بقلم دكتورة / عزة عزت
فرق كبير بين تعبيرين عاميين لا اختلاف بينهما من حيث الصياغة .. إلا في حرف الجر " مِن " ، في حين أن الفارق بينهما من حيث المعنى و الدلالة كبير جداً.. بل شاسع ، فأن تقول : "حلاوة الروح" فذلك يعني الجمال الخفي غير المرئي لإنسان لطيف و خفيف الظل ، و قلبه نقي شفاف يشي بما في داخله ، و ينعكس هذا الباطن الحلو على سلوكه فيحبب الناس فيه ، و بين أن تضيف حرف الجر " مِن " إلى هذا المصطلح الشعبي ؛ لتعطي دلالة مختلفة تماماً ! فيصبح المعنى " المعافرة أو الفرفره قبل الاحتضار " ، أو ما نشاهده من حركات الغريق أو الذبيح .. قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تشبثاُ بالحياة .
هذا بالضبط ما استشعرته منذ الوهلة الأولى لمطالعتي رواية القاصة و الروائية صفاء عبد المنعم ، المعنونة " من حلاوة الروح " ، و المصاغة بكاملها باللهجة العامية المصرية ، التي عكست خفة و حلاوة روح القاصة و قدرتها على تقديم واقع مرير بأسلوب شفيف ، و مع كل طي لصفحة من هذه الرواية تأكد لي تمكن الكاتبة من مفردات هذه اللهجة الحلوة و الثرية ، التي لا تقل بحال _ إن لم تكن تزيد _ حلاوة و ثراءً عن اللغة العربية الأم .. بكل جمالها و جلالها ، و كثرة مترادفاتها ، و دقة الفروق بين مفرداتها ، و ما تسوقه إلينا ألفاظها و مصطلحاتها من دلالات .
هذا و قد أدركت ضرورة _لا بل حتمية _ التجاء الكاتبة لصياغة روايتها بالعامية .. دون الفصحى ؛ لتعبر بصدق متناهٍ عن واقع ما يجرى من أحداث و مواجهات ، و صراعات، في مجتمع عشوائي يعـافر و يلاطم أفراده مع الحياة و أنوائها ، و تصعد و تهبط به أمواجها، فتغرقه تارة ، و تطفو به تارة أخرى .. و لكن ليس إلى السطح .. بل إلى مستوى أعلى قليلا من القاع السفلي للمجتمع ، إلى الحد الذي يتصور معه هؤلاء الأفراد أو الشخصيات أنهم يعلون على واقعهم المرير .. غير مدركين أنهم لم و لن يطفوا بحال من الأحوال على السطح ، فهم في القاع دائماً .. دون أن يغادروه !! فهم يسكنونه و هو يسكنهم.. يتمرغون في أوحاله ، و يدمي كل منهم الأخر في صراع متنام ، يخرجون منه خاسرون دائما.. الغالب و المغلوب ، يتصارعون في قاع ضيق .. رغم تفاوت مستوى هذا القاع ! يتصارعون دون وعي منهم أنهم جميعاً ضحايا لمجتمع قاسي ، و لظروف ظالمة لهم جميعاً .
الحقيقة أن رواية صفاء عبد المنعم " من حلاوة الروح " قدمت للقارئ المصري لغة بسيطة و عميقة في آن معاً ، و لم تتعالى عليه .. إذا كان من البسطاء ، و المبتدئين و العامة من القراء ، كما و أنها قدمت للمكتبة العربية و للقارئ المثقف _ أو حتى الرافض لفكرة صياغة رواية بالعامية _ متعة حقيقية ، تعكس اتساقاُ بين لغة السرد و طبيعة الأحداث ، و الشخصيات المرسومة بدقة .. و دون أن يتعالى الراوي على شخوص روايته ؛ لينطقهم بلسان غير لسانهم .
هذا و إن كانت صفاء عبد المنعم ليست رائدة في هذا المجال .. إذ سبقاها الكاتب الكبير يوسف القعيد في روايته " لبن العصفور"، ، و الكاتب مصطفى مشرفة في روايته " قنطرة الذي كفر" و غيرهم .. إلا أن صفاء بحِس المرأة المصرية ، حاملة الثقافة الشعبية ، و ناقلتها عبر الأجيال ، قد تفوقت على كل من سبقوها إلى كتابة رواية بالعامية ؛ من حيث التمكن من التعبير ، و إنطاق الشخصيات كل بما يناسبه تماماً كحوار ، كما و أن استخدامها للمصطلحات الشعبية و الكنايات و الاستعارات و الأمثال و حتى العديد و الغناء الشعبي قد جاء في موضعه تماماً ، معبراً بصدق و دقة عما تقصده بما اقتبسته ، من بحر الشفهيات الشعبية من عبارات و تشبيهات و صيغ .
