طـريــق جـانـبـي للـشـــعـر يـــســـتــريــح عليـه الموتـــى
في سلم التطور الطبيعي للشعر في مصر، ثمة حلقة لا تَلقى الإهتمام النقدي اللائق بها، ولا تحظى بضوء يلمّع أشعارها، وتجربتها الشعرية، على الرغم من عمل الكثيرين من شعرائها في المجال الصحافي، منهم: فتحي عبد الله، محمود قرني، عزمي عبد الوهاب، الراحل أسامة الدناصوري، علي منصور، سمير درويش، وإبراهيم داود. وهذا ما يستدعي بحثاً وراء تلك الظاهرة، التي أماتت تجربة شعراء الثمانينات بين رحى مرحلتين، الأولى: تمرد شعراء السبعينات، وخروجهم بالشعر إلى منطقة تجريبية منغلقة أدت إلى عزلة مع القارئ. والثانية: رغبة شعراء التسعينات في مقاطعة كل ما يربطهم بإرث الأسلاف، والإنغماس الكامل في خلق تربة مناسبة لتربية قصيدة النثر.
تجيب تجربة إبراهيم داود في مجموعته الشعرية التاسعة، "حالة مشي"، الصادرة حديثاً في القاهرة، لدى دار "ميريت" للنشر، عن السبب وراء انصراف جيله، أو ترفّعه، عن المشاركة الفاعلة، في خلق صدى يلائم مجموعاتهم الشعرية العديدة. وتبدو للقارئ بعض الخيوط واضحة في ثنايا قصائده، متسربة من الذات الشاعرة، التي ترصد حالها، وتشي لقارئها بالسبب في ذلك الخفوت الإعلامي، الذي يرجع بعضه إلى الشعراء أنفسهم في "التزام" طريقة متعمدة في الكتابة: "جعلتني أنسى أصحابها/ وأتذكر.../ أن الأيام تمضي وأنا هناك/ أكتب قصائد/ وأضيّعها". جلّ ذلك الضياع هو إنتاج الثقة، التي يتحدث بها رؤساؤهم في العمل، ليساهموا في تسرب العمر من بين الأصابع، في أعمال تنحر شاعريتهم، وتغيّبهم في متاهة التناقضات، التي تعمر رؤوس هؤلاء القائمين عليهم وضمائرهم: "هم قادرون على التزحلق/ رغم آلام الظهر/ وقادرون على التسامح/ عندما تخفت الإضاءة".
تبدو الحالة الشعرية لدى إبراهيم داود متناهية في البساطة، في تفاعله مع اليومي، والتقاط النقاط المضيئة بمغناطيس الشعر من ظلام الواقع المدمر، لإنارة النفس المتذبذبة بين الديني، بمعناه الغيبي، والحياتي، بالإقبال على الملذات، والإنغماس فيها: "أمتلك في الجنّة، ثلاث شقق/ أستمتع بالكسل في الصغيرة/ وأكتب قصائد وحكايات في الثانية/ أضيّعها في الثالثة/ التي بها أنهار من الخمرة". وهو، في التعبير عن الإرث والموروث، يتصرف بدهاء، ليخلّص النفس مما يثقلها، من دون الوقوع في المحظور. ربما خوفاً من أن توصم قصائده باختراق التابوهات، ربما إمتلاكاً لرؤية أوسع، تعبّر بهدوء عما يشغلها، ويؤرقها، بشكل عقلاني، تستريح عليه القصائد، من دون أن تصطدم مع المجتمع المحافظ من حوله، وخصوصاً ما يتعلق بنشأته الريفية.
يسلك داود طريقاً جانبياً، لا يفضي إلى شيء، فيكتشف أنه ضلّل، فينقلب في حال عتاب، على من قادوه إلى ذلك الطريق، وهو المسلك الشعري، الذي رُصف بالنثر، لتتحول علاماته إلى قصائد نثرية، أورقت زهوراً يانعة، جمّلت المشهد الشعري برؤى مغايرة، لا يعترف بها الجيل المتزمت، ممن يجلسون على مقاعد الهيئات الرسمية، المعنية باللحظة الشعرية الراهنة: "سألعن محمد الماغوط/ كلما ابتعدت في العمر/ الرجل الماجن الحنون/ الذي اكتشف للغضب/ مزايا إضافية/ وخبّأ نفسه/ وبصق على المارة". ويدفعه الصدام إلى الفرار من المواجهة، مؤثراً السلامة، وهو هنا يلمس بقوة مكمن الضعف، أو الخيار الإرادي بالإنسحاب، لدى أبناء جيله من شعراء الثمانينات: "أريد أن تشاركني حالة المشي/ التي تنتابني كلما تقدمت في العمر/ الحالة التي أتذكر خلالها... أشياء/ غائمة/ وأقرر ألا أتذكرها بعد ذلك/ وأتذكرها بعد ذلك". تلك المراوغة بين ما يريد، وما لا يريد، ما يجبره على الإنحناء، لتوفير نفقات الحياة اليومية، والمشي على رجلين ليستا له، تقوده في الرؤى الغائمة: "سآخذ البشرية من يدها/ هذا المساء/ سآخذها خارج المدينة/ لأحكي لها عن رحلتنا الأخيرة/ التي فشلنا في اختيار أرجلنا فيها/ عن الفراغ الذي سرق الكلام وهرب".
تتنوع الشظايا المتناثرة التي يطلقها إبراهيم داود في حالة مشيه، فيما هي تحرره في تشظيها من هواجس تتأرجح بين الفوضى والإلتزام، الحيرة والسلام، الخلوة والثرثرة، لتحتل الصورة بأنواعها (التلفزيونية، السينمائية، والفوتوغرافية)، وبملتقطيها، وممثليها، ومخرجها، مكاناً بازراً في واجهة القصائد، ليصل إلى اقتناعه ونصائحه لذاته المستلبة: "عليك أن تربط الأيام في سريرك/ وأنت تداوي جراحك بالطين/ وتلعن الطب.../ والأحزان التي أشعلت الجامعات!".
تبقى الزيارات، التي أفضت إليها قصائد المشي في النهاية، لتبدو صور المدينة باهتة، وليس في مبانيها، وأناسها، وزحامها، ما يبهج، ويجلعها جاذبة لتلك الفراشات الشعرية المحلقة في سمائها، بقدر ما يشكله ليلها وظلامها، من براح وخلاص لذات مأزومة أخرسها شغفها بمحاصرة اللحظة الشعرية وتقطيرها في الروح، كإستخلاص عطر من زهرة ذابلة، لفحها هواء الواقع الحار، وأماتها الإهمال.
فهل صحيح أن "التخلص من أثاث البيت/ يجعل الكلام رطباً/ وافتقاد الموتى/ يبدو طبيعياً"، أم هو نوع من التخبط الذاتي، لجسد ينهكه العيش في مجمتع لا مبال، ينتظر دفقة روح تهزّ سباته، وتعيده الى الحياة؟!