تحية للشعب الفلسطيني وتضامنا معه في هذه الظروف
أعوذُ باللهْ ماذا يحصلُ للناسِ حتى يتغيروا بين ليلةٍ وضُحاها أو بين ساعةٍ وساعةْ ، إذْ أنَّ الرجلَ صاحبَ البيتِ كان سهرانْ عندَ كايدَ الفِلَسطيني وشَرِبَ الشايَ حتىانتفخَ رغمَ أنَّهُ كان منفوخاً وصعدَ إلى كايد وطرقَ البابَ وقالَ له يا أبو يونس أنا ضجران وأحبُّ أن ألعبَ معكَ دقَّ طاوِلة ونتحدثُ في السياسةِ ، فأدخله كايد بعد أن أخذ له الطريق فجلسا متقابلين وفتحا الطاولة فوجدا أنَّ أحد الزهرين كان ضائعاً فزحفا تحت الكراسي وطاولة التلفزيون بحثاً عنه إلا أنهما لم يجدا شيئاً ، إلا أنَّ صاحب البيت قعد غاضباً ولم يرحل ولم يتحدث في السياسة وكل ما كان يفعله هو أن يقرقر ببطنه حتى قرف كايد الفلسطيني فوق قرفه الأصلي فنصحه بشرب الشاي فقال له صاحب البيت واللهِ فكرة ، اذهب واصنع لنا إبريقاً لنشرب ونرتاح ، فصنع له كايد ما يريد ثمَّ قعد الرجل يملأ قدحه كلما فرغ حتى راح يتجشأ فأصاب القرف كايداً من جديد وقال ارتحنا من جوفه فوصلنا إلى سفله حتى أتى على آخر نقطة في الابريق عندها نهض واعتذر أنَّ عليه أن يرحلَ رغمَ أنهما لم يتحدثا بعد إلا أنَّه طمأنَّ كايد أنَّه سيعود في الغد لهذه الغاية ، وعندما عاد في اليوم الثاني وطرق الباب وفتح له كايد ، وجدهُ محمرّ الوجه وشارباه يرتجفان ، فقال له خيراً إن شاءَ الله فقال صاحب البيت خيراً واللهِ العظيم ولكن يا أخ عليكَ أن تسلمني البيتَ غداً لأنني في حاجةٍ إليهِ ، فسأل كايد ماذا حصلَ كي يطردَهُ من البيتِ ألا يكفي أنَّهم أخذوا بيته وأرضهُ وطردوهُ من بلدهِ وعاش في خيمةٍ ثمَّ اضطرَّ إلى استئجارِ البيوتِ واحداً بعدَ الآخر وما زالَ يطرَدُ من كلِّ بيتٍ يسكُنُهُ حتى اليوم . إلا أنَّ الرجل كشَّرَ في وجههِ وأنذرَهُ أنَّهُ سيبلِّغ البوليسَ إنْ لم يسلمْهُ البيتَ فارغاً في صباحِ اليومِ الثاني ، فأذعنَ كايد إلا أنَّ امرأتهُ لم تُذعِنْ بسهولة فقعدتْ تبكي وتصفعُ نفسها وتدقُّ على صدرها وهكذا فعلَ الأولادُ الثمانيةُ الذينَ أمضى أبوهم عشرةَ أعوام يعمل بجد معَ أمهم حتى جاءَ بهم إلى هذه الدنيا التي لاتساوي عندهُ قشرةَ بصلة ، إلا أنَّ كايد يعرف دواء امرأته فحلفَ عليها بالطلاق ثلاثاً إن هي لم تمسح دموعها وتكفَّ عن البكاء مع أولادها الثمانية فاصفرَّ لونها وما هي حتى ساعة حتى كانت قد جمعت أخفَّ الاشياء وحزمتها في بقج وصُرَرٍ أما زوجُها فقد حملَ الكراسي الستة والتلفزيون والطربيزات والسرير وباقي الاشياء الثقيلة ووضعها على رصيف البناية وقد أمرَ أحد أولاده بحراستها ريثما ينتهي من جمعها ومن ثمَّ استأجرَ عربة وحملها إلى مكان آخر رغمَ أنَّه لم تكن لديهِ أية فكرة عن ذلك المكان ، ولم يسأل نفسهُ أين سيرحلون بها إلا بعدَ أن ملأ الرصيف بأشيائه تلك فأصابهُ إحباطٌ كبيرٌ وخوفٌ من حملِها إلى هنا وهناك فقعدَ على الرصيف