الكتاب: عراقي في باريس – منشورات بانيبال
الكاتب: صموئيل شمعون
عرض: فاطمة ناعوت
"حسنًا، لقد وصلتُ إلى أمريكا قبلَكَ،" أعلنتْ أمي ضاحكةً حين رأتني أترجّل من سيارة العم. إنه يناير 2004، وكنت قد رحلت إلى موديستو بكاليفورنيا كي أرى أمي أثناء رحلتها الأولى من بغداد لزيارة لشقيقتها. "لقد قتلتَنا بهوليوودكَ! إنها هنا، على مرمى حجرٍ. هل تعرف كيف تقود سيارةً؟ خُذْ واحدةً من سيارات عمِّك واذهبْ إلى هناك!" حين اقتربتُ منها، لاحظت كم غدتْ عجوزًا. "آه يا شموئيلي،" هتفتْ أمي، ثم عانقتني وشرعت في البكاء. فجأة نظرتْ إليّ فيما دموعُها تنهمر فوق وجهها:" ماذا حدث لأنفك، أمازال يكبُر؟" ثم راحتْ تضحك. ضحكتُ أيضًا. قبّلتُ رأسَها وقلتُ وأنا أشيرُ إلى قدميها:"انظري لجوربيكِ يا أمي! بهما ذاتُ الثقوب التي كانت هناك منذ كنتُ طفلا." "أين كنتَ كل تلك السنوات يا بني؟ وقبل أن أتمكن من الكلام أضافت:"هل تعرف يا شموئيل، بعدما أسميتُك بدقائق قليلة، تملّكني حزنٌ عميق وقلت لنفسي إننا بهكذا اسمٍ ثقيل قد ألقينا بالكثير فوق كاهل هذا الطفل!".
بتلك النبوءة السوداء تبدأ رواية An Iraqi in Paris "عراقي في باريس" لصموئيل شمعون الصادرة بالإنجليزية عن منشورات بانيبال Banipal في لندن. هي الترجمة التي صدرت قبل أصلها العربي الذي ربما يرى النور مع نهاية هذا العام عن منشورات الجمل بألمانيا. وبالفعل تتمترس تلك النبوءة المتمثلة في لعنة الاسم الذي يحمله الفتى "صموءيل شمعون" خلف كل الكوارث التي ستزج به في موتٍ إثر موت، حتى لنندهش أنه مازال يحيا حتى اللحظة. بالاسم رائحةٌ يهودية إسرائيلية ستجعل منه محطَّ شبهة واتهام أينما حلّ أو ارتحل. حين نقرأ هذه الرواية الأوتوبيوجرافية سنعرف أننا بصدد رجل يحيا بمحض صدفة أو بسبب مفارقات كوميدية لا تحدث إلا ربما في الأفلام التي تقوم حبكتها على قانون المصادفات والتقاطعات الطريفة. فرجل البوليس اللبناني الذي صوب بندقيته إلى رأس الفتى كي يرديه قتيلا بعدما منحه خمس دقائق أو زمن تدخين سيجارته الجيتان، أيهما أقرب، كي يعترف بكونه جاسوسًا يهوديًا جاء ليخرّب البلاد بوضع قنبلة في كنيسة أو مدرسة، كان وعده حال اعترافه بأن يطلق سراحه، وبالطبع يصرُّ صموءيل على كونه رجلا مجرّدًا من أية نزعات سياسية سوى أن حلم السفر إلى هوليود قد اعتمره حد التملّك، فيباغته الشرطي بعد انتهاء المهلة بسؤال حول السينما الفرنسية والموجة الجديدة لاختبار معلوماته وكشف كذبه فيعجز عن الإجابة، وقبيل انطلاق الرصاصة لتستقر في رأسه ينطلق لسان الفتى ليسرد معلومات عن السينما الأمريكية ونجومها وأعمالهم وينتهي بكينج كونج وفرانكشتين ما يجعل الرجل يضحك ويعدل عن قتله فيستدعي عقلُه مقولة قرياقوس إن أعظم كاتب سيناريو في الوجود هو الله تعالى الذي رسم كل أحداثنا العجيبة في الحياة.