ذلك كله على مستوى الحوار و مدى توظيفه كعنصر أساسي في السرد الروائي .. كبديل لاستخدام الوصف ، الذي بات يملل المتلقي المحدث ، الذي تعوَّد على التلقي المختصر السريع ، و المباشر في عصر الرؤية و السمع من خلال وسائط مسموعة و مرئية .. و ليست مقروءة ، فنجد أن صفاء عبد المنعم أخذت بيده بالأسلوب الذي يناسبه ،و يثير شهيًّته و يستثير شغفه للاستمرار في المطالعة، فقسمت فصول روايتها إلى ما يشبه المشاهد المرئية ، التي يغلب فيها الحوار على السرد و الوصف ، فلم نجد الكثير من الوصف .. إلا إذا اقتضت الضرورة ؛ لتوظيف الوصف في موضع لا مفر فيه من استخدامه كأداة من أدوات القص الروائي المكتوب .
هذا و لم يشعر القارئ للحظة أن صفاء عبد المنعم قد تعسفت في بنائها الروائي ؛ لتضع عنوناً لكل فصل ، يبتر تسلسل الأحداث في مخيلة القارئ المسترسلة .. بل جاءت عناوين الفصول و كأنها جزء لا يتجزأ من الحكي الروائي ، و كأن جملة العنوان جزء متمم لأحداث الفصل السابق ، أو جملة افتتاحية لأحداث الفصل التالي .
أما عن زمن الرواية في حقبة نهاية الستينيات و أحداث النكسة ، و هجرة سكان مدن القناة ، و منافستهم لسكان حي شعبي من أحياء القاهرة في الرزق ، و تأثيرهم عليهم مادياً و معنوياً ، و اكتساب سكان هذا الحي لبعض مهارات هؤلاء المهاجرين .. رغم سخطهم و تبرمهم من مزاحمتهم لهم في مصادر الرزق الضيقة ، فأرى أنه كان اختياراً موفقاً جداً من الروائية صفاء عبد المنعم .. إذا كان هناك ثمة تعمد لاختيار زمن الرواية .. و أنه لم يأتي عفواً ؛ لأن بعض الأحداث الواقعية التي أثارت رغبتها في القص كانت تدور في هذه الحقبة الزمنية بالذات .. و إن كنت قد أحسست .. بل أدركت أنها تخيرت هذه الحقبة بالذات ؛ لأنها أرادت أن تسقط ملامح هذا الصراع من أجل البقاء على ما يحدث من صراع داخل العشوائيات ، التي باتت كثيرة و متناثرة على أطراف مدينة القاهرة بكل أحيائها .. حتى دون أن يكون هناك دخلاء أو مهاجرون ، فسكان هذه الأحياء يفد إليهم و يرحل عنهم أناس كثيرون دائماً ، يأتون ليقاسموهم لقمة العيش ، و يصارعوهم عليها ، ثم ماينفكوا يرحلوا إلى عشوائية أخرى .. أو لعلها أرادت أن تشير إلى صراع البشر داخل العشوائية المجتمعية التي نعيشها الآن و نعافر فيها من حلاوة الروح .. لكن الواضح من إنهائها لروايتها بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، و ما شعر به الناس من يُتم حقيقي و ضياع ، يشبه الاحتضار أو معانة ما قبل الاحتضار ، التي يسميها الوجدان الشعبي المصري " من حلاوة الروح " .
و لعل من أبرز الملامح الشعبية التي ركزت عليها صفاء عبد المنعم في روايتها " من حلاوة الروح " النسيج الواحد للشعب المصري ، و ما يجمع بين عنصريه من وحدة في العادات و التقاليد .. بل و المعتقدات .. حتى الديني منها ، مهما اختلفت ديانتهم ، فنجدهم في الملمات و المصائب لا يفرقون كثيراً بين ولي من أولياء الله .. مسلم كان أم نصراني ، فيجتمعون على طلب العون منه بالتبادل دون تفريق .. و لعل ذلك ما حدا بالراوية إلى اختيار مكان أحداث الرواية في حي المطرية ، و ما يحيط به من أحياء ؛ لتلتجئ شخصيات روايتها إلى سيدي المطراوي أو شجرة مريم ، أو كنيسة العذراء _ التي قيل بظهور العذراء فيها _ في حي الزيتون ، القريب من موقع الأحداث في الرواية ، فكان اختيار المكان موفقاً جداً من الروائية ، و مناسباً تماماً للمعاني التي ترمي للإشارة إليها من خلال عرضها للوقائع .