بجانب التلفزيون وجمعَ رأسهُ بينَ يديهِ مفكراً ساعةً كاملةً ولكنَّهُ لم يجد حلاً مناسباً فراح يشتمُ ويبصقُ ويضربُ نفسَهُ مثل زوجتِهِ التي حَلَفَ عليها بالطلاق للسبب ذاتِهِ فشاهدهُ أولادُ الحلالِ فركضوا وخلَّصوا نفسَهُ من نفسِهِ وقالوا له اتقِ الله يا أخ إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقاً فهزَّ رأسَهُ وقد هدأ ظاهراً إلا أنَّهُ بقي متفجِّراًفي داخله وعندما رحلوا صعدَ إلى البيت والتقطَ صفيحة الكاز ثمَّ نزلَ وصبَّها على التلفزيون والفرش والسرير والكراسي والطرابيزات ثمَّ أشعلها وقعدَ يتفرَّج على النيران وهي تلتهمها وتحولها إلى رماد . عندها شعرَ كايد براحةٍ كبيرة في نفسه حتى أنَّهُ ابتسم حتى قالوا أنَّهُ جُنَّ ، وعندما وصلت سيارة الاطفاء كانت النيران قد خمدت وراحت الاشياء تعسُّ دخاناً وَحَسب وعندما سألَ شرطيٌّ عن سبب الحريق رأفَ أولادُ الحلالِ بكايد الفلسطيني وقالوا للشرطي أنَّهُ قضاءٌ وقدرٌ ، وما إن رحلَ الشرطي ونَزلَت أم يونس وأولادُها الثمانية حاملينَ البُقَجَ والصُرَرَ وبعضَ الاطعِمَةِ ووجوهُهُمْ محمرَّةُ وعيونُهُمْ منتفِخةٌ حتى سألَ أولاد الحلال كايد ، لماذا يا أخونا أحرقتَ عفشك وإلى أين أنت راحلٌ وما هيَ وجهتُكَ ولماذا لا تبقى معنا وكثيراً من هذه الأسئلة التي لم يعد لها طعمة عند كايد الفلسطيني ، فخرجَ مرة واحدة عن صمته وغيظه وقالَ لأولاد الحلال بصوتٍ نصفهُ صمتٌ ونصفهُ غيظ إننا عائدون فاستغربَ الناس مقولته هذه وحكُّوا رؤوسهم وحسبوا أنَّهم لم يفهموا ما قاله بالتحديد إلا أنَّ كايد الفلسطيني ، وأمام مارآه من خبل الناس أعاد عليهم ماقاله مرةً ثانيةً ولكن بصوتٍ أكثر جهارة إننا عائدون فأصابهم العجب أيضاً وقبلَ أن يجنوا وحفاظاً على عقولِهم من الضياعِ ابتسموا مرَّةً واحدةً وهَمَسُوا لبعضهم أنَّ كايد الفلسطيني قد جنَّ وفقدَ عَقْلَهُ وصفقوا يداً بيد وقالوا بصوتٍ واحد كأنَّهُم جوقةٌ في مسرح : حسبنا الله ونعمَ الوكيل ، وعندما أفاقوا إلى أنفسهم وجدوا كايداً قد سارَ في المقدمة تتبعه امرأتُهُ ومن ثمَّ أولادُهُ الثمانية حسب ترتيب الأكبر فالأصغر وما هي إلا لحظاتٍ حتى غابوا عن عيونهم ، عندها رفعَ الجميعُ أياديَهُمْ إلى السماء وعادت الجوقة لتقول بصوت واحد : ربنا احفظ كايد الفلسطيني وعياله وسهِّل له عودَتَهُ .. آمين .
ساروا طوال النهار ثمَّ ارتاحوا قليلاً في الليل ثمَّ نهضوا وحزموا صررهم إلى ظهورهم وانطلقوا من جديد على أضواء المشاعل التي كانوا يحملونها غير عارفين كم ساروا بل كانوا يعرفون إلى أين يسيرون ، كانت أرض تشيلهم وأرض تحطهم حتى وصلوا إلى ضفة نهر عظيم لاتُرى ضفتهُ الأخرى لاتِّساعِهِ فانزلوا أحمالهم واغتسلوا ثمَّ قعدوا يحاولون اصطياد السمك وبعدَ ساعاتٍ طوالٍ لم يحصلوا إلا على عدة سمكاتٍ صغارٍ بطول الاصبع لا تسد جوع طفل فبصقوا