فى نسخة أنيقة من القطع المتوسط، صدرت رواية )همس العقرب) للكاتب والأديب السفير محمد توفيق، عن دار العين للنشر. وضمت الرواية بين ضفتيها 371 صفحة، تضمنت العديد من الأجناس الأدبية للرواية، فهي في آن واحد تاريخية، سياسية، علمية، أنثروبولجية، تنتمي لأدب الرحلات، وتستعرض قدرا كبيرا من الجغرافيا. وفى إطار من التخييل تستند على واقعة حقيقة، وهى رحلة حسنين باشا مع مستكشفة إنجليزية إلى صحراء ليبيا واكتشاف واحة الكفرة .
كتبت الرواية بلغة عربية فصيحة بدرجة عالية، وحُملت بالصور البلاغية، والكثير من التفاصيل، والتأملات الفلسفية، والوصف المُسْهَب للأماكن والشخوص والأشياء
يعاني بطل الرواية من صراع نفسى حاد، فهو رسميا يعمل بالملحقية البريطانية للمحتل الإنجليزي ولكن مشاعره مع أبناء وطنه في مطلبهم المشروع في الاستقلال والحرية والتي تبلورت في ثورة 1919، وليس هذا السبب الوحيد لارتباكه النفسى، بل نراه يتخبط ويشعر بتشوش نتيجة الصدمة الحضارية التى يصاب بها أثناء تلقيه تعليمه العالى بأوربا، حين يسافر إلى اكسفورد، ويجد قيما مغايرة تماما لقيمه الشرقية ذات المرجعية الازهرية.. يبحث عن حدث جلل او انجاز يقوم به، يعيد اليه توازنه.. انه حسين المُستلهَم من شخصية حسانين باشا رئيس ديوان الملك فاروق، ومعلمه.. (لعل قبوله المشاركة في رحلة روز الاستكشافية لم يكن إلا رد فعل للخجل الذي انتابه في تلك المرحلة، وغمره من زر طربوشه إلى إصبع قدمه، وبغرض الهروب من أعين المحيطين به. أو لعله – بدافع من وطنية شكلية – أراد أن يثبت أن المصريين أيضا راغبون في المغامرة، وقادرون على الاستكشاف، وألا يترك مهمة كشف أسرار بلادنا قاصرة على أمثال ستانلي وليفنجستون وحدهم.) الرواية ص51.
وعلى الجانب الآخر سيدة انجليزية تعيش حالة مشابهة من التمزق النفسى نتيجة ما شاهدته جراء اهوال الحرب العالمية الاولى، وفقدها لأهلها، وخطيبها الذى احبته، وتمنت ان تعيش معه حياة هادئة، انها روز التى استلهمها الكاتب من المستكشفة الانجليزية روزيتا فوربس (فالصحراء بالنسبة لها ملاذ، بل ملاذها الأوحد من عيني هارولد الزرقاوين، ومن تلك النظرة الحالمة الرقيقة التى تحاصرها.. وداعة لا توائم خنادق هبوتيرن ذات الجثث المصفوفة فى الوحل الدامي، ورقة لا تتناسب وطائرات تبصق نارا من السماء.) الرواية ص66.
يقرر حسين وروز القيام برحلة استكشافية لواحة صحراوية لم تطأها قدم رحالة من قبل.. ومن أجل هذا يدّعيان انهما زوجين، وان روز اشهرت اسلامها وتُدْعى خديجة .هذه هى الفكرة التى بنى عليها الكاتب محمد توفيق سرديته، ليصطحبنا مع بطليها الى صحراء ليبيا، التى كانت محتلة من الايطاليين آنذاك، وفى حديث للكاتب يحيل اختياره لتلك الفترة استكمالا لثلاثية تتناول تطور المجتمع المصري خلال القرن العشرين والسنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين.. الروايات (ليلة في حياة عبد التواب توتو) و (طفل شقى اسمه عنتر) و (فتاة الحلوى).
نتجول فى فضاء الرواية مع حسين وروز وافراد قافلتهما لاقتحام الصحراء، التي تعد الحاضنة المؤطرة للسرد، اذ يوظف الكاتب المكان ليحمله معان خاصة بالتوتر الثقافي متعدد المستويات، بين الحياة البدوية الصحراوية والحضر الذى يمثله حسين على مستوى، وبين الشرق والغرب الذى تمثله روز على مستوى اخر، لنجد انفسنا امام قضية الهوية ، والانا والآخر.. وهنا تتجاوز روز الخطوط الحمراء التي يضعها اهل الواحة ، فإنها لا تقبل بسهولة المحاذير من ساكني الصحراء (التي تكون غالبيتها غرائبية لا يقبلها العقل المادي).