ينقسم الكتاب إلى روايتين لا ينتظمهما ترتيبٌ زمني. القسم الأول "عراقي في باريس"، يصدّره المؤلف بقوله:"وحدها ورقة الخريف التي تسقط نائمةً تحت قطرة المطر تفهم ظمأي"، يتكون من سبعة عشر فصلا تحكي عن رحلته الأديسيوسية من بغداد إلى أمريكا حاملا معه دفترًا وقلمًا وآلةَ كاتبة. بلاد السينما هوليوود، حلمه السرمدي، تلك الوجهة التي لن يبلغها أبدًا ربما لتتحقق نبوءةٌ أخرى ظهرتْ في أول قصة قصيرة خطّها قلمه وهو بعد صبيٌّ لم يزل حول رجل يحكي طوال الوقت عن رغبته في العمل بالسينما، وذات يوم فيما كان يجلس في مدرّج مسرحٍ روماني في عمّان اكتشف أنه بلغ الخمسين من عمره دون البدء في أي عمل سينمائي، مصدومًا بتلك الحقيقة تباغته نوبةٌ قلبية. ويموت. رحلته التي بدأها في الثالثة والعشرين من عمره صوب أمريكا، نرصدها منذ أحد الصباحات المبكرة من عام 1979، حين استيقظ ليودّع أمّه وأباه وأشقاءه قائلا إنه قرر اللحظةَ السفر إلى هوليوود لتحقيق حلمه القديم وسط دهشتهم وسخريتهم.
أمٌّ ذات نزعة لاذعة عملية لا تخلو من قسوة. أبٌ أصمُّ أبكمُ فوضويٌّ بوهيميّ ساخرٌ من الوجود ومن نفسه عبر نزعة مرحة حدَّ الجنون. تلك هي الكيمياء التي كوّنت صموئيل الفتى الذي أمعن في الصعلكة والضياع، المتعمَّد حتمًا، في شوارع الحياة. الأبُ خبّاز. حلم الابن بكتابة وإخراج فيلم عنه يجسد فيه دور البطولة الممثل روبرت دي نيرو. نتتبع بلهفة رحلته المريرة برًّا صوب سوريا فلبنان فالأردن ثم قبرص فتونس حتى يستقر أخيرًا في باريس إثر معجزة سماوية تعدُه بتأشيرة دخول إلى أرض النور والحرية. يحكي عن حياته البوهيمية بين المثقفين والصحافيين العرب الذين التقاهم في مقاهي وحانات باريس. الطيبون الذين دعموه، والأشرار الذين غدروه، مُسبغًا على بعضهم أسماءَ مستعارةً وعلى بعضهم الآخر أسماءهم الصريحة. لينتهي هذا القسم بيدٍ تربت على كتفه ليلتفت فيجد وجهًا يشبه وجه أبيه الراحل. يعطيه تفاحة، تفاحة قارياقوس الخضراء الأسطورية، فيما يتأمل من القطار طائرًا نافقًا تحت شجرة. يقوم الطائر من ميتته ليحوّم صوب التفاحة ثم يطير بعيدًا.
القسم الثاني من الكتاب بعنوان Street Boy and the Cinema" "السينما وصبي الشوارع"، وفيها يحكي عن ذكريات طفولته بين عائلته الأشورية الفقيرة، خلال سرد شعريّ مستخدمًا عناوين أفلام المخرج جون فورد، المثل الأعلى للمؤلف، كجزء من متن السرد ميّزه باللون الأسود الثقيل،. ولذلك نجده وقد صدّر هذا القسم بإهداء له وفاءً وإجلالاً.
لغة السرد شعرية رغم خلوها من المجازات المهومّة إذ استبدل بها مجاز المشهد المتعيّن والمفارقات الساخرة التي تشير إلى عبثية الحياة وقسوتها في آن. بناء الصورة المشهدية هي الملمح الجمالي الفارق في هذا العمل إذ نجح في رسم الحدث على نحو فني لا يحترم التراتب الزمني جزئيًا عن طريق التقطيع والمونتاج والفلاش باك. تلك التقنيات يجيدها المؤلف بسبب عينه السينمائية الراصدة التي تسجّل كل لمحة وحركة وتنقلها للقارئ مغلّفةً بعباءة فنية رشيقة.