أما عن أسلوب العرض على طول الرواية ، فأرى أنه أقرب إلى العرض المرئي منه إلى العرض المطبوع _ حتى و إن كنا أمام رواية مكتوبة _ فالفصول كانت أشبه بمشاهد السيناريو السينمائي المحكم _ و لا أقول التليفزيوني المترهل _ فالتقطيع كان شبيه بالمونتاج الجيد ، حافظت فيه الراوية على التقطيع السريع ، الذي يصعِّد الأحداث ، ويحافظ على إيقاعها في نفس الوقت ، و لا يقود القارئ بحال للحظة ملل واحدة ، أو حتى لحظة شرود عن مجرى الأحداث المتلاحقة ، و استعراض الملابسات الخاصة بكل شخصية ، مع الحفاظ على الخط العام للرواية ، و أحداثها المتشابكة .
أما عن شخصيات الرواية فقد رُسمت بدقة و إحكام ، و لم تجلـِّي من الكاتبة أي لحظة يشعر فيها القارئ بصدور أي سلوك أو تصرف ، أو تعبير يتناقض و ملامح كل شخصية ، فالكاتبة لم تتعالى _ كما سبق القول _ على شخصياتها ، و حركتهم كل وفقاً لملامحه الشخصية ، كما أنطقتهم بالحوار الملائم لكل منهم ، و لعل حبها لشخوص روايتها هو ما جعلها ترسمها بشكل يجعل القارئ يتعاطف مع كل شخصية .. حتى الشرير منها ؛ لأن الشر في رواية " من حلاوة الروح " كان له ما يبرره ، و قد أتى في إطار المشروع ، بالنسبة لكل فرد يعافر من أجل البقاء ، و " يرفـِّس من حلاوة الروح " ، و قد يضر بمصالح من حوله ؛ ليجد لنفسه موضع قدم في هذا المجتمع العشوائي المزدحم أو المكتظ بسكانه ، و بتعارض مصالحهم ، و صراعهم من أجل استمرار حياتهم .. و إن ساد منطق القوة و هيمنتها في المجتمعات العشوائية التي يسعى البشر فيها لتقليد بعضهم لبعض ، و الغيرة من تميزهم ، و محاولة توسيع و بناء مساكن جديدة منفصلة لها قدر من الخصوصية على أطراف العشوائية الأساسية من خلال مصادر استرزاق عشوائية غير مخططة أيضاً .
الحقيقة أن الرواية جديرة بالالتفات ، و لعل ذلك ما حدا بي إلى الإمساك بالقلم لكتابة هذه الكلمات تقويماً لها ، و منحها ما تستحقه من تقدير ، ليس بوصفي متخصصة في الشفهيات الشعبية فقط .. و لكن بوصفي قارئة ، أستطيع أن أدَّعي أني قارئة جيدة لألوان الأدب القصصي و الروائي ، و مشاركة في الإبداع القصصي القصير ، و ممن ينبهرون بقدرة الروائيين _ الجدد بالذات _ على الإمساك بإحكام بكل خيوط أحداث رواياتهم ، و الإمساك بتلابيب القارئ المتعجل الذي لم تعد له قدرة أو نفس طويل على مطالعة الروايات .. ما لم تكن على هذا المستوى الروائي المتميز و الجديد ، و الإعجاب بتمكنهم من الحكي الممتع ، و المناسب لملامح العصر .. عصر الرؤية أو المشاهدة في آن معاً !! و لذا أقول : أني قد رأيت أحداث رواية صفاء عبد المنعم " من حلاوة الروح " و لم أقرأها فقط، و استمتعت بمشاهدة وقائعها ، و مشاركة أبطالها ( في بطولة جماعية ) تقاسمت فيها الشخصيات الأدوار كل يكمل الأخر ، و شعرت أني خرجت لتوي من مشاهدة عرض ممتع ، أحدث لدي قدراً من التأثير التطهيري الذي كان يحدثه فينا الأدب و الفن الرفيع ، الذي بتنا نفتقده كثيراً .. حتى بعد مشاهدة الأعمال المرئية ! كما أن مطالعة هذه الرواية قد خلقت لدي رغبة في التفكير في واقع هذه الفئات المهمشه ، و حياتها العشوائية ، التي نجحت صفاء عبد المنعم في نقلها للقارئ ، و الربط بين هذا الواقع و الأحداث السياسية الجسام في مصر ، و رصد أثار التحولات السياسية على حياة هؤلاء البشر ، أو نقل القارئ نفسه ليعيش داخل هذه العشوائيات ، و كأنه و الكاتبة أحد أفرادها ؛ من خلال روايتها الجميلة .. إن لم أقل الرائعة " من حلاوة الروح " .