يصف الكاتب الرحلة وما شابها من صعاب تصل الى حد الاشراف على الموت ، وصفا يجسد مشاهد الصحراء ، والطبيعة ، ومغامرات تثير الترقب والتأمل ، فيضلون الطريق تارة ، ويهز كيانهم زئير اسود مفترسة ، وتفرغ منهم المياه ، ويواجهون عواصف رملية تارات اخرى.. (الزئير المتصاعد هو غضب نابض بالحياة. صحوة الصحراء المفاجئة تخرج الشياطين من مخابئها، وتطلقها في الظلام الدامس. الخيمة لم تعد صنيعة الإرادة البشرية، بل تحولت بانبعاجاتها إلى كائن حي مستقل عنا. صرخات الخوابير هي محاولات فاشلة للتشبث بالتحامها الزائل مع التربة... أما عمود الخيمة المركزي، فلم يعد أمامه سوى أن ينتظر في صبر مصير الشهداء.) الرواية ص72. و.. (لم يقروا بعد أن القافلة ضلت الطريق، فهناك شد وجذب لم تحسم نتيجته.) الرواية ص72 . وأيضا.. (مع إطالة أمد المعاناة الجماعية، وازدياد الموقف خطورة، أصبح الجميع سائرين على الأقدام، حتى لا يحملوا الإبل ما لا طاقة لها به.) الرواية ص 83 . وكذلك.. (يستيقظان على زئير مئة أسد يهتك سكون الليلة الصحراوية.) الرواية ص85 .
وبعد كل هذه الصعاب يصلون فى النهاية الى واحة الكفرة ، التى يستقبلهما اهلها بريبة فى البداية ، ثم يتم الترحيب بإقامتهما بالواحة. نتعرف على اهل الواحة: سيدى فوزى كبير الواحة ، وبناته ، وابنة خالتهن ، ونتعرف على انثروبولجية الواحة من عادات وتقاليد نلمسها فى وصف الكاتب المسهب لها. يصف الكاتب خطبة جميلة ابنة سيد الواحة ، وما قدمه العريس من مهر كبير.. (قوامه أربعمائة جمل، ومائتين من الأغنام، ورطلين من الذهب، وأربع فتيات لخدمتها.) الرواية ص 127، ثم يفسره الكاتب لنا: (لو كان العريس من الأسياد لما تطلب الأمر أكثر من مهر رمزي، فالشرف الذي تناله العروس وأهلها بأن تكون وعاء لذرية طاهرة يفوق مال الدنيا.) الرواية ص 127، فى اشارة الى ان العريس من العوام .
تستمر اقامة حسين وروز فى الكفرة ، فى ضيافة كبير الواحة سيدى فوزى ، وتستغرق روز فى استكشافها للواحة واهلها ، وتسجل فى دفترها كل اكتشافاتها النظرية والمادية ، حتى تقع الخطيئة التى تقلب حال الواحة واهلها رأسا على عقب ، فيجد القارئ الكثير من صفات أهل الواحة وسماتهم، وابرزها هذا البعد الميتافزيقى الذى يؤمنون به.
اعتمد الكاتب آلية الاسترجاع بكثرة ، اذ يبدأ احداث الرواية فى حفل يقيمه الملك فاروق فى قصر المنتزه عام 1938 ، وعند التقاء روز بحسين – والذى يفاجأ بحضورها – يسترجعان تفاصيل الرحلة التى قاما بها خلال عامى 1920-1921 . ويتم السرد بالتوازى بين مغامرة الاستكشاف ، ومراسم الحفل ، ويستخدم الكاتب الاسترجاع داخل الاسترجاع، حين يسترجع حسين بعض تفاصيل طفولته ، واخرى لشبابه ، وسفره الى اكسفورد ، ثم عمله بالملحقية البريطانية ، كما يسترجع وصية الملك فؤاد بتعهده برعاية الابن الملك فاروق .
وكذا تسترجع روز تفاصيل طفولتها ، وشبابها ، وعملها كممرضة فى مستشفى عسكرى ، واهوال الحرب العالمية الاولى التى قضت على اهلها وحبيبها.
الرواية احتشدت بعدد من الشخوص تنوعت بين الشخصية النامية ، والشخصية السكونية او الثابتة ، والشخصية الاشارية ، والشخصية المرجعية ، والشخصية الغائبة ، ونرصد نماذج من تلك الشخصيات اذ حرص الكاتب على رسم كل شخصية بإحكام من كل ابعادها ، وان ركز على الجانب النفسى ، وسبر اغوار كل شخصية ، سواء بطلى الرواية او الشخصيات الثانوية.
نال بطل الرواية حسين الحظ الاوفر فى الوصف ، جاءت شخصيته مركبة ، ومتنامية ، فهو ينشأ في بيئة محافظة لاب ازهرى يصر على تعليمه بالازهر ، فيحفظ القران، ويجيد اللغة العربية والفقه والشعر، وحين يكمل تعليمه العالى في أوروبا يصاب بصدمة حضارية تهز كيانه. يعمل بالملحقية البريطانية ، ويعشق السفر والمغامرات ، ثم يشغل رئيس الديوان الملكى ويكون معلم الملك .