حسُّ الدعابة المحايد غير المتورط في شَرَك التراجيدية الذي يسرد به المؤلف مراراتٍ وكوارثَ سوداويةً مرَّت به يُعد ملمحًا مميزًا في جماليات هذه الرواية. "من لم يعرف اللهو لم يعرف الشعر" يقول أوكتافيو باث. وهو برأيي الفعل الكتابيّ الأصعب. سلسلة العذابات تلك التي من فرط قسوتها يصفُ كلَّ حلقة منها إنها "محضُ مزحة" مقارنةً بالحلقة التالية.
وصفتها صحيفة الإندبندنت البريطانية بالرواية الساخرة الفظّة والماسّة في آن، تحكي عن أيام الحب والأفلام والسياسة والفقر في الضفة اليسرى من باريس الثمانينيات، صادمةٌ حينًا، مازحةٌ وبارعةٌ وإنسانيةٌ دائمًا. وجاء على الغلاف الخلفي كلمات لسعدي يوسف وأنطون شماس وفاضل العزاوي وآليسون كروجون الذي وصف المؤلف بمحاوِر فاتن تثبُ كتابته بين الكوميديا والتراجيديا غير إنها تظل دومًا عميقة الإنسانية.
وفيما يحاول شمعون أن يظهر طوال الوقت بسمت الرجل غير المعتنق لأي منزعٍ أيديولوجي أو قومي، يسرّب لنا بدهاء التزامَه دون الإفصاح بشعارٍ أو مصطلح. والمثال الجليّ على ذلك لقاؤه بالسيدة الباريسية التي فقدتْ كلبَها يوم احتفالات باريس بعيد الثورة الفرنسية. تقول له: "فقدتُ كلبي يوم 14 يوليو، أليس ذلك محزنا؟" فيجيبها ساخرًا "وأنا فقدتُ وطني يوم 14 يوليو!"، وبعيدًا عن المفارقة الصادمة فإن المؤلف لم يشأ أن يصرّح بالانقلاب العسكري في العراق في 14 يوليو 1958، حتى حين سألته الباريسية عما يعني أجابها بأنه أمر يطول شرحه. إنه الفن الجميل الذي يشير ولا يفصح كيلا يتهالك تحت ثِقل التاريخ والمعتقد، تاركًا للقارئ مساحته الخاصة من التأمل والتأويل والضلوع في فعل الكتابة. ويظهر حسه الملتزم كذلك في سرده البريء –ظاهريًا- للعذابات التي لاقاها على أيدي رجالات الشرطة العرب دون تهمة ما، ما يشير إلى ظاهرة التطاحن العربي الداخلي، فلو خَلُصَت الدول العربية لذاتها حبًّا لسحقت كل القوى المغيرة الخارجية، لكنه الانقسام والهشاشة التي تسري في نسغ مجتمعاتنا من الداخل ما تضعف من شوكتنا.
الرواية كُتبت بإنجليزية بسيطة وهو ما يُحسب لمجموعة المترجمين الذين اضطلعوا بالعمل. كما أن طريقة السرد اللاهثة ذات الوثبات المتلاحقة والحس الأيروني يغريك بالركض وراء الحدث طلبًا لمتعة إضافية ورهانا على معرفة مآل ذلك البوهيمي الراكض وراء حلم سيزيفي عسير المنال. بقى أن نذكر أن بانيبال هي ذات الدار التي تُصدر المجلة الفصلية التي تحمل الاسم نفسه والمهتمة بفتح نافذة للأدب العربي على الآفاق الغربية باللغة الانكليزية. تلك المجلة التي تقوم بتحريرها الإنجليزية مارجريت أوبانك بمساعدة صموءيل شمعون الذي يقوم أيضًا بتحرير المجلة الالكترونية " كيكا" الأكثر شهرة على الشبكة العنكبويتة والتي تعنى بنشر الأدب العربي.