كان يذيع مباراة حاسمة لكرة القدم، كانت كتف الوالد بمحاذاة كتف الإبن، صاح الحاج في ابنه بلهفة طفل عصبي (شايف، شايف الكورة فين؟!، آآآآخ لو حَدَ موجود فى المكان ده. كان أكيد جاب جون). كان الحاج كامل الوعي، يقظاً وضحوكاً، نزل على ظهره على السرير في جزء من الثانية، وفي لحظة خاطفة، مات.....نعم مات ... توفى، دون احتضار، دون حشرجة ودون أعراض أو مقدمات. انتهت المبارة وظل التليفزيون يذيع خطابا لشيخ منفعل يتحدث عن الهواء الذي يمكن أن يطير العباية والبنطلون،أنهى القول بأن (ده مش حجاب)، استمر التليفزيون في إرساله، كان حديثاً مملاً كالعادة عن(المشروع القومى لكل شيئ) وعن (هيصة الديمقراطية)، اختلطت برامج القنوات التي تذاع على تليفزيوني الصالة وغرفة الحاج، رقدت الجثة مُسجاة على ظهرها، جاء طبيب الصحة، وجاء الأهل والجيران.
لم تنطلق أي صرخات. كان الضوء الأصفر والضوء الكابي يفترشان المكان. نهايات الطرقة، الأبواب الصدئة المفاصل، وقع الإقدام يجتمع و ينفصل، ينفك ويلتئم. خرجت الجثة بعدما غُسلت. كان البكاء لدى النسوة مكتوما، لكن نسى الناس في مُصابهم التليفزيونين مفتوحين يصيحان بالغث والحديث البطيئ، المُمل والمكرر. لم ينفعل عبد الستار، ربما تجمدًت دموعه في قلبه، ربما كتمها في حشاياه، وربما كان مشغولاً بالتفكير.. صلّى على جثة أبيه مع الناس. دفنها مع الساق في نفس المكان ثم وقف في قلب المقابر... يصرخ ....
(7)
مالت رقبة عبد الفتاح البواب أكثر ناحية اليسار، استندت أكثر على الحائط الذي صار أكثر برودة، غـَطـً الناس في نوم عميق للغاية حتى أذّن المؤذن لصلاة العصر.
خرجت خشبات تحمل موتى إلى القبور المترامية الأطراف ...ولم تندّ عنهم صرخة.
خليل فاضل القاهرة ـ 11 مارس 2005