على النهر الذي لا تتناسب عظمته مع حجم أسماكِهِ ثمَّ وقَفَ الذكورُ منهم صفاً واحداً وبالوا فيه ، وبينما هم هكذا وإذ بهم يسمعون زعيقاً عالياً يصمُّ الآذان ويجمِّدُ الأوصال فهرعوا راكضين مبتعدين عن النهر غير عارفين بما يجري ومن زعقَ تلك الزعقة فاختبأ الجميع خلف صخرةٍ كبيرةٍ وراحوا ينظرون إلى النهر الذي انشقَّت صفحتهُ عن حيوان عملاق بثلاثة رؤوس وله ذنب طويل وغليظ يضرب به الماء ليصنع به أمواجاً عالية ، ثمَّ راحَ الحيوانُ الذي اسمه التنين يقترب من الصخرة التي اختبأ خلفها كايد الفلسطيني وامرأته وأولاده الثمانية وهم يرتجفون بعد أن بالوا مرةً ثانيةً في سراويلهم ، مغمضين أعينهم ينتظرونَ الموتَ الأكيدَ الذي كَتَبَهُ الله لهم على أيدي هذا الحيوانِ الغليظ ذي الرؤوس الثلاثة ، إلا أنَّ كايداً خجل من نفسه ففتحَ عينيه ليجد أحد رؤوس التنين يرنوا إليهم من الأعلى وكانت العين الحمراء للوحشِ قريبةً جداً من الصخرة فشعرَ كايد أنَّ عليهِ أن يفعل أيَّ شيءٍ ولو كان بلا طعمةٍ أمام جبروتِ الوحش فالتقطَ حجراً وصرخَ صرخةً عظيمةً ارتعدَ لها أهله ففتحوا عيونهم هذه المرة ليجدوا كايد يقذف الحجر نحو الرأس البشع ، فأصاب الحجر العين الحمراء فاخترقها وكأنَّها مصنوعة من المهلبية ، فجُنَّ جنون التنين وراحَ يصدر لهيباً عظيماً من النار ويصرخ بأفواهه الثلاثة صوتاً حسِبَ كايد أنَّ السماء قد انشقت عن غضبِ الله فصاحَ كايد في عياله ليركضوا خلفه للاختباءفي مكان آخر ، وبينما هم كذلك وإذ بالوحش يلتقط بإحدى أيديه الكثيرة ولداً وينشغل به عن الآخرين ، فوضعه على صخرةٍ وراحَ يطلق عليهِ لهيباً نارياً فشواهُ ثمَّ راحَ كلُّ رأسٍ يقضُمُ منهُ قضمةً حتى انتهى بثلاث قضماتٍ ، ثمَّ وضعَ الوحش يداً على عينه المفقوءة وعاد إلى النهر وهو يزأر ويئنُّ ، بينما كانت أم يونس تبكي وتئن لفقدان ابنها وكذلك فعلَ اخوته السبعة حتى نضبت مآقيهم من الدموع ، أما كايد الأب فقد كان حزيناً جداً وقد أصرَّ على عدم البكاء وجلسَ ينتظرانتهاء عزاء امرأته وأولادها وعندما عيل صبرهُ صرخَ فيهم وطلبَ منهم النهوض لاستئناف المسير فاقتربوا من ضفة النهر بحذر شديد والتقطوا الصُرَرَ وعلقوها على ظهورهم وساروا من جديد عدة أيام بمحاذاة النهر مبتعدين عن مكمن الوحش حتى شاهدوا قارباً يقودهُ شيخٌ جليل فناداهُ كايد ، وما إن اقتربَ الشيخُ منهم حتى سألهم هل أنتم الذين فقأتم عين الوحش فقال كايد : أي نعم ، فنزل الشيخ عن قاربه ثمَّ سجد أمام كايد الفلسطيني وهو يبكي ويقبل الأرض التي يدوس عليها فأسرع كايد فالتقط الشيخ وأنهضه ثمَّ مسحَ دموعهُ وطلبَ منهُ أن يحكي لهم حكايته فقال الشيخُ حمداً لله على وصولِكَ أنت وعيالكَ ، فلقد تسلَّطَ على بلدتنا ملِكٌ ظالِمٌ يسرُقُ للناس أموالهم ويقطع رؤوسهم ويستبيحُ نساءهم ويقولُ أنَّ الوحش يحميه ويؤيِّدُهُ في أفعاله