وروز التي تتقاسم حسين الرحلة شخصية متنامية أيضا ، اذ تتحول من مجرد ممرضة في احدى المستشفيات بانجلترا ، الى شخصية عامة ومستكشفة لواحة الكفرة التي لم يسبق ان وطأتها قدم رحالة من قبل ، بل وتؤلف كتابا تضم فيه كل المعلومات الجغرافية والتاريخية الخاصة بتلك الرحلة.
ومن اهل الواحة نجد شخصية جميلة الوديعة المحبة التي تتحول الى شخصية حادة وشرسة ، تدافع عن حبها ، وتقتص من روز التي احبت خطيبها وفتى احلامها ، اما شخصية سندس فهى شخصية سكونية ، وان تميزت بانها غرائبية على نحو ما ، وتشير بحدسها الى احداث غالبا ما تتحقق ، وتتسم بانها مرجعية .. ومن الشخصيات المرجعية عبد القادر الدليل الكفيف الذى رافق حسين وروز رحلتهما ، وكان يعرف معلومات غزيرة عن الصحراء ويستشعر اى خطر قبل حدوثه ، وكذلك شخصية سيدى فوزى الذى ينطق بالحكمة ، ويضطلع بانقاذ الواحة من اللعنة التي حلت بها جراء خطيئة روز ، اما الشخصيات الاشارية منها شخصية الجدة ، وشقيقتي جميلة ، ومن الشخصيات الغائبة شخصية ام جميلة.
واخيرا نشير الى ثمة تركيب متعدد لكل شيء وادراجه في سياقات سردية خاصة بعالم تخيلى صحراوى ، تمكن الراوى العليم من ترتيب معالمه وفضاءاته ، وعناصره . بالإضافة الى الصحراء الليبية ، تجولنا مع الكاتب في الإسكندرية ، ابحرنا معه الى أكسفورد ، وانجلترا.
يحسب للكاتب تناول جانب من تاريخ مصر فى زمن الاحتلال الانجليزى، وليبيا وقت الاحتلال الايطالى، وجانب من الاحداث والصراعات التى صاحبت الحرب العالمية الاولى وما بعدها ، ولكن يحسب عليه الاغراق فى التفاصيل ، والاسهاب فى الوصف.. يصف الكاتب ملابس البطل/حسين فيقول: (قفازان من حرير أبيض في قبضته اليسرى، أخفاهما بطي ذراعيه على صدره. لعله شعر بشيء من الحرج مما وصل إليه من ترف وأبهة. بيد أن حركته المفاجئة لفتت نظرها إلى بدلة التشريفة المطرزة بخيط الذهب، بدلا من أن تواري القفاز الحريري عن نظرها. وحتى وإن فاتها القفازين، فهل للعين أن تغفل تلك النقوش النباتية المذهبة التي غطت الشريط الأوسط من سترته وكذلك حافتي كميها وياقتها العريضة الصلبة؟ انتاب روز ذهول مفاجئ وهي تتأمل صفوف الأوسمة والنياشين المتلاصقة على الصوف الأسود: نخلة من فضة، نجمة من الذهب الخالص، فرع برونزي من شجر الأوك، أوراق شجر متنوعة من المينا وأخرى مطلية ذهبا، وتنويعة من الميداليات الصغيرة مدلاة من شرائط ملونة مصفوفة أفقيا فوق قلبه، ولو كان كل هذا لا يفي بالغرض، ارتدى حسين وشاحا من الساتان اللبني بحافتين ذهبيتين، امتد من كتفه الأيمن حتى خصره الأيسر.)
وكذلك الاغراق فى التأملات الفلسفية التى اثقلت الى نحو ما على المتلقى..
الكاتب فى سطور
محمد توفيق هو روائي ومهندس ودبلوماسي مصري؛ كان آخر مواقعه الدبلوماسية سفيرا لمصر لدى الولايات المتحدة الأمريكية. تخرج من كلية الهندسة جامعة القاهرة؛ وحصل على ماجستير القانون الدولي من جامعة باريس» ودبلوم العلاقات الدولية من معهد الإدارة الفرنسي.صدرت صدر لمحمد توفيق بالعربية روايات: "ليلة في حياة عبد التواب توتو" عن دار الفكر العربي 1996 ــ رواية "طفل شقي اسمه عنتر" دار ميريت 2003 ــ رواية "فتاة الحلوي" عن الدار المصرية اللبنانية 2010 وتشكل الروايات مجتمعة ثلاثية تتناول تطور المجتمع المصري خلال القرن العشرين والسنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين.
كما صدر لمحمد توفيق المجموعات القصصية: "الفراشات البيضاء" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995 ــ "عجميست" دار الفكر العربي 1997 ــ نوفيلا بعنوان "حتي مطلع الفجر" دار الفكر العربي 1997. يدير ورشا للكتابة الإبداعية بانتظام منذ 1998 . له تحت الطبع مجموعة قصصية بعنوان "التمساح رقم 6".