كما أنَّه يسوقُ كلَّ يومِ سبتٍ صبيةً عذراءَ من نسائنا ويقدمها هديةً للوحش ليلتهمها ، وقد ذهبنا إلى الحكيم الساحر لنشكوا له أمرنا فقال إننا لن نتخلص من الملك وظلمه إلا عندما نفقأ عيناً للتنين وها أنت قد فعلت ذلك ، ثمَّ خرَّ الشيخ ساجداً من جديد وراح يقبل حذاء كايد الذي خجل واحمرَّ وجهه وسألَ الشيخُ أن يساعدَهُم في اجتياز النهر إلى الضفِّة الأخرى فراح الشيخ يهلِّلُ ويقولُ : غالي والطلب رخيص واستمرَّ في ترداد جملته هذه حتى نقلهم جميعاً إلى الضفة الأخرى ، وعندما همَّ كايد لوداع الشيخِ احتضنهُ هذا وراحَ يدعوَ اللهَ أن يوفِّقَهُ في عودته ثمَّ مدَّ يدهُ إلى كيسه وأخرجَ مصباحاً مذهَّباً وقدَّمه هديَّةً إلى كايد كذكرى لهذا اليوم العظيم الذي اجتمعوا فيه ، فالتقطهُ كايد ثمَّ ودَّعَ الشيخ وانطلقَ من جديد في رحلته تلحَقُهُ امرأتُهُ وأولادُه السبعة .
ظلوا يسيرون هكذا سبعة أيام بلياليها حتى وصلوا إلى جبلٍ عالٍ لا يستطيع أي ابن آدم مشاهدة قمته لعُلُوِّها وكان هذا الجبل هو الجبل الاسود وقد سمي هكذا بسبب لونه المخيف وبسبب المصير الاسود لكلِّ من يحاول تسلُّقَهُ إلا أنَّ كايداً رفض الانصياع لتوسلات زوجته التي راحت تبكي وتذرف الدموع كعادتها طالبةً منه عدم تسلقهِ والاكتفاء بالدوران حولَهُ ، وعندما أصرَّتْ أم يونس على موقفها ذاك نهض كايد وحلف عليها بالطلاق ثلاثاً إن هي استمرت في اللغو والبكاء والتوسُّلِ ، عندها وقفت أم يونس مصفرَّة الوجه من جديد والتقطت صرَّتها وسارت خلف زوجها يتبعها أولادُها وراحوا يصعدون الجبل القاسي شديدَ المنحدرات وبينما كانوا يزحفون على علو شاهق في أحد الممرات التي لايزيدُ عرضُها عن المترِ الواحدِ سمعوا صرخاً غريباً لطيرٍ عجيبٍ ، وعندما تطلَّعَ كايد إلى الأسفل لمعرفة مصدر الصوت لم يستطع أن يتبين القاعَ بل شاهدَ الغيومَ تسير كالقطيعِ في الأسفلِ ، عندها حسبَ أنَّه يتخيَّلُ ما سمعَ ولكن لم تمضِ دقائقٌ حتى عاد الصوت بشكل أقوى ومتواصل فارتعدت أواصلُ أم يونس وأولادها فانكمشوا في أماكنهم يحتضنون الممرَّ الضيق ، وماهي إلا لحظات حتى شاهدوا ظلَّ طيرٍ هائلٍ ذي منقار طويلٍ وجناحينِ لايكسوهما ريشٌ بل غشاءٌ سميكٌ ، وطارَ الطيرُ حولهم يعاينهم وهو يحجب عنهم السماء كلها لضخامته ، ثمَّ حاولَ مهاجمتهم لالتقاطهم بأصابع قدميه الهائلتين إلا أنَّ جدار الجبل الأسود كان يمنعه من ذلك بحيث أنه كان يرتطم فيه دون جدوى ، وظلوا هكذا لساعاتٍ لايعرفون ما يفعلون حتى رأى كايد الفلسطيني أنَّهم إذا زحفوا من جديد فإنهم سيصلون إلى كهفٍ على بعد مائة ذراع فأمرَ زوجته وأولاده بالزحف فانصاعوا دون بكاء أو توسلٍ ، وبينما كانوا يمرون في أضيق مكان زاحفين بسرعة والطير مستمر في مهاجمتهم ويحاول التقاطهم بمنقاره الطويل ، سمع كايد صرخة آتية من الخلف ثمَّ من الأسفل فنظر باتجاه الصوت فوجد اثنين من أولاده يسقطان في الهاوية فصرخ كايد بدوره لايعلم لماذا وهو يرى جسدي ولديه يسقطان ثمَّ يلتحمان بالغيوم ثمَّ رأى إلى الطير كيف هوى إلى الاسفل لاحقاً بالولدين ليلتقطهما ويعود إلى الأعلى ليلتهمهُما ، وأمام هذا المنظر رفض كايد البكاء بل راح يصرخ على امرأته الزاعقة والباكية يأمرها لمتابعة الزحف ولكسب الفرصة حتى وصلوا إلى الكهف فدخلوه ، وما إن أنزلوا صررهم حتى جحظت أعينهم من المفاجأة إذ وجدوا الكهف كله مليء بتماثيل حجرية لرجال ونساء وأطفال في أوضاع الوقوف والجلوس والرقاد فاقتربَ كايد منها وراحَ يعاينها غير عارف سبب وصولها إلى هنا وبينما كان يفعل ذلك وإذ به يسمع صوت أحد أولاده الخمسة الباقين يناديه فهُرِعَ إليه ليجد أنَّ الطير يتسلَّق الجبل بواسطة رجليه قادماً نحو الكهف لالتهامهم فقعدَ كايد محتاراً هذه المرة ماذا يفعل فهو الرجل الوحيد ، وبرقبته زوجة وأولاد ، وعليه أن يتصرَّف بأسرع من البرق ، فهل عليهم أن يخرجوا من الكهف والزحف من جديد أم يمكثوا فيه ويقاوموا الطيرَ وخصوصاً أنَّهُ لايستطيعُ الدخول إلى الكهف ، ولكن تذكَّرَ كايد أنَّ للطير منقارٌ طويلٌ يستطيع به أن يلتقطهم الواحدَ بعدَ الآخر ويلتهمهم فما العمل ؟.
عندها نهضَ وقرر أن يفعل أي شيء ولا يستسلم لهذا الطير الغبيِّ المصر على التهامهم ، فالتقطَ ثمثالاً وأسقطهُ على الأرض وراحَ يدحرجُهُ حتى مدخل الكهفِ ، ثمَّ وعندما حانت اللحظة المناسبة أسقطهُ على الطير الذي حاولَ الابتعاد عن جدار الجبلِ الأسودِ لتفادي التمثال الحجري الساقط من الأعلى إلا أنَّ ذلك لم يسعفه فسقطَ الحجر على صدر الطيرِ ليسقطا بعدَ ذلك في الهاوية وعندما مرَّت دقائق طوال دون أن يعود الطيرُ إلى الصعود عرفَ كايد أنَّهُ تغلَّبَ على هذا الوحش فقعد مُغمَضَ العينين وهو يشعر بنشوة عظيمة ، ولم يعرف كم مضى عليه وهو كذلك حينما شعرَ بامرأتهِ تهزُهُ وقد انعقدَ لسانُها ولا تستطيع الكلام، فحسِبَ أنها عادت من جديد إلى عادتها السيئة في البكاء والنواح وكاد أن يحلف عليها أيضاً قبل أن ينظر إلى نفس المكان الذي كانت تشير إليه في داخل الكهف فرأى إلى التماثيل الحجرية وهي تتحول إلى آدميين حقيقيين فانعقدَ لسانه هو أيضاً بينما كان الرجال والنساء والأطفال يتلمسون بعضهم غير مصدقين أنَّهم عادوا بلحم ودم بعدَ أن كانوا أحجاراً وعندما شاهدوا كايداً الفلسطيني وامرأته وأولاده الخمسة اقتربوا منهم وسألوا كايداً فيما إذا كان فلسطينياً ، فاندهشَ كايد من العجب الذي أصابه بسبب معرفتهم بأصله وفصله فقال لهم نعم فراحوا يسجِدُنَ له ويقبلونَ الأرض تحتَ قدميه وهم يبكون ويقولون له أنَّ الله قد غضبَ عليهم يوماً من الأيام قبل آلاف السنين بسبب صراع الأخوة فيما بينهم فحكم عليهم بأن صيَّرَهُم إلى حجارة وجعلَ عليهم حارساً رهيباً وهو طيرٌ من الوحوش وأنَّ الله أعلمهم أنَّه سيفُكُ أسرهم ويعيدهم إلى ما كانوا عليه من لحم ودم على يد فلسطيني يصعد الجبل الاسود الذي لم يخطر ببال أحد صعوده لصعوبته وللمصير الأسود الذي ينتظر كل من تسوّل له نفسه تسلقه وأنَّ هذا الفلسطيني سيقوم بقتل الطير عندها سيرضى الله عنهم على أن لا يعودوا إلى صراع الأخوة فيما بينهم ، ثمَّ شكروا الله ووعدوه أن لا يعودوا إلى ذلك ثمَّ سألوا كايداً إذا ما كان يريدُ أيَّةَ خدمةٍ فهو منقذهم وسيِّدهم فقال لهم أنَّه في طريق العودة وجلَّ ما يبتغيه هو أسرع طريقة للنزول من هذا الجبل اللعين فصاحوا غالي وطلبٌ رخيص ثمَّ قالوا له هيا بنا فنهض كايد وامرأته وأولاده وساروا خلفهم داخل الكهف حيث كان هناك ممر سري يفضي إلى طريق أسهلٍ وأعرضٍ فساروا فيه ثلاثة أيام حتى وصلوا إلى السهل وهناك توقفوا ليودِّعوا أهل الكهف الذين اقترب واحدٌ منهم من كايد ومدَّ له خاتماً فِصّه من الزمرُّد الأزرق وقدَّمه له هدية ثمَّ قال له ، هذه هديتنا لك فأنت منقذنا ثمَّ عانقه وظلوا واقفين حتى غاب كايد وامرأته وأولاده الخمسة عن أعينهم .
راحت أم يونُس تخبُّ خلفَ زوجها وهي تحمدُ الله أنَّهم قد تخلصوا نهائياً من الجبل ومشاكله ولم تكن لتنسى الترحم على أولادها الثلاثة الآخرين الذين التهمتهم الوحوش بصوتٍ عالٍ فكان يسمعها تفعل ذلك دون أن يتدخل ، فهو يكفيه انها لاتبكي وتنوح وتتوسل ، كعادتها وعادة كل النساء في هذه الدنيا مما جعلَ سيرهم المتواصل في السهلِ سبعة أيامٍ أخرى على أحسن ما يرام ، وعندما وصلوا إلى أطراف غابةٍ عظيمة وممتدة في كل الأطراف قرروا أن يدخلوها دون إبطاءٍ فلم يكن لديهم وقتٌ لإضاعته ، فساروا فيها ثلاثةَ أيام بلياليها ، وهم يصارعون أسراب البعوض والذباب وزنابير الغابات ويخوضونَ في المستنقعات الآسنة ليخوضوا من جديد صراعاً ضد الطحالب الدبقة التي كانت تلتصق بثيابهم وجلودهم وضد الأفاعي والسحالي الضخمة ، وما إن تخلصوا من المستنقعات حتى شقّوا طريقهم من جديد بين الأغصان المتشابكة غيرَ آبهين لكل المفاجآت غير السارة التي كانت تختبئ فيها ، وبينما كانت أم يونس تقول أنَّ الجبل الاسود كانَ رحيماً أكثرَ من هذه الغابة اللعينة، كان كايد يقطع آخر الأغصان ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في ساحةٍ داخل الغابة تحيطُ بها الأشجارُ من كلِّ جانبٍ ولا يُرى فيها سوى الأحجار والأعشاب وقد خلت من أية شجرة فحمدوا الله وقرروا أن يستريحوا فيها ليلةً بعدذلك العناء الكبير والجهد العظيم اللذين بذلوهما في الأيام الثلاثة الماضية ، وهكذا أنزلوا عن ظهورهم صررهم وبقجهم ثمَّ أشعلوا النار وقامت أم يونس بتحضير الطعام وكان بالمناسبو كبة مقلية بالزيت وذلك نزولاً عند طلب زوجها كايد الذي كان يشتهي الكبة في ذلك الوقت ، ثمَّ دخَّنَ كايد سيجارةً وطلبَ من أولاده الاستلقاء من أجل النوم ، وهذا ماكانوا فعلاً راغبين به ، فناموا من فورهم ، عند ذلك وجدَ الفرصة مناسبة فطلبَ من امرأته الاستلقاء إلى جانبه ، فقد كانت نفسه راغبةً بها بعد كلِّ هذا التعب وبعد الكبة والسيجارة ، ثمَّ نام ونامت أم يونس بعد أن ألقت إلى النار ببعض الحطبات لتبقى مشتعلةً حتى الصباح ، وبما أنَّ المرأة هي المرأة دائماً وبما أنَّ أم يونس لا تنتظر انتهاء الأحلام السعيدة لتوقظ زوجها فقد شعرَ بها تهزه لتوقظه وهي تتوسل إليه أن يفتح عينيه فشتمها ثمَّ جلس وكاد أن يقول لها شيئاً غير مبهج عندما شاهدَ أولاده متكومين حوله وهم يرتعدون خوفاً وقد اصفرَّت وجوهُهُمْ فنظرَ إلى حيث كانوا ينظرون فرأى مئات الرجال المتوحشين يحيطون بهم من كلِّ جانب وهم عراة لايستر عوراتهم أيُّ شيء ، فقال أعوذُ باللهِ من هذا الصباح ، فقد شعر بالمصيبةِ وعرفَ بذكائه ، فقد كان فهيماً، أنَّ هؤلاء الرجال المتوحشين هم من أكلة لحوم البشر ، فهم عراةٌ وشعورُهم طويلةٌ ووجوهُهُم حمراءُ منتفخةٌ تعلوها القذارةُ كما أنَّ أنيابهم طويلةٌ وأظافرهم حادةٌ ، فصفق يداً بيد وقال حسبنا الله ونعمَ الوكيل ، فراحت أم يونس تبكي وتتوسل إليه أن يفعل أيّ شيءٍ فهو قاتل الوحوش والتنانين ومخلِّص الناس من الظلم والأسر في التماثيل ، فقال لها اسكتي يا امرأة وإلا حلفتُ عليكِ ، ألا ترين إليهم كيف أنهم يعدون بالمئات وقد علمتني خبرتي أنَّ البني آدم عندما يصبح وحشاً يصير بالنسبة لأخيه البني آدم أشدَّ خطراً وأكثرَ فتكاً وماعلينا سوى الجلوس وانتظار مصيرنا المحتوم ، فسكتت أم يونس وكلها يقين أنَّ زوجها سيجد طريقةً ما للخلاص ، وبينما هم كذلك وإذ بالوحوش من أكلة لحوم البشر الذين يعدون بالمئات يقعدون حيث هم بينما كان آخرون يجمعون الحطب ومن ثمَّ أحضروا حلَّةً هائلةً ووضعوها فوق الحطب وأشعلوا النيران بعد أن ملؤوا الحلَّة بالماء ثمَّ راح آخرون يُحْضِرُونَ كمياتٍ هائلةٍ من الجزر والبطاطا والملفوف والقرنبيط فيلقونها في الحلة فهمست أم يونس إلى زوجها أنهم سيطبخون شوربة الخضار ، ولكنها لاحظت أنَّهم لم يغسلوا الخضار ولم يقشروها قبل القائها في الحلّة ، ثمَّ اقتربَ بعض الوحوش منهم والتقطوا اثنين من الأولاد وحملوهما ثمَّ ألقوا بهما في الحلة التي كان الماء يغلي فيها ، فراحت أم يونس وأبناؤها الثلاثة الباقين يبكون ويصرخون بينما كان كايد يضغط على نفسه لكي لايبكي لأنَّ المرء عليه أن يموت في آخر المطافِ ، وهي ميتةٌ واحدةٌ سواءً كانت في ساحة الوغى أو في حلَّةٍ لأكلة لحوم البشر ، ثمَّ أنَّ لديهِ اعتقاداً راسخاً وهو أنَّ الحياة لاتساوي قشرةَ بصلة ، وما إن مرَّت ساعةٌ حتى كان آكلوا لحمالبشر قد التهموا مافي الحلَّة وشبعوا وقعدوا في أماكنهم ينتظرون ليجوعوا من جديد لكي يأكلوا الباقينَ ، ومن أجل أن يتسلَّى وينسى نحيبَ امرأته أخرجَ كايد الخاتم ذا الفص الأزرق يتأمله ففركه دون أن يدري وإذ برجلٍ قصيرٍ أصلع لا يعرفُ من أين نبق يقفُ أمامهُ ويقول شبيك لبيك عبدك بين ايديك ، فلم يفهم كايد أول الأمر ماذا يحدث ثمَّ عرفَ بحدسه وثقافته أنَّ الخاتم قد يكون خاتم سليمان فقال له أنا بعرضك فقد وقعنا في ورطة وسنروح أكلة شوربة هل تستطيع أن تخلصنا من هؤلاء الوحوش؟ فتطلَّعَ القزم إلى أكلة لحوم البشر مندهشاً ثمَّ راحَ شيئاً فشيئاً يصْفرُّ ثمَّ بال في سرواله وراحَ يتمتم أنَّ هذا الأمر ليس من اختصاصه ثمَّ ركع أمام كايد طالباً منه أن يصفِّقَ لكي يختفي وإلا أكلوه هو أيضاً ، ومن أجل ذلك لم يصفِّق كايد وتمنى أن يأخذوه ليأكلوه، وقد رأى كايد أنَّه خدع وأنَّ على الخاتم أن يحضرَ عملاقاً عظيماً يستطيع طردَ هؤلاء الوحوش وليس قزماً رعديداً مثلَ هذا ، ولم يُخب أمله فقد هرع المتوحشون ليلتقطوا القزم ثمَّ ليعلّقوهُ على سيخٍ من حديد ثمَّ قاموا بشيِّهِ و أكله ولم ينسوا أن يفصفصوا عظامه فقد كان شهياً على مايبدو ، عندها خطرَ في باله أن يفركَ المصباح الذي أعطاهُ إياهُ الشيخُ الجليلُ فبحثَ عنهُ في صرر امرأته حتَّى وجدهُ ، فأمسكَ به بقوَّة ثمَّ فركه وإذ بشيخٍ عجوز تجاوز عمره الثلاثمائةَ عام يقف أمامهم غيرَ مصدقٍ أنَّه استدعي إلى هذه الغابة المليئة بالوحوش ، وكان الشيخ يرتدي ثوباً أبيض وقد أطالَ لحيته البيضاء إلى صدره ، وكان بالغ النحافة كأنَّه هيكلٌ عظميٌّ مكسي بالجلد ، فقال لكايد وهو واقف غير آبه للوحوش وليس مثل ذلك القزم الذي بالَ في سرواله خوفاً منهم ، شبيك لبيك الحكيم الساحر بين إيديك ، فقال له كايد ، انظر أيها الشيخ الحكيم إلى هؤلاء الوحوش من أكلة لحوم البشر ، إنهم يريدون أكلنا ولقد أكلوا لنا اثنين من أولادنا قبل ساعةٍ ، أرجوك أيها الحكيم الساحر أنقذنا منهم ، فقال الحكيم الساحر وكيف أنقذكم منهم يابني ألا ترى إلي كيف أنني ضعيف البنية وقد بلغت من العمر عتيَّا ، بينما أنت الذي صارعت الوحوش ففقأتَ عينَ التنين وقتلت الطائرَ الوحش وخلَّصتَ أهلَ مدينتي من الملكِ الظالم وأنقذتَ أهلَ الكهفِ من أسرِهِم الحجري فماذا حصلَ لكَ ؟ فواللهِ ليسَ في مستطاعي سوى النُصْحِ لك أن تصارِع أيضاً هؤلاءِ الوحوشِ لتصرَعَهُم وتخلِّصَ نفسكَ وزوجِكَ وأولادِكَ من براثنهم ، فسأله كايد وقد أحسَّ بالعزَّة في نفسه ، وبماذا تنصحني أيُّها الساحر الحكيم كيف أقاومهم فهم كثر ونحنُ قِلَّة ؟ فقال الساحر الحكيم هذا شأنُكَ وأنتَ أعلمُ مني في الصراعِ ولكنني أستطيعُ أن أتنبأ لك فهذه مهنتي ، فسأله كايد وبماذا تتنبأ لنا أيها الحكيم الوقور ، فقال له الشيخ إنني أرى أنَّك ستتغلب عليهم آخر المطاف ولكن بعدَ جهدٍ طويل ومثابرة أطول ، ولم يشعر كايد وامرأتُه وأولادُهُ إلا بالشيخ وقد اختفى من جديد ، رُغمَ أنَّ كلماته كانت ما تزال تترددُ في مسامعهم، فلم يضيعوا وقتاً بل راحوا جميعاً يجمعون الحجارة ، فلم يكن لديهم سلاحٌ